21‏/12‏/2011

رانب، حكيمة الأرانب

هل سمعتم يا أعزائي عن مملكة الأرانب، والأرنب الصغيرة رانب؟ لم تسمعوا بها بعد؟ هيا معي إذن لأقصّها عليكم، وأنصتوا جيّدا لجدّكم الحنون يخبركم عن رانب وصديقها العصفور الحسّون.

كان يا ما كان في قديم الزمان، في سالف العصر والأوان، كانت هنالك، عند سفح هضبة خضراء ظليلة، مملكة جميلة، تسكنها أرانب كثيرة وتعيش فيها أرنب صغيرة، اسمها رانب.

كانت جميع الأرانب في هذه المملكة الصغيرة سعيدة بمحصول الجزر الوفير. فكانت تتناول الجزر في اليوم مرات عديدة، وتسخر من الخضر الأخرى، وتعتقد أنها غير مفيدة.

وكانت الأرانب، بما في ذلك رانب، تجلس طيلة اليوم تتناول الجزر، وتستمع لغناء الحسّون، الواقف على الغصون... ومرّت على ذلك سنون، الأرانب يقضمون الجزر، ولهم يصدح الحسّون بالغناء صبحا ومساء، فبدت المملكة في أرغد عيش وأفضل أجواء، ولا تتوقّع أي خطر..

وذات يوم، يا أعزائي، كانت الصغيرة رانب، تجلس وحدها في الظل، تتأمّل حقول الجزر العامرة وتفكّر ماذا لو نفذ فجأة كل الجزر، فحطّ الحسّون على أحد الغصون، وراقبها مدّة قبل ويقول:

 أيتها الصغيرة رانب، في ما تفكّرين؟
 أليس من الحكمة يا صديقي الحسّون، رغم وفرة الجزر، أن نبقي بعض المؤونة للأيام الأخر..
 أصبت يا صديقتي، حتى إذا جاء اليوم الموعود، وجدت الأرانب ما يسد الرمق ويقيم الأود

فرحت رانب بموافقة صديقها الحسّون على فكرتها، وطلبت منه أن يخبر بها الجميع حتى يشاركوها التفكير والتدبير. فطار الحسّون وحطّ على غصن قرب مجموعة من الأرانب تعبث بالجزر تتسابق في رميها فوق كومة تعادل الهضبة في ارتفاعها.

راقبهم الحسّون قليلا، ثم قال لهم:
 أيتها الأرانب الحكيمة إن الصغيرة رانب تطلب رأيكم
 في أي شأن؟ قال أرنب بني
 إنها تريد أن تقنعكم بتناول الخضر والبقول، قال الحسّون
 الخضر والبقول؟ هل جنّت الصغيرة؟ قال أرنب آخر
 لم تجنّ رانب، لكنها تفكّر في يوم قد يأتي فلا تجدون فيه جزرة واحدة؟
فأجانبه أرنب كبير:
 لن ينفذ كلّ هذا الجزر، وإن نفذ فسنرحل بعيدا لنبحث عن المزيد منه
فقال الحسّون:
 كيف تتركون مملكتكم ورانب وحدها؟
فقال أرنب آخر:
 لم تعد منا مادامت تريد أن تغيّر عاداتنا

وعبثا حاول الحسّون إقناعهم، وهكذا بقيت الأرانب، يا أحفادي تقضم الجزر وكأنها لم تسمع ما قاله العصفور، فقد تعوّدت أن تسمع صوته في الغناء ولم تتوقّع منه أن يصبح من النصحاء.

ورجع الحسّون إلى الصغيرة رانب ليخبرها عن ردّ فعل الأرانب. فصمتت قليلا تفكّر، ثم قالت:
 علينا أن نساعدهم ليفكّروا في غدهم، فمن الحكمة التفكير في العشاء قبل الغذاء، حتى لا يشمت فينا الأعداء، ويأتي يوم نجوع فيه ويضعنا الثعلب في فيه..
 نعم الرأي يا صغيرة، ولو أردت النصيحة والمشورة، فإنني أرى أن نخفي جزءا من المحصول، ونملأ الحقول بالخضر والبقول
 ونقنعهم بالتقليل من تناول الجزر، ففي عدم التنويع في الأكل يكمن الخطر
 ولكن كيف نقنعهم بالتغيير، وهم في حياتهم لم يتذوّقوا غير الجزر
 بالتدريج تتغيّر العادات، قالت رانب

وهكذا يا أحفادي، بدأت رانب وصديقها الحسّون يعملان بجد واجتهاد ليلا ونهارا، ليخفيا الجزر في الحفر.. وذات يوم انتبه لهما أرنب صغير، اقتنع بفكرتهما وتطوّع لمساعدتهما، والتحق به بعض أصدقائه، وتضاعف العدد حتى تكوّن فريق للعمل، فجمعوا مؤونة تكفي لأكثر من شهر، وحرثوا الأرض وزرعوها بمختلف الخضر والبقول.


