28‏/10‏/2011

نصــ...وص روضة السالمي: السور

نصــ...وص روضة السالمي: السور: - ماذا تصنع يا مرزوق؟ كان العم سالم حلاق القرية يمرّ سريعا حين أبصر مرزوقا ينبش بأظفاره تراب السور. - مرزوق.. ألا تسمعني؟...

السور

 -         ماذا تصنع يا مرزوق؟
كان العم سالم حلاق القرية يمرّ سريعا حين أبصر مرزوقا ينبش بأظفاره تراب السور.
-         مرزوق.. ألا تسمعني؟
بقيت كلمات العم سالم معلّقة بالهواء المعفّر بالغبار. لم يجبه مرزوق. كان يبدو عليه التعب. لكن حركاته العصبية، وثيابه المعفّرة كانت تؤكّد أنه ليس على استعداد للحديث مع أي أحد. لذلك ضرب العم سالم كفّا بكفّ وانطلق سريعا يريد الوصول إلى غاية لا يعلمها إلاّ هو...
نفض مرزوق التراب عن يديه، ووقف لاهثا مفكّرا في كيفية مضاعفة سرعة الحفر. السور رمادي بارد متماسك وصلب، نتؤاته حادّة كالنصال. تمزّق لحم من يحاول التمسّك بها للتسلّق. ومرزوق فقد إصبعه وهو يحاول تسلّقه. كان ذلك منذ زمن. أربع أو خمس سنوات ربّما. وقت كاف لتندمل الجروح التي أصابته وليؤمن بأن فقد أصبعه حقيقة واقعة.
لم يحاول قبلا تسلّق السور. المسألة لم تكن واردة. فقد كان للسور باب كبير يخرج ويدخل الناس منه كلّما اقتضت الحاجة ذلك. خشب الباب ضارب في القدم. استحال لونه إلى رمادي شاحب بفعل الشمس اللافحة والرياح المحمّلة رملا وغبارا وعفونة.
وحده مرزوق كان يكره العبور خلال الباب. كان يحسّ دوما بالصدمة وهو يكتشف للمرّة الألف أو أكثر أن ما يفضي إليه الباب شبيه بطريقة مفجعة بما خلف. وكأنه باب في فضاء واحد فسيح كسيح منكسر. وربما تلك الردهة الصغيرة المظلمة التي تسبق المخرج المؤدي إلى الفضاء الفسيح أو صوت المزلاج وهو يفتح ثم صرير الباب وهو يئن لتنفتح أو ليغلق كان يعطيه انطباعا غائما بأنه في ردهة سجن واحد.مرزوق ليس مجنونا. فقط كان لديه كره فطري تجاه الأبواب التي لا تفضي إلى شيء سوى المشاهد الممسوخة المتكرّرة.
ابتعد مرزوق قليلا عن السور. عاين للمرّة الألف ارتفاعه. تأمّل حجارته الصلدة. ثمّ صرّ أسنانه وعاود الانحناء ليحفر من جديد. فكّر بأن أصابعه التسعة بإمكانها أن تثأر لإصبعه المبتور. جدار السور يمتد عرضه إلى أكثر من متر. والتراب متكلّس وعقيم. ولكن مرزوق استطاع أن يوسّع الحفرة التي ابتدأها حتى تتسع له لكي يبدأ في مرحلة ثانية تعميق الحفرة ليصل إلى الضفة الأخرى. هكذا كان يسميها "الضفة الأخرى". أرضه الموعودة.
سكنه هذا الهاجس منذ زمن.. ابتدأ خلطا غريبا بين الحلم والرهبة والرجاء. كثيرا مع سمع الآخرين يتحدّثون عن الجنة. وكان مرزوق يفكّر بأنّ جنته هو لا يمكن أن تشبه تلك التي يتحدثون عنها. حاول مرزوق في تلك الأيام البعيدة أن يرسم في ذهنه جنتهم التي يحلمون بها. وكانت تخرج في أحلامه مشوّهة ممسوخة لا تمتّ إليه بصلة. كانت كابوسا يثقل صدره.منعه التفكير بالجنة من النوم زمنا. شوّش صفاء ذهنه. وكان يصغي بسمعه إلى حديثهم عن ذلك الزمن العجيب المرتبط بأفق لا متناهي.
نبش التراب بأظفاره. وخز الشوك لم يعد يؤثّر فيه. عليه أن يسرع في الحفر. فكّر أنّ ذلك قد يستغرق نحو ستّة أيام. وأنّه في اليوم السابع سيتربّع على عرش الريح ويستعرض جنّته الخصوصية.الشمس توشك على الغروب. ومرزوق منحني على حفرته التي بدأت تتسع. مرّ بعض الناس حذوه. من بينهم الشيخ مختار. توقّفوا بإزائه قليلا. تأملوه وهو يحفر. تهامس بعضهم بأنه يبحث عن نبتة قد تداوي عقمه. خمّن أشخاص آخرون بأنه قد يكون يبحث عن كنز أو يواري جثة ما. أوقف الشيخ مختار سيل أحاديثهم بصوته وهو يسأل مرزوق:
-         لماذا لا تأتي معنا يا مرزوق؟.. صمت قليلا ينتظر إجابة ما، ثمّ واصل: إنّ العمدة قد أولم لنا اليوم، فلماذا لا تترك ما أنت فاعل إلى الغد، وتصيب معنا بعضا من الزاد؟
التفت إليهم مرزوق، تمتم بكلمات تشبه الاعتذار وعاد إلى التراب يخرجه من تحت السور. استأنف الناس سيرهم، وبقي وحده مع السور والظلام الذي بدأ يهبط ببرودته القاسية على أديم الأرض.
روضة السالمي، تونس في 03/04/2002