2‏/7‏/2014

الفصل الأوّل من رواية شظايا لروضة السالمي

شظايا – روضة السالمي تونس 1999

الفصل الأول

في الهواء تسري برودة خريفية خفيفة تجعل النرجس يرتعش في أكمامه، وتملؤ الشرفة بأريج الزهور المختلفة التي دأبت منذ أعوام على الاعتناء بها...  أحب النباتات البيتية الرقيقة، رؤية اختلاجاتها عبر الفصول تجعلني أكثر رضا. تمنحني الراحة وهدوء البال.
زوجتي فاطمة تقول إن زهور البلاستيك تناسب أكثر لتزيين الشقة. فهي لا تتطلّب جهدا ولا عناية خاصة. كما أنها لا تذبل ولا تموت... أرى أن في الطبيعة أسرارا من الجمال الذي لا يذوي... ثمّ إن الاعتناء بهذه الكائنات النباتية الصغيرة يخفّف عني وطأة الأيام الطويلة وحدّة الوحدة.. كل شتلة وكلّ غرسة هي طفلي الذي لم أنجب... لذلك أحنو عليها كثيرا. وأمضي أغلب أوقاتي إلى جانبها.
أنا الآن في الثامنة والستين. توفي ابني الوحيد في حادث سيارة. حدث ذلك منذ أكثر من عشر سنوات. لم يبق لي غير زوجتي. أصص نباتاتي وهذه الشقة الصغيرة في عمارة آيلة للسقوط قرب بطحاء باب الخضراء.
عشت حياتي كيفما اتفق. بلا تخطيط مسبق. أو هدف واضح.تنقلت بين الوظائف.. زرت مدنا كثيرة. تجوّلت في بلدان بعيدة. علمتني الأيام كيف أنحني للعاصفة.. استفدت من تجاربي. ها أنا الآن وقد رسوت على ميناء الشيخوخة راضيا بقسمتي. قرير العين. تتقاسم فاطمة وأصص الزهور تأثيث وحدتي.
فاطمة حادة الطباع. عصبية في بعض الأحيان. لكنها رغم سنواتها التي تخطت بها عتبة الخمسين ما زالت تحمل في داخلها بعض المرح وبراءة الأطفال... لا أستطيع أن ألومها على شيء. كل سيئاتها تعوّدت أن أغفرها لها.. أغفر لها أنها رفضت في ذلك الوقت انجاب طفل آخر يؤنس وحدة منتصر. تعلّلت بالمرض.. كنت أعلم أنها خافت من إعادة التجربة.. خافت أن تموت على سرير الولادة كما حصل مع أمها وخالتها وأمها من قبلها.. تفهمت المسألة واكتفيت بالصمت...
وحين مات ابننا الوحيد مدهوسا تحت عجلات سيارة تقودها امرأة كفكفت حزنها. وضممت الوجع داخلي. وصمتّ. فقد علمتني التجارب.. كان ذلك هو نصيبي من هذه الحياة.. وكان عليّ في كلّ مرة أن افهم فاطمة أن الذي ذهب بعيدا لا يعود...
كنت أسقي الزهور في شرفتي. أضع السماد. وأصفّف الأصص غارقا في تسبيح طويل. يداعب الهواء ما تبقى من شعيرات على رأسي الأصلع حين سبق صوت فاطمة وهي تناديني خطواتها المسرعة. توقفت تلتقط أنفاسها عند باب الشرفة فغطّت بقامتها الفارعة مشهد الغرفة الصامتة.
تأملتني في اهتمامي الدؤوب بتسوية اعوجاج غصن غض، ثم قالت بنفاذ صبر:
-    علّ، ألم تسمعني.. منذ دفائق وأنا أنادي عليك... أم أنك تتجاهلني؟
رفعت ببطء رأسي نحوها وأجبتها:
-    أجل سمعتك.. لكنني لم أستطع ترك مكاني قبل الانتهاء من هذه النبتة المتسلقة.. ما الأمر؟ ماذا هنالك؟
-    ساعي البريد يحمل لك طردا بريديا كبيرا.. إنه عد الباب ينتظر توقيعك.. أسرع لنرى ما في الطرد..
هرولت عبر الشرفة ببيجامتي الصفراء ذات الحواشي البنية وبرأسي الأصلع.. عبرت البهو الغاصة جدرانه بصور منتصر..
يظهر في الإطار الخشبي الكبير على يمين المدخل في السادسة أو السابعة من عمره. يمتطي حصانه الخشبي وتعبث الريح بشعره الأحمر. في خلفية الصورة تظهر فاطمة كنقطة بياض ناصع وهي تمسك غصن شجرة التين.. بدى وجهها غريبا وكأنه مصبوب في قالب من الجصّ.. لم أعد أذكر المكان الذي التقطت فيه الصورة.. غير بعيد عنها إطار آخر يظهر فيه منتصر في السابعة والعشرين أو أكثر... في عينيه نظرة غاضبة.. هذه الصورة هي المفضّلة لدى فاطمة.. تقول إن منتصر في هذه الصورة يبدو وكأنه قد خرج من البيت لتوّه وسيعود قريبا.. تقول إنه يبدو وسيما بشعره الأحمر وأنفه المعقوف قليلا ووجنتيه البارزتين..
أخذ منتصر طول قامته وهزاله من فاطمة. إنها طويلة بشكل لا يصدّق بالنسبة إلى امرأة. طويلة وغير متناسقة. كعصا المكنسة. مكنسة السقف أو مكنسة تنظيف المداخن كتلك التي يستعملونها لتنظيف المداخن في بعض البلاد التي زرتها... كنت أكرّر ذلك دائما على فاطمة.. فتتظاهر بالغضب... أجمل ما في فاطمة روحها المرحة وابتسامتها الصادقة...
تليها مباشرة صورة عريضة لمنتصر وفاطمة وهما يتقاسمان اللعب بدمية بلاستيكية صغيرة... كم كانت سعيدة تلك الأيام.. كل الصور تقريبا تبرز منتصر وفاطمة.. لم أغضب لأنها تجاهلت تعليق صوري.. لا ألومها.. حزنها كبير مشوب ببعض الإحساس بالذنب..
ابتسم لي ساعي البريد وهو يقدّم إلي علبة ثقيلة بعض الشيء.. لم أستطع إخفاء دهشتي... في الحقيقة منذ أعوام لم نتلق رسالة شخصية واحدة ناهيك عن طرد بريدي... قلبت العلبة المغلّفة أبحث عن اسم المرسل. كدت أرفض استلامها... ومن يدريني أنها لي.. إلا أن ساعي البريد أكّد لي بأن العنوان الموجود على غلاف الطرد يخصني كما أن الاسم يتطابق تماما مع اسمي... وفي النهاية وقّعت على ورقة الإيصال واستلمت الطرد رغم إحساسي الغامض بالتطيّر.
كانت فاطمة تنتظرني بصبر نافذ. أخذت العلبة مني قلّبتها بين يديها. قرأت عنوانها، تأكدت من ختم البريد الذي يحمل عنوان مركز البريد في نهج اسبانيا ويحمل تاريخ اليوم. ثم بدأت تمطرني