2‏/4‏/2013

كيف أصبحت بدينة

كيف أصبحت بدينة فتحت الانترنات فانهالت عليّ كميات كبيرة من الطماطم. تلك الثمرة الحمراء العجيبة. التي تختزن في داخلها أسرارا من اللذة اللامتناهية. كان من أرسلها شخصا عزيزا على قلبي. فقرّرت أن أستفيد من هديته الرائعة العجيبة قبل أن يصيبها العطن. وطبعا فكّرت في الكمّ الهائل من الوصفات اللذيذة التي يمكنني تنفيذها بفضل هديتي النفيسة.
لم تبخل عليّ مناطق حوض البحر الأبيض المتوسّط بوصفاتها. فرحلت أنهل منها بكلّ سعادة. تخيّل نفسك ملكا متوجا على شعب من طماطم. ستجعل بعضه صلصة، والآخر عصيرا، ومرقا، وسلطة، وكلّ ما تتخيّله معدتك المستنفرة لتجرّب كلّ الوصفات المتاحة على الانترنات.
في البداية بحثت عن وصفات فرنسية. اعتقادا بأن المطبخ الفرنسي الراقي سيوفي الطماطم حقّها. غير أنّ ما نفذته من وصفات – مع كلّ التغييرات التي أحدثتها عليها، بسبب عدم توفّر بعض المكوّنات، وتعويضها بمكوّنات أخرى – لم يرضي نهمي للطماطم. ومع المطبخ الفرنسي جرّبت الطماطم المحشوة (Tomates farcies) باللحم المهروس والأرز، وجرّبتها بالجبنة البيضاء والبيض، وجرّبتها بالبطاطا والبقدونس. وجرّبتها باللحم المهروس ورقائق اللوز، وجرّبتها بمزج كلّ الوصفات معا. وكانت النتيجة أولّ كيلو غرام فائض عن الحاجة يسكن كيس جسدي.
في الواقع ذلك الفيض من الدهون، إنما هو خلاصة محبّة الطماطم المحشوة، الممزوجة بالبهارات، والمطبوخة بحبّ وعناية في الفرن، أو المقلية في الزيت والزبدة، أو المسلوقة على قدر من حساء الخضر. لذلك فأنا في هذه المرحلة الحالية لا أعير هذه الزيادة اهتماما كبيرا.
ولكّن المطبخ الفرنسي، رغم روعته، ترك لي جوعا ذهنيا كبيرا. فكوني من تونس، لا ترضى معدتي الأكل دون تغميس. ولا تقبل أصابعي إلا أن تلامس مكوّنات الطبق، ولا أرضي إلا بأن ألعق أصابعي بعد كلّ لقمة أدخلها إلى فمي. إنّ الأكل دون خبز يشبه الحرمان العاطفي. تخيّل نفسك ترسم لوحة فنية دون أن تغمس فرشاة في سطل الدهان. الخبز بالنسبة إليّ هو تلك الفرشاة السحرية، التي تمزج الألوان والأشكال ببراعة، وتطرحها على قماشة اللوحة فتغذّي كلّ مسامك بنشوة عارمة.
رحلتي مع الطماطم المحشوة كانت ممتعة. تخيّل نفسك تمسك حبّة الطماطم متلألئة الحمرة، تقبض عليها بين راحتك، تداعب نعومة قشرتها الرقيقة. وتأمّل تلك اللحظة الحاسمة، اللحظة الفاصلة، وأنت تمسك السكين بيد، وتثبّت حبّة الطماطم باليد الأخرى. وتمعّن في شعورك الرائع وأنت تقسمها إلى شطرين، فيتبدى أمامك لبّها، أزرار يتأرجح لونها ما بين الأبيض والبرتقالي، ويعوم في عصارة زهرية لزجة.
تلك الأزرار وتلك العصارة هي سرّ الطماطم. سرّ خلودها. وسرّ استمرارها في العطاء. هل جرّبت ذلك الشعور بالارتياح وأنت تلقي تلك الأزرار مع العصارة فوق التربة لتغمرك السعادة، بعد أيام أو أسابيع، وأنت تكتشف في نفس المكان الذي رميت فيه عصارة حياة الطماطم، براعم خضراء، تطلّ برأسها المزهوّ، مبشّرة بدورة حياة جديدة تبدأ خضراء، فصفراء، لتتحوّل في رقّة ونعومة إلى حمراء لامعة.