وفيما هذا الفريق منشغل بالحرث والزرع، كانت الأرانب تجتمع كل يوم فتتناول الجزر دون التفكير في الخطر، إلى أن جاء يوم.. فهل تعرفون يا أعزائي ماذا حدث لهم في ذلك اليوم؟

كان أحد الأرانب الصغيرة يلهو مع أترابه قرب جحره، فأغمي عليه، وبقي مدّة فاقد الوعي. جزعت الأرانب كلّها، وأحضروا الطبيب الذي أخبرهم أن هذا الأرنب الصغير لن يشفى إلا إذا تناول غذاء مختلفا ومتنوّعا. سخرت الأرانب من كلام الطبيب، وأكّدت له أن الأرانب، منذ أن خلقت، لا تقتات إلا على الجزر، وأنها ترفض تغيير عاداتها وعادات أجدادها.

قال أرنب بني:
 أنا أتناول البصلا، أو طماطم؟ أفضّل الموت على ذلك
وقالت أرنبة بيضاء:
 إن مجرد سماعي لاسم القثاء أو اليقطين يثير اشمئزازي...

وتوالت الأرانب على التعبير عن استهزائها بالبقول والخضروات.

ويوما بعد يوم ارتفع عدد الأرانب الصغيرة التي لا تقدر على اللهو ويغمى عليها... لم يبقى في مملكة الأرانب أرنب صغير لم يمرض بذلك المرض الغريب الذي يجعل الجسم هزيلا، والوجه شاحبا والعيون غائرة... ومع ذلك استمرت الأرانب في عنادها، وعالجت صغارها تارة بعصير الجزر، وطورا بمراهم الجزر، وغيرها من الأدوية المشتقة من الجزر، ولم يفدها ذلك في شيء... إلى أن نفذ كلّ ما الحقول من جزر.

هل أخبركم يا أحبتي ماذا فعلت الأرانب عندما نفذ كل الجزر، ولم تجد حتى جزرة صغيرة واحدة لتتقاسمها. لقد ذهبت الأرانب للحكيمة رانب تعتذر..

وقال الأرنب المرقّط الكبير:
 أعذرينا يا رانب، لقد كنا مخطئين
وقالت أرنبة صهباء:
 لقد ظلمناك وسخرنا منك يا حكيمتنا، ونعوّل على طيبتك
وقال أرنب بني:
 لقد سمعنا أنك أخفيت الكثير من الجزر، فهل تعطيننا منه قدر حاجتنا
فأجابتهم رانب:
 أنتم أهلي وإخوتي، لقد فعلتم ما كنتم به مقتنعون، وقمت أنا ومن معي بإنجاز خطتنا التي نحن بها مؤمنون
فقال أرنب الرمادي:
 فهل ستساعديننا
فقالت رانب:
 طبعا سأساعدكم، ولكن قبل أن أعطيكم الجزر، سأمتحنكم
فقالت الأرانب:
 امتحان؟ أي امتحان؟
 سأعطيكم بعض الخضر المختلفة لتناولها مدّة خمسة أيام، قالت رانب

فهاجت الأرانب وماجت، بين مؤيّد ورافض لفكرة الامتحان، ومندّد باستيلاء رانب على محصول الجزر.. تصوّروا يا أحفادي، أن الأرانب اتهمت رانب بسرقة الجزر وإخفاءه لتجبرها على تناول الخضر.. ومع ذلك لم تغضب منهم رانب، بل انتظرت أن يقولوا كلّ ما لديهم، وعندما فرغوا من اتهاماتهم، قالت لهم:

 يا أيتها الأرانب الطيبة، إن أنا أعطيتكم كلّ مخزون الجزر فسينفذ حتما في غضون أيام قليلة، ولكن ما رأيكم لو أعطي لكلّ منكم جزرة واحدة مع بعض الخضر، فمن لم تكفه جزرة واحدة في اليوم، عليه أن يجرّب تناول الخضر والبقول في انتظار جزرة اليوم الثاني، وذلك لمدّة خمسة أيام..

بعد نقاشات طويلة وافقت الأرانب على مضض، فوزّعت عليهم رانب مع صديقها الحسّون وفريقها من الأرانب جزرة واحدة لكلّ أرنب، وأربعة أصناف مختلفة من الخضر والبقول. فأخذت الأرانب حصتها من الغذاء وهي تتخوّف من خوض التجربة.

وككلّ البدايات، يا أحبّتي، لم تستسغ الأرانب في اليوم الأوّل مذاق اللفت، ولا اليقطين، حتى أن بعضهم أحسّ بآلام في بطنه بعد تناول السبانخ، وقرّر العديد منهم الاكتفاء بأكل الجزر. وفي اليوم التالي تغلّب الجوع على الكثيرين الذين اضطرّوا لتناول البطاطا والملفوف مع الجزرة اليومية الواحدة.

كانت الأرانب تتناول طعامها بتقزّز، وكأن شيئا ما في حلوقها يمنع الخضر من الوصول إلى بطونها بسهولة. وفي اليوم الثالث، بدأت بعض الأرانب تستسيغ مذاق الكرّاث والخيار. أما في اليوم الرابع، فقد نسيت بعض الأرانب أن تطلب الجزر. وفي اليوم الخامس أجمع الكلّ أن الأرانب الصغيرة بدأت تتعافى من الداء الذي أصابها ولم تعد تشعر بالإرهاق لأدنى مجهود، حتى أنّ هنالك بعض الأرانب التي أكّدت أن وجوه أبناءها بدأت تتورّد..

وفي الأثناء كانت الحكيمة رانب تواصل حرث الأرض وزراعتها بمختلف أنواع الخضروات، وبدأ الفريق الذي يعمل معها يتوسّع.

