21‏/5‏/2012

قصّة قصيرة جدا "أحمر قاني"

يدخل سرب من الذباب مثيرا ضوضاء مرحة. فيتراقص اللون الأسود في فضاء الغرفة. يتسلّق عمود من الغبار الخفيف الذي أثارته الريح المتسلّلة من نافذة الخريف.
على الطاولة إناء فيه رمان أحمر.
يتشتّت اللون الأسود في الغرفة. تحوم نقطة قرب الحبوب القانية. تتباطأ قليلا. تحوم بتردّد. تبتعد قليلا لتعود بنشاط. تحطّ بلذّة على الحبّة الحمراء. يتبعها بقية السرب. تتقاسم الوليمة بسعادة مسموعة. تقبّل محتويات الإناء. تمرّغ وجوهها في الأحمر القاني. تودّ لو تلمس قلبها الأبيض.
تتعانق نقطتان من السواد في فضاء الغرفة. تتغازلان بجذل. تحلّقان أعلى من خيط الغبار. ثم تسقطان متهالكتين على الطاولة. قرب حبة الرمان.
ينفتح الباب. فيدخل بعض الضوء الأصفر. تتفرّق الذبابات. تحوم بعيدا. تمتدّ يد صغيرة. تمسك حبّة الرمان.
ما أجمل حبّات الرمان.
يقول الصوت القادم من بعيد مخترقا عمود الغبار والذباب الذي ينكمش الذباب قليلا في الزاوية. ثم يعود إلى حبوره فرحا بالخريف.
روضة السالمي، من مجموعة "أبعد من اللون"
تونس 2011

17‏/5‏/2012

عندما استيقظت سميرة فجر ذاك اليوم


ع.. مود ثلج: قرض للماضي والحاضر والمستقبل

منذ أكثر من عشر سنوات، تمكّنت بفضل دعاء والدتي، وفشل من اجتاز الاختبار قبلي، من الحصول على وظيفة دائمة في مؤسّسة عمومية محترمة. 
تتلخّص هذه الوظيفة في البقاء، بمعدّل خمسة أيام في الأسبوع، وما لا يقلّ عن 8 ساعات يوميا في الثلاجة - وهي بالمناسبة مجهّزة بحاسوب وربط بشبكة الانترنات - مقابل راتب محترم تمكّنت بفضله من الحصول على ثلاثة قروض بنكية بفوائض محترمة. 
القرض الأوّل ساعد في تسديد ديوني السابقة على التحاقي بالوظيفة. 
القرض الثاني كان لتسديد القرض الأوّل والتمكّن من الزواج. 
القرض الثالث لتسديد القرض الثاني وبقايا القرض الأوّل، والاشتراك مع زوجي - الذي تحصّل بدوره على ثلاثة قروض - في شراء سيارة جديدة. 
ويمكنني أن أقول بكلّ ثقة، وكأنني أنظر في المندل أو أقرأ حبات الرمل، بأن العشر سنوات القادمة من حياتي على هذه الأرض، ستتلخّص في مواصلة البقاء في الثلاجة والسعي إلى الحصول على قروض بنكية جديدة للتمكّن من تسديد القروض السابقة مع تضخّم منطقي في الفائض بحيث يتجاوز بكثير أصل القرض. 
ولكن لنحاول العودة إلى البداية الفعلية لهذا التثلّج الذي لم ينجرّ عنه إلى حدّ الآن التجمّد. فبعد إنهاء دراستي في معهد الصحافة، وعدم تمكّني من دخول مبنى الإذاعة والتلفزة، لا من بابه الكبير ولا حتى الصغير، تبنّيت عملية الفشل، وفسّرت سببها بأنّ ذلك إنما يعود بالأساس إلى  افتقادي للمؤهلات الضرورية لهذا العمل، وهي وجود تلك الواسطة المهمة والدائمة والعابرة لكلّ الحكومات والتي كلمتها "لا تنزل الأرض أبدا"*، وافتقاري لمقوّمات الجمال والمؤهلات الجسمية و"الأخلاقية". 
ثمّ، وبحكم واقعيتي، وبعد فشلي في التواصل مع عدد من المؤسسات الصحفية الجادة وغيرها، ومحاولاتي المتعثّرة لدراسة تخصّصات أخرى، وممارسة أعمال موسمية مختلف، حوّلت دفّة أحلامي نحو صحافة المؤسسة. 
وهي بالمناسبة عملية انتحارية نتيجتها مضمونة مائة بالمائة. 
فقد استطعت، على امتداد أكثر من عشر سنوات، تحويل "شبه قدراتي الإبداعية" إلى قدرات حقيقية في تعمير الجذاذات الإدارية، من خلال ممارسة وظيفة دائمة - على وزن عاهة دائمة - فتحوّلت من هواية كتابة القصة وقرض الشعر إلى كتابة التقارير الخشبية والاقتراض من البنوك. 
أما الكتابة، وتلك الترهات الأخرى التي تسمى عملا صحفيا، فبفضل البقاء في الثلاجة أقنعت نفسي بأن طاقاتي الكامنة غير المتجمّدة، هي في الحفظ والصون، ما دامت الثلاجة تعمل بشكل جيد، ويمكنني في أي لحظة إخراج تلك الطاقات وتسخينها لتعود صالحة للاستعمال. 
وفي انتظار تلك اللحظة، سأتقلب على جنبي الآخر لآخذ حمام ثلج. 
روضة السالمي من الثلاجة تحييكم وتشدّ على أياديكم. 
تونس، 16-17 ماي 2012 
* على رأي الكوميديان المصري الراحل عبد الفتاح القصري