مهما كان شكلها، مستديرة مكتنزة كأجسام نساء البحر الأبيض المتوسّط أو المكسيك، مائلة للطول كأجسام الأوروبيات أو الأمريكيات، صغيرة مثل الآسيويات. الطماطم هي أكثر الثمار جاذبية وذكاء على الإطلاق. والدليل على ذلك أنها تركت مكانها لبقيّة الثمار والغلال، ونزلت على عرش الخضر الذي توّجها ملكة عليه. أوَ ليست الطماطم ملكة المطابخ بلا منازع. أوَ ليست الطماطم مرادفة للحياة. ألم تسمعوا مثلما سمعت، بذلك المواطن المصري البسيط ،الذي طعن زوجته إلى حدّ الموت، لأنها ألحت عليه في طلب الطماطم. فالمسكين عندما لم يستطع توفير ثمن كيلو من الطماطم ليضمن سعادته الزوجية، هانت عليه حياة زوجته، فقد كانت حياته وحياتها أرخص من ثمن كيلو طماطم.
يكفينا من التشاؤم ولنعد إلى معشوقتنا البومودورو. عشقي للغة الايطالية لا يضاهيه إلا عشقي للمطبخ الإيطالي وملكته المتوّجة. ألستم معي في الاعتقاد بأنّ ألوان العلم الايطالي الثلاثة إنما هي ألوان أشهر طبق في العالم. الأبيض هو لون الباستا أو المعكرونا. والأحمر هو لون البومودورو، أو التفاح الذهبي حسب الترجمة الحرفية للكلمة، يعني الطماطم، قوام كلّ الوصفات الحقيقية الضاربة في القدم. والأخضر، هو لون الريحان، تلك اللمسة الرشيقة من يد السيدة الإيطالية وهي تضع أوراق الريحان في طبق المعكرونة بالطماطم والريحان (Spaghetti al pomodoro e basilico) حالما يصبح جاهزا، وكأنها توقّع تحفة فنية رائعة.
المطبخ الإيطالي ينتمي إلى كوكب آخر. كوكب نجومه الذهبية المتلألئة هي طماطم ذهبية، أمطاره معكرونة، وهوائه ريحان. وقد جرّبت كلّ وصفات المعكرونة الطويلة، القصيرة، على شكل قوقعة، على شكل لولب، باللحم، بالخضار، بالجبة، بالسلطة. كلّ أطباق المعكرونة تنحني إجلالا أمام حضرة الطماطم. وأنا كذلك رغم ارتفاع وزني ثلاث كيلو هذه المرّة. وكان علي أن أسرع، فكميات الطماطم الهائلة التي تلقيتها توشك أن يصيبها العفن.
طبعا لم يكن هنالك من بدّ من العودة إلى الأصل. إلى المنبع. إلى الجذور. لا يمكن تخيّل مطبخ يناسب أهوائي أكثر من المطبخ التونسي. تلك الوصفات التونسية الرائعة التي تعرف كيف تدلّلني، كيف تدغدغ أنفي، كيف تثير نكهات وروائح وذكريات تؤسس كياني. تلك الوصفات البسيطة والرائعة التي رأيت أمي تمارس طقوسها بهدوء وسكينة. وتلك التي ابتكرها واستوحيتها من خيالي. الطماطم في تونس طبق رئيسي في حدّ ذاته. ألم تصادف يوما تونسيا مهموما يتحدّث عن حياته فيقول بأن حياته تحوّلت إلى سلطة، وما هي السلطة سوى طماطم تضاف إليها بعض المكوّنات الأخرى.
أعرف أناسا، وأنا منهم، في الموسم الحقيقي للطماطم، أي في الصيف، بعد أن تكون تلك الحبّات العجيبة الحمراء قد تشرّبت كلّ دفئ الشمس على عكس طماطم البيوت المكيّفة، يجعلون من الطماطم سلاحهم أمام غلاء المعيشة. فيأكلونها نيئة مع الخبز وقليل من الملح. يصنعون منها سلطة مع بعض البصل إذا لم يتوفّر ثمن الخيار والفلفل. يعصرونها ويطبخون بها مرقا من دون لحم. يجفّفونها. يشوونها على الفحم مع الفلفل فيصنعون سلطة مشوية، تنسيك هموم الدنيا.