وهل تعرفون يا أحفادي كيف انتهت هذه القصّة؟ لقد صارت الأرانب تأكل كلّ الخضر والبقول والغلال. وهي طبعا لم تتخلى عن الجزر أكلتها المفضّلة، ولكنها تعوّدت أن تنوّع طعامها، فتتناول على الأقلّ خمس أنواع من الخضر والبقول والغلال في اليوم. وأعلنت يوما ملكيا للجزر، وعدّة أعياد أخرى لبقية الخضر، وتعلّمت أن لا تبذّر محصولها مهما كان وفيرا وأن لا تستهين برأي أي أرنب مهما كان صغيرا.


تونس، أكتوبر 2010

5‏/12‏/2011

عبّاد شمس

نور ذهبي دافئ أضاء جدران الحجرة. نظر قليلا من بلّور النافذة. لم يرى الشمس. رغم إحساسه بوجودها في مكان ما. ربّما في قطعة من السماء خلف إحدى البنايات. عاد ببصره داخل جدرانه وغمرته سعادة لم يتبيّن مصدرها. وخطرت له فكرة. ودّ لو يسقي زهرات عبّاد الشمس. غير أنه فكّر بأن ذلك سيؤدي حتما إلى تلفها. تأمّلها مليا. اثنتي عشرة زهرة بأحجام وأوضاع مختلفة. استعصت على التصفيف، فوقفت خجولة، مرتبكة، متشابكة السيقان في مزهرية الفخار ذات اللون العاجي. لاحظ أن زهرة صغيرة، رفيعة العود توشك أن تنكفئ على وجهها. في حين تدير زهرتان كبيرتان وجهيهما إلى الحائط تتأمّلان تدرّج الأزرق على الحائط الجيري.
رغب في تغيير وضعية المزهرية، حتى يتمكّن من رؤية جانبها قبالة الحائط المشرق. غير أنه سمع وقع خطوات تقترب. تلهى بتأمّل الزهرة الصغيرة بلونها الأصفر الهادئ وهي بالكاد تقاوم السقوط من الإطار المعلّق، لتقع على المفرش. مشاعر من الأبوّة الصادقة ربطته للحظات مع هذه الزهور المتشابكة، بمختلف تدرّج لونها الأصفر المتجانس مع البني والأخضر وبعض السواد. طُرق الباب برفق. دلفت الحجرة بخفة، فتدفّق معها شلال من الفرح والنور. كانت تحمل في يدها باقة صغيرة من البنفسج. ارتمت في حضنه مستخفة بتحذيرات الطبيب. غمرته بالقبل وقالت بحماستها المعتادة:
- .. كم اشتقت إليك يا أبي.. ستغادر اليوم هذه الحجرة، وهذه المصحة...
بادلها العناق، وسألها:
- هل يمكن أن نأخذ معنا مزهرية عبّاد الشمس؟
وشى وجهها بالاستغراب والألم، فقال لها وهو يكتم نشيجا خفيا:
- إذن أطلبي منهم أن يعتنوا بها، أخشى أن تذبل الزهرة الصغيرة، وتموت على المفرش... دون أن تضمها يد...
روضة السالمي، تونس 2011