السلطة المشوية، والمقلي، والمعكرونة بالصلصة، هي بهجة الصيف، وبهجة البطن التونسي. فالسلطة المشوية هي لوحة فنية يمتزج فيها لون الطماطم الأحمر بعد أن خرجت من جمر الفحم، مع خضرة الفلفل وبياض البصل والثوم، دون أن ندخل في تفاصيل البهارات. وإن كنتم مصرّين على المعرفة، فسرّ المرأة التونسية هو التابل ورأس الحانوت، وزيت الزيتون عندما تختلط هذه المكوّنات السحرية في أي طبق وتسيل على أي مزيج جوهره الطماطم، فكن واثقا بأنّ لعاب كلّ من يشمّ الرائحة ويرى بهجة الطبق ستسيل.
وسرّ السلطة المشوية الكثير من الصبر أمام لفح الجمر. الصبر الجميل وأنت تقلّب الطماطم على النار برفق كي لا تتفحّم، وأنت تنتزع القشرة المحترقة عن الطماطم والفلفل اللاسع والبصل، ذلك الصبر ستكافئ عليه عندما ترى الفرحة ترتسم على وجه كلّ يتذوّق أطباقك العابقة بالطماطم والمحبّة.
أمّا سرّ المقلي فهو الصبر على لسعة الزيت المتطاير. هو الانتشاء بموسيقى المقلاة وهي تحتفل بالفلفل ومن بعده بالطماطم. سيمفونية الصيف تمرّ حتما عبر الزيت الساخن وهو يعانق حبّات الفلفل اللاسعة ومن بعده أرباع الطماطم.
المقلي، هذا الطبق العجيب الذي تتغذّى عليه أغلب الأسر التونسية صيفا، يمكن أن يتوسّع ليشمل البطاطا والقرع والباذنجان والبيض فيصبح صحن كفتاجي، خلاصة التجربة الحياتية التونسية، سرّ من أسرار ثقافتها المتعدّدة، تجد آثار الغزاة، واستماتة السكّان الأصليين في الالتحام بجذورهم. لا يمكن أن تجد هذا الطبق في أي مطبخ آخر، لأنه ببساطة طبق تونسي.
هنالك أصول يجب إتباعها لإنجاح هذه الوصفة. هذه الأصول توشوشها كلّ أمّ ترغب في أن تجيد ابنتها الطبخ. سرّ البيضة المقلية الجميلة، التي يكون أصفرها في الوسط تماما، وتحيطها هالة من بياض أملس، هو أن تترك الزيت يحمى قليلا، ثمّ تضع البيض بسرعة ورفق، تحرّك الزيت بالملعقة برفق وكأنك تجدّف بهدوء في بركة صافية ذات مساء مقمر، تحرّك الزيت لتغمرها به، وكأنك تحمي طفلا رضيعا، بهدوء وحذر تغمره بالميته الدافئة كي لا يبرد، ثمّ قبل أن يصدر الزيت ضجّته المحبّبة، تخرج البيضة من المقلاة بسرعة ورفق، تضعها في الوعاء البلوري بحنان وكأنك أخرجت ذلك الطفل من حوض الاستحمام ولففته جيدا وتركته لينام بهدوء ووداعة.
يأتي دور البطاطا، تقطّعا في شكل أعواد أو دوائر حسب الرغبة، لأنك ولا شكّ ستترك بعضا منها لتزيين الصحن. تنتظر قليلا قبل أن تضعها في المقلاة، الوقت الكافي كي تدرك بحدسك أنّ الزيت أصبح مهيئا لاحتضان البطاطا وتدليلها حتى يصبح لونها ذهبيا. حينئذ تخرجا من المقلاة لتضعها قرب البيض المقلي. القرع في شكل مستطيلات إن كان قرعا أحمر، أو دوائر إن كان قرعا أخضر، يمكنك مزج الأحمر والأخضر في نفس الصحن، ليست هنالك قواعد صارمة في هذه المسألة. فالكفتاجي لوحة فنية يمكنك أن تضع فيها ما تريده من ألوان وأشكال. ثم تقطّع الباذنجان وترميه في المقلاة بسرعة قبل أن يتغيّر لونه.
بعد هذه الخضر ذات المذاق الهادئ يأتي دور الفلفل. ذالك الأخضر الحرّيق، الذي يرفع إلى السماء السابعة ثم ينفضك أرضا. ذلك المذاق الذي يشعلك تصرخ، وفي بعض الأحيان تلهث، يمكنك أن تستعمل الفلفل اللاذع مع الفلفل الحلو فتجد توازنا بين لذتين، وأخيرا يأتي دور الطماطم. في نفس المقلاة التي تشرّبت مذاقات المكوّنات الأخرى تغتسل الطماطم في صخب محبّب، وكأنهن هنديات يغتلسن في نهر الغانج، فيتطهّرن ويكتسبن أرواحا جديدة. نفس الشيء يحدث مع الطماطم. تدخل أبراجا، مزهوة بحمرتها، فتخرج وقد انفصلت عنها قشرتها وتحوّل لونها الزاهي إلى حمرة تميل إلى البرتقالي، وكأنّها الشمس تميل إلى الغروب، أو رجل اكتسب حكمة الكهولة، بعد أن عاش مغامرات الشباب.