24‏/11‏/2011

يزن معجب بشارب مياو

يجلس يزن على الأريكة وبقربه مياو نائمة. يحاول يزن أن يتابع باهتمام برنامجه المفضل في التلفزة، غير أنه لا يستطيع التركيز. يقرر أن يطلب من والده اللعب معه. ينهض فتتبعه مياو وهي تمط جسمها الناعم وتتثاءب. عدنان في الحمام ، يحلق ذقنه بعناية. يتأمل يزن والده بصمت ثم يناديه:
- بابا..
- نعم. يجيبه عدنان محاولا ألا يجرح نفسه
- بابا لماذا تحلق ذقنك؟
توقف عدنان عن الحلاقة، نظر لنفسه في المرآة، ثم التفت الى يزن مبتسما، وأجابه:
- لأنني رجل.. أنا أحلق ذقني لأنني رجل.
صمت يزن قليلا ثم سأل:
- يعني أن ماما لا تحلق ذقنها مثلك؟
- طبعا، أجابه عدنان، فهي أنثى والإناث عادة لا تنبت لهن ذقون.
صمت يزن مجددا، ثم سأل:
- بابا، لماذا إذن ينبت لمياو ذقن في حين أنها أنثى؟
- حسن، قال عدنان وهو يضع الفوطة على كتفه، معك حق، لكن الشعرات الطويلة التي وجه مياو تختلف عن ذقني
- وكيف ذلك يا بابا؟
- لأن شارب مياو وكل القطط ليس للزينة مثلما هو الحال بالنسبة إلى الرجال
- وما نفعه إذن هذا الشارب؟
- القطط وعديد الحيوانات الأخرى تعتمد كثيرا على شاربها في التنقل والحركة
يضحك يزن مما سمعه، ويقول:
- إن ذلك مضحك يا بابا، هل تمشي القطط بشواربها؟
- هي لا تستعمله في المشي يا عزيزي، فلديها أربعة قوائم، وإنما يمكّنها شاربها من الإحساس بالأشياء من حولها..
- إن ذلك غريب حقا، قال يزن مندهشا، كيف تحس مياو بفضل شواربها؟
وضع عدنان يده على كتف يزن، وخرجا من الحمام نحو الصالون، تتبعهما مياو، وهي تتمسح بهما.
قال عدنان:
- اسمع يا عزيزي، تعرف أنني أستعمل نظارة طبية لأتمكن من القراءة ورؤية الأشياء بوضوح
- أجل أبي، وماما كذلك ترتدي نظارات طبية
- جيد جدا، تعرف إذن بأن هنالك أناس بحاجة للاستعانة بنظارات طبية مناسبة لتوضيح رؤيتهم
- نعم بابا
- القطط كذلك، تعتمد على شواربها لتتمكن من تقدير الأشياء من حولها
- انه شيء مذهل، يعني أن مياو ترى من خلال شاربها؟ إنه لأمر مدهش
- ليس تماما يا يزن، إن مياو تستعمل ذقنها ككشاف خلال الظلام، فتتمكن من التحرك من دون الاصطدام بالأشياء، ويساعدها بالخصوص في تقدير حجم المكان الذي تريد أن تدخل إليه.
- وكيف ذلك يا بابا؟ سأل يزن وهو يداعب مياو
- عندما يلمس شارب مياو جوانب حفرة ما، فإن ذلك يعني بأن هذه الحفرة ضيقة، ولا تتسع له، وأن هنالك إمكانية لتعلق داخلها.
- فهمت. يعني إذا لم تلمس شواربها جوانب الحفرة تتأكد أنها تتسع لها ويمكنها اقتفاء أثر الفئران
- بالضبط، يعني تعتمد القطط على شواربها لتحديد امكانيات مرورها من الأماكن الضيقة، وهو عضو هام بالنسبة إليها، لو فقدته، صعب عليها التنقل بخفة من مكان إلى آخر وقد تعلق في حفرة ضيقة
- حسن يا أبي، سأوصي مياو بألا تحلق شاربها أبدا
- يضحك عدنان، ويربت على رأس يزن، في حين يأتي صوت درصاف من غرفة النوم:
- عدنان، أرجوك ساعدني على قفل هذا الفستان، إنه يبدو ضيقا جدا...
ابتسم عدنان، في حين قال يزن بجدية
- أعتقد أنه على ماما أن تستعير شوارب مياو، لتعرف إن كان الفستان يناسبها أم لا قبل أن ترتديه...
روضة السالمي، تونس، 2005


15‏/11‏/2011

لسان الدين بن الخطيب


جـادَكَ  الـغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى      يـا زَمـانَ الـوصْلِ بـالأندَلُسِ
لـمْ  يـكُنْ وصْـلُكَ إلاّ حُـلُما      فـي  الـكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ
إذْ  يـقودُ الـدّهْرُ أشْـتاتَ المُنَى      تـنْقُلُ الـخَطْوَ عـلَى مـا يُرْسَمُ
زُفَــراً  بـيْنَ  فُـرادَى وثُـنَى      مـثْلَما يـدْعو الـوفودَ الـموْسِمُ
والـحَيا قـدْ جـلّلَ الرّوضَ سَنا      فـثُـغورُ  الـزّهْرِ فـيهِ تـبْسِمُ
ورَوَى  الـنّعْمانُ عـنْ ماءِ السّما      كـيْفَ  يـرْوي مـالِكٌ عنْ أنسِ
فـكَساهُ الـحُسْنُ ثـوْباً مُـعْلَما      يـزْدَهـي مـنْهُ بـأبْهَى مـلْبَسِ
فـي لَـيالٍ كـتَمَتْ سـرَّ الهَوى      بـالدُّجَى  لـوْلا  شُـموسُ الغُرَرِ
مـالَ نـجْمُ الـكأسِ فيها وهَوى      مُـسْتَقيمَ  الـسّيْرِ سـعْدَ الأثَـرِ
وطَـرٌ  مـا فـيهِ منْ عيْبٍ سَوَى      أنّــهُ  مــرّ كـلَمْحِ الـبصَرِ
حـينَ  لـذّ الأنْسُ مَع حُلْوِ اللّمَى      هـجَمَ  الـصُّبْحُ هُـجومَ الحرَسِ
غـارَتِ  الـشُّهْبُ  بِـنا أو ربّما      أثّـرَتْ فـيها عُـيونُ الـنّرْجِسِ
تـنْهَبُ الأزْهـارُ فـيهِ الـفُرَصا      أمِـنَتْ مـنْ مَـكْرِهِ مـا تـتّقيهْ
فـإذا الـماءُ تَـناجَى والـحَصَى      وخَــلا  كُـلُّ خَـليلٍ بـأخيهْ
تـبْـصِرُ الـورْدَ غَـيوراً بـرِما      يـكْتَسي مـنْ غـيْظِهِ ما يكْتَسي
وتَــرى  الآسَ لَـبـيباً فـهِما      يـسْرِقُ الـسّمْعَ بـأذْنَيْ فـرَسِ
يـا  أُهَـيْلَ الحيّ منْ وادِي الغضا      وبـقـلْبي  مـسْكَنٌ  أنْـتُمْ بـهِ
ضاقَ عْنْ وجْدي بكُمْ رحْبُ الفَضا      لا  أبـالِـي شـرْقُهُ مـنْ غَـرْبِهِ
فـأعِيدوا عـهْدَ أنْـسٍ قدْ مضَى      تُـعْـتِقوا عـانِيكُمُ مـنْ كـرْبِهِ
واتّـقـوا  اللهَ  وأحْـيُوا مُـغْرَما      يـتَـلاشَى  نـفَساً فـي نـفَسِ
وبـقَـلْبي  مـنْـكُمُ مـقْـتَرِبٌ      بـأحاديثِ الـمُنَى وهـوَ بَـعيدْ
قـمَـرٌ أطـلَـعَ مـنْهُ الـمَغْرِبُ      بـشِقوةِ الـمُغْرَى بـهِ وهْوَ سَعيدْ
قـد  تـساوَى  مُحسِنٌ أو مُذْنِبُ      فـي  هَـواهُ مـنْ وعْـدٍ ووَعيدْ
سـاحِرُ  الـمُقْلَةِ مـعْسولُ اللّمى      جـالَ فـي الـنّفسِ مَجالَ النّفَسِ
سـدَّدَ الـسّهْمَ وسـمّى ورَمـى      فـفـؤادي نُـهْـبَةُ الـمُـفْتَرِسِ
إنْ  يـكُنْ  جـارَ وخـابَ الأمَلُ      وفـؤادُ  الـصّبِّ بالشّوْقِ يَذوبْ
فـهْـوَ لـلـنّفْسِ حَـبيبٌ أوّلُ      لـيْسَ فـي الحُبِّ لمَحْبوبٍ ذُنوبْ
أمْـــرُهُ  مـعْـتَمَدٌ مـمْـتَثِلُ      فـي ضُـلوعٍ قـدْ بَراها وقُلوبْ
حـكَمَ الـلّحْظُ بِـها فـاحْتَكَما      لـمْ يُـراقِبْ فـي ضِعافِ الأنْفُسِ
مُـنْصِفُ الـمظْلومِ مـمّنْ ظَـلَما      ومُـجازي  الـبَريءِ منْها والمُسي
مـا  لـقَلْبي كـلّما هـبّتْ صَبا      عـادَهُ عـيدٌ مـنَ الشّوْقِ جَديدْ
كـانَ  فـي الـلّوْحِ لـهُ مكْتَتَبا      قـوْلُـهُ  إنّ عَـذابـي لَـشديدْ
جـلَـبَ  الـهمَّ لـهُ والـوَصَبا      فـهْوَ  لـلأشْجانِ  في جُهْدٍ جَهيدْ
لاعِـجٌ  فـي أضْـلُعي قدْ أُضْرِما      فـهْيَ نـارٌ فـي هَـشيمِ اليَبَسِ
لـمْ يـدَعْ فـي مُـهْجَتي إلا ذَما      كـبَقاءِ  الـصُّبْحِ بـعْدَ الـغلَسِ
سـلِّمي  يـا نفْسُ في حُكْمِ القَضا      واعْـمُري  الوقْتَ  برُجْعَى ومَتابْ
دعْـكَ  منْ ذِكْرى زَمانٍ قد مضى      بـيْنَ عُـتْبَى قـدْ تقضّتْ وعِتابْ
واصْـرِفِ القوْلَ الى المَوْلَى الرِّضى      فـلَهُم الـتّوفيقُ فـي أمِّ الكِتابْ
الـكَـريمُ الـمُـنْتَهَى والـمُنْتَمَى      أسَـدُ الـسّرْحِ وبـدْرُ الـمجْلِسِ
يـنْـزِلُ  الـنّصْرُ عـليْهِ مـثْلَما      يـنْزِلُ الـوحْيُ بـروحِ الـقُدُسِ
مُـصْطَفَى اللهِ سَـميُّ الـمُصْطَفَى      الـغَنيُّ بـاللّهِ عـنْ كُـلِّ أحَـدِ
مَـنْ إذا مـا عـقَدَ الـعهْد وَفَى      وإذا مـا فـتَحَ الـخطْبَ عـقَدْ
مِـنْ بَـني قـيْسِ بْنِ سعْدٍ وكَفى      حـيْثُ  بيْتُ النّصْرِ مرْفوعُ العَمَدْ
حـيث بـيْتُ النّصْرِ محْميُّ الحِمَى      وجَـنى  الـفَضْلَ  زكـيُّ المَغْرِسِ
والـهَـوى ظِـلٌّ ظَـليلٌ خـيَّما      والـنّدَى هـبّ الـى الـمُغْتَرَسِ
هـاكَها  يـا سِـبْطَ أنْصارِ العُلَى      والـذي  إنْ  عـثَرَ الـنّصْرُ أقالْ
عــادَةٌ ألْـبَسَها الـحُسْنُ مُـلا      تُـبْهِرُ  الـعيْنَ جَـلاءً وصِـقالْ
عـارَضَتْ  لـفْظاً ومـعْنىً وحُلا      قـوْلَ مَـنْ أنـطَقَهُ الـحُبُّ فَقالْ
هلْ  دَرَى  ظبْيُ الحِمَى أنْ قد حَمَى      قـلْبَ  صـبٍّ حـلّهُ عنْ مَكْنِسِ
فـهْوَ فـي خَـفْقِ وحَـرٍّ مـثلَما      ريـــحُ الـصَّـبا بـالـقَبَسِ

2‏/11‏/2011

ودّعْ لميسَ وداعَ الصّارمِ اللاحِي

هذه القصيدة هي لأوس بن حَجَر(95 - 2 ق. هـ / 530 - 620 م) من شعراء تميم في الجاهلية، عمّر طويلاً ولم يدرك الإسلام، في شعره حكمة ورقة وغزل، وكانت تميم تقدمه على سائر الشعراء العرب.. وفي رواية أخرى، تنسب هذه القصيدة لعبيد بن الأبرص وهو شاعر جاهلي من شعراء الطبقة الأولى، قتله النعمان بن المنذر حينما وفد عليه في يوم بؤسه.

ودّعْ لميسَ وداعَ الصّارمِ اللاحِي

ودّعْ لميسَ وداعَ الصّارمِ اللاحِي ***  إذْ فنّكتْ في فسادٍ بعدَ إصْلاحِ
إذْ تستبيكَ بمصقولٍ عوارضُهُ  ***  حمشِ اللّثاتِ عذابٍ غيرِ مملاحِ
وقدْ لهوتُ بمثلِ الرّثمِ آنسة ٍ  ***  تُصْبي الحليمَ عَرُوبٍ غير مِكْلاحِ
كأنّ رِيقَتَها بعد الكَرَى اغْتَبَقَتْ  ***  من ماءِ أصْهَبَ في الحانوتِ نَضّاحِ
أوْ منْ معتّقة ٍ ورهاءَ نشوتُها  ***  أوْ منْ أنابيبِ رمّانٍ وتفّاحِ
هبّتْ تلومُ وليستْ ساعة َ اللاحي  ***  هلاّ انتظرتِ بهذا اللّومِ إصباحي
إنْ أشْرَبِ الخَمْرَ أوْ أُرْزَأ لها ثمَناً  ***  فلا محالَة َ يوماً أنّني صاحي
ولا محالَة َ منْ قبرٍ بمحنية ٍ  ***  وكفنٍ كسرَاة ِ الثورِ وضّاحِ
دَعِ العَجوزَيْنِ لا تسمعْ لِقِيلهما  ***  وَاعْمَدْ إلى سيّدٍ في الحيّ جَحْجاحِ
كانَ الشّبابُ يلهِّينا ويعجبُنَا  ***  فَمَا وَهَبْنا ولا بِعْنا بِأرْبَاحِ
إنّي أرقتُ ولمْ تأرقْ معِي صاحي  ***  لمستكفٍّ بعيدَ النّومِ لوّاحِ
قد نمتَ عنّي وباتَ البرقَ يُسهرني  ***  كما استْتَضاءَ يَهوديٌّ بِمِصْباحِ
يا منْ لبرقٍ أبيتُ اللّيلَ أرقبُهُ  ***  في عارِضٍ كمضيءِ الصُّبحِ لمّاحِ
دانٍ مُسِفٍّ فوَيقَ الأرْضِ هَيْدبُهُ  ***  يَكادُ يَدفَعُهُ مَن قامَ بِالرّاحِ
كَأنّ رَيِّقَهُ لمّا عَلا شَطِباً  ***  أقْرَابُ أبْلَقَ يَنْفي الخَيْلَ رَمّاحِ
هبّتْ جنوبٌ بأعلاهُ ومالَ بهِ  ***  أعجازُ مُزنٍ يسُحّ الماءَ دلاّحِ
فالْتَجَّ أعْلاهُ ثُمّ ارْتَجّ أسْفَلُهُ  ***  وَضَاقَ ذَرْعاً بحمْلِ الماءِ مُنْصَاحِ
كأنّما بينَ أعلاهُ وأسفلِهِ  ***  ريطٌ منشّرة ٌ أو ضوءُ مصباحِ
يمزعُ جلدَ الحصى أجشّ مبتركٌ  ***  كأنّهُ فاحصٌ أوْ لاعبٌ داحي
فمَنْ بنجوتِهِ كمَنْ بمحفلِهِ  ***  والمُستكنُّ كمَنْ يمشي بقرواحِ
كأنَّ فيهِ عشاراً جلّة ً شُرُفاً  ***  شُعْثاً لَهَامِيمَ قد همّتْ بِإرْشاحِ
هُدْلاً مَشافِرُهَا بُحّاً حَنَاجِرهَا  ***  تُزْجي مَرَابيعَها في صَحصَحٍ ضاحي
فأصْبَحَ الرّوْضُ والقِيعانُ مُمْرِعة ً  ***  منْ بين مرتفقٍ منها ومُنطاحِ
وقَدْ أرَاني أمامَ الحيِّ تَحْملُني  ***  جلذيّة ٌ وصلتْ دأياً بألواحِ
عَيْرانَة ٌ كَأتانِ الضّحْلِ صَلّبَهَا  ***  جرمُ السّواديِّ رضّوهُ بمرضاحِ
سقَى ديارَ بني عوفٍ وساكنَهَا  ***  وَدَارَ عَلْقَمَة ِ الخَيْرِ بنِ صَبّاحِ

الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل للبنك العربي لتونس 2011

                                                      بـــلاغ

يعلن البنك العربي لتونس (بالتعاون مع اللجنة الثقافية بالمنازه) عن فتح باب الترشح للجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل لسنة 2011 أمام كل المبدعين العرب وفقا للبيانات التالية :
-       تخص جائزة 2011 التأليف الأدبي ( القصة) الموجه للناشئة : من 12 إلى 15 سنة.
-       ينبغي أن يتراوح طول النص المرشح ما بين 30 إلى 60 صفحة من الحجم العادي
-       أن تكون القصة المرشحة:
                     -  محررة باللغة العربية الفصحى ومن تأليف شخص واحد
       -  تأليفا مبتكرا (لا مقتبسا ولا مترجما) غير منشور سابقا ولم يحصل على أية
          جائزة أدبية بما في ذلك جائزة مصطفى عزوز لأدب الطفل في دوراتها السابقة.
      -  مرقونة في 05 (خمسة) نظائر و مخزنة في قرص مضغوط دون ذكر إسم  المؤلف.

-       لا يحق لمن سبق له الفوز بالجائزة المشاركة من جديد في المسابقة.
-       لا يحق لأعضاء لجنة التحكيم المشاركة في المسابقة خلال الدورة التي يعهد إليهم فيها بالتحكيم
-       الأعمال المرشحة لا تعاد لأصحابها في أية حالة من الحالات.

   - حددت القيمة المالية للجائزة كما يلي :

§        الجائزة الأولى  7000.0000  د ت
§        الجائزة الثانية : 4500,000  د ت
§        جائزتان تشجيعيتان بقيمة 500.000 د. ت ( للجائزة الواحدة ) لفائدة الطلبة
§        جائزتان تشجيعيتان بقيمة 250.000 د. ت ( للجائزة الواحدة ) لفائدة التلاميذ

   -    يتولى البنك العربي لتونس طباعة ونشر الأعمال الفائزة .
    -  يتسلم صاحب القصة المطبوعة 50 (خمسين) نسخة ويتعهد بعدم نشرها في جهة أخرى لمدة
        سنة ابتداء من حصوله على الجائزة

-       ترسل الأعمال المرشحة بواسطة البريد على العنوان التالي : البنك العربي لتونس – "الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل" ص ب عدد 196 المنزه السادس 2091 – في أجل أقصاه 10 جانفي 2012.
-       يحتوي ملف الترشح على مطلب محرر من قبل المترشح يذكر فيه رغبته في المشاركة ذكر الإسم الكامل ومكان الميلاد والمهنة مع ترجمة ذاتية مختصرة ورقم الهاتف (القار أو الجوال) والعنوان البريدي، العنوان الإلكتروني إن أمكن وصورة فوتوغرافية حديثة العهد.
-       يترتب عن عدم احترام شروط المسابقة إلغاء مشاركة المترشح.

يتم الإعلان عن نتائج مسابقة الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل 2011 خلال حفل ثقافي يتولى البنك العربي لتونس تحديد موعده ومكانه والإعلان عنه بوسائل الإعلام وإبلاغ الفائزين بواسطة مراسلة مضمونة الوصول.

1‏/11‏/2011

نصــ...وص روضة السالمي: أبنوس وعاج

نصــ...وص روضة السالمي: أبنوس وعاج: جلس منتصبا يلتحف السواد. مدّ أصابعه الطويلة. أغمض عينيه. وضغط برفق على الأصابع البيضاء الرقيقة الممتدّة أمامه. أحسّ برجفة في أطرافه. وسرى ال...

أبنوس وعاج

جلس منتصبا يلتحف السواد. مدّ أصابعه الطويلة. أغمض عينيه. وضغط برفق على الأصابع البيضاء الرقيقة الممتدّة أمامه. أحسّ برجفة في أطرافه. وسرى الدفء في الأصابع البيضاء الباردة، فانسجمت مع حركات أصابعه الرشيقة، وغمرت المكان أصوت هامسة تشي بالنشوة. وسرت رعشة في الأوصال.
استعمل كلّ جسده للتعبير عما يخالجه من مشاعر. وتوهّجت عيناه من السعادة. عمّت البهجة أرجاء المكان. رقص نوّاس الساعة. وغمز الضوء بعينه الدامعة المتلألئة. أغراه السواد في التوغّل في أعماق الحلم. لامس اللون برفق. فتردّدت أصداء هامسة. تقوّس ظهره. اختلجت أصابعه، وكأنها لامست جمرا ملتهبا. تراقصت في امتداد أفقي. تلاقت. تباعدت. ثم عادت لتتعانق. نشجت الساعة. وغرق الضوء في حزنه. انقبضت أوتار القلب واهتزت. فارتمى على سجادة المشاعر العميقة الخافتة مليئا بالبهجة.
وفي لحظة خاطفة تعانق العاج والأبنوس. وسرت الذبذبات في كلّ اتجاه. والتقت في نقطة وسطى. لا تنتمي لشمال أو جنوب. لم تحدّدها سوى ملامح خشب اللحظة الخافتة. وبعد أن استكانت لغة المشاعر. وقف. ثم انحنى قليلا واختفى خلف الستارة الحمراء التي أجهشت بالبكاء.
روضة السالمي، تونس 2011، من مجموعة أبعد من اللون

28‏/10‏/2011

نصــ...وص روضة السالمي: السور

نصــ...وص روضة السالمي: السور: - ماذا تصنع يا مرزوق؟ كان العم سالم حلاق القرية يمرّ سريعا حين أبصر مرزوقا ينبش بأظفاره تراب السور. - مرزوق.. ألا تسمعني؟...

السور

 -         ماذا تصنع يا مرزوق؟
كان العم سالم حلاق القرية يمرّ سريعا حين أبصر مرزوقا ينبش بأظفاره تراب السور.
-         مرزوق.. ألا تسمعني؟
بقيت كلمات العم سالم معلّقة بالهواء المعفّر بالغبار. لم يجبه مرزوق. كان يبدو عليه التعب. لكن حركاته العصبية، وثيابه المعفّرة كانت تؤكّد أنه ليس على استعداد للحديث مع أي أحد. لذلك ضرب العم سالم كفّا بكفّ وانطلق سريعا يريد الوصول إلى غاية لا يعلمها إلاّ هو...
نفض مرزوق التراب عن يديه، ووقف لاهثا مفكّرا في كيفية مضاعفة سرعة الحفر. السور رمادي بارد متماسك وصلب، نتؤاته حادّة كالنصال. تمزّق لحم من يحاول التمسّك بها للتسلّق. ومرزوق فقد إصبعه وهو يحاول تسلّقه. كان ذلك منذ زمن. أربع أو خمس سنوات ربّما. وقت كاف لتندمل الجروح التي أصابته وليؤمن بأن فقد أصبعه حقيقة واقعة.
لم يحاول قبلا تسلّق السور. المسألة لم تكن واردة. فقد كان للسور باب كبير يخرج ويدخل الناس منه كلّما اقتضت الحاجة ذلك. خشب الباب ضارب في القدم. استحال لونه إلى رمادي شاحب بفعل الشمس اللافحة والرياح المحمّلة رملا وغبارا وعفونة.
وحده مرزوق كان يكره العبور خلال الباب. كان يحسّ دوما بالصدمة وهو يكتشف للمرّة الألف أو أكثر أن ما يفضي إليه الباب شبيه بطريقة مفجعة بما خلف. وكأنه باب في فضاء واحد فسيح كسيح منكسر. وربما تلك الردهة الصغيرة المظلمة التي تسبق المخرج المؤدي إلى الفضاء الفسيح أو صوت المزلاج وهو يفتح ثم صرير الباب وهو يئن لتنفتح أو ليغلق كان يعطيه انطباعا غائما بأنه في ردهة سجن واحد.مرزوق ليس مجنونا. فقط كان لديه كره فطري تجاه الأبواب التي لا تفضي إلى شيء سوى المشاهد الممسوخة المتكرّرة.
ابتعد مرزوق قليلا عن السور. عاين للمرّة الألف ارتفاعه. تأمّل حجارته الصلدة. ثمّ صرّ أسنانه وعاود الانحناء ليحفر من جديد. فكّر بأن أصابعه التسعة بإمكانها أن تثأر لإصبعه المبتور. جدار السور يمتد عرضه إلى أكثر من متر. والتراب متكلّس وعقيم. ولكن مرزوق استطاع أن يوسّع الحفرة التي ابتدأها حتى تتسع له لكي يبدأ في مرحلة ثانية تعميق الحفرة ليصل إلى الضفة الأخرى. هكذا كان يسميها "الضفة الأخرى". أرضه الموعودة.
سكنه هذا الهاجس منذ زمن.. ابتدأ خلطا غريبا بين الحلم والرهبة والرجاء. كثيرا مع سمع الآخرين يتحدّثون عن الجنة. وكان مرزوق يفكّر بأنّ جنته هو لا يمكن أن تشبه تلك التي يتحدثون عنها. حاول مرزوق في تلك الأيام البعيدة أن يرسم في ذهنه جنتهم التي يحلمون بها. وكانت تخرج في أحلامه مشوّهة ممسوخة لا تمتّ إليه بصلة. كانت كابوسا يثقل صدره.منعه التفكير بالجنة من النوم زمنا. شوّش صفاء ذهنه. وكان يصغي بسمعه إلى حديثهم عن ذلك الزمن العجيب المرتبط بأفق لا متناهي.
نبش التراب بأظفاره. وخز الشوك لم يعد يؤثّر فيه. عليه أن يسرع في الحفر. فكّر أنّ ذلك قد يستغرق نحو ستّة أيام. وأنّه في اليوم السابع سيتربّع على عرش الريح ويستعرض جنّته الخصوصية.الشمس توشك على الغروب. ومرزوق منحني على حفرته التي بدأت تتسع. مرّ بعض الناس حذوه. من بينهم الشيخ مختار. توقّفوا بإزائه قليلا. تأملوه وهو يحفر. تهامس بعضهم بأنه يبحث عن نبتة قد تداوي عقمه. خمّن أشخاص آخرون بأنه قد يكون يبحث عن كنز أو يواري جثة ما. أوقف الشيخ مختار سيل أحاديثهم بصوته وهو يسأل مرزوق:
-         لماذا لا تأتي معنا يا مرزوق؟.. صمت قليلا ينتظر إجابة ما، ثمّ واصل: إنّ العمدة قد أولم لنا اليوم، فلماذا لا تترك ما أنت فاعل إلى الغد، وتصيب معنا بعضا من الزاد؟
التفت إليهم مرزوق، تمتم بكلمات تشبه الاعتذار وعاد إلى التراب يخرجه من تحت السور. استأنف الناس سيرهم، وبقي وحده مع السور والظلام الذي بدأ يهبط ببرودته القاسية على أديم الأرض.
روضة السالمي، تونس في 03/04/2002