تصوّر نفسك بعد أن قليت كلّ المكوّنات تمسك بسكينين فتقطع هذه الخضر التي تستسلم بلذة للسكين تشقها في كلّ اتجاه. هل تعجّبت يوما من قدرة سكاّن قارة آسيا من صينيين ويابانيين على استعمال عودين لتناول الطعام، كن واثقا من أن مشهد أي تونسي وهو يستعمل سكينين في نفس الوقت لتقطيع الخضروات المقلية هو مشهد في غاية من الجمال. ثم تأمّل حركة اليدين وهي تضيف قطعا من البصل والبقدونس ورشّة من التوابل، وبعضا من الكبد المقلي أو السمك لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
إنها مشاهد على بساطتها تحمل في عمقها شغفا بالحياة، ورغبة في الأخذ من كلّ شيء بطرف. ورغبة في تلوين الموجودات، والغرق في بحر من اللذة الحسية والوجودية.
الأطباق التونسية فيها الكثير من الصبر والمحبّة، ولولاهما لما وصلت إلينا اليوم أسرار الملوخية التي يستمر طبخها أكثر من سبع ساعات، والطاجين بين النارين، والمدفونة، تلك الأكلة العجيبة التي بقيّت سرّا مستغلقا على فتيات الجيل الحالي. والسرّ في محبّة الجميع للنساء العجائز واحترامهنّ. ليس فقط لأنهنّ البركة وذاكرة الأمّة، وإنما لأنهنّ يمسكن أسرار المطبخ التونسي البربري المتجّذر في لاوعي التونسيين المستعربين أو المتفرنسين. إنّهن يعرفن كيف يصنعن البسيسة، وكيف يكسكن الكسكسي والمحمّص والحلالم، ويعددن العصبان، والمرقاز، والملثوث، تلك الوصفات الأسطورية، التي تجعل منك تونسيا.
ومهما ابتعدت عن وطنك، فطريق ذكرياتك يمرّ حتما عبر أنفك، الذي يختزن روائح شربة الفريك أو الدشيش بالكبّار، والبريك بالعضمة، وأمك حورية، والسلاطة المشويطة، وسلاطة البلانكيط، والكسكسي بكلّ تقلّباته وأمزجته.
الكسكسي بالحوت (السمك)، بالخضر، بالعلوش، بالقديد، بالدجاج، بالرغيدة. مهما تغّرت وصفاته، فالكسكسي التونسي الحقيقي لونه أحمر مثل العلم. ولون الطماطم. ولون الحياة. المطبخ التونسي لونه أحمر بامتياز، والأطباق المصنوعة من الكركم أو الزعفران، إنما هي أطباق وافدة، أطباق البلدية، سكّان العاصمة، بقايا من خدموا الأتراك. ومن يأكل من غير طماطم، يفقد لذّة الأكل. هو على الأرجح شخص مريض. الأصحاء يحبّون الأطباق المبهجة، الغارقة في حمرتها، الغارقة في زيت الزيتون. أغلب الأطباق سواء التي تؤكل بالخبز أو بالملعقة في تونس لونها أحمر. وكلّ المرق مهما كانت مكوّناته إنما هو في الأصل خلاصة طماطم. ألم أقل بأنّ الطماطم هي نهر من اللذة. وعندما أبحرت في هذا النهر، جرفني تيار اللذة، ورماني على الشاطئ وقد أوشك وزني على التضاعف. ولكن ماذا أفعل مع هذا الصديق العزيز القادم من بعيد والذي عنّ له في أحد الأيام أن يرشقني بكلّ طماطم الكون؟ هل سأترك هديتي من دون أن أوفيها حقّها؟ طبعا لا. لذلك قرّرت أن أعيد إرسال ما تبقى من طماطم كي يشاركني الاستفادة من هذه الهدية الرائعة. وقبل أن أتحوّل إلى فيل، لأنني الآن تحوّلت إلى جاموسة.
بقلم روضة السالمي، تونس 02/04/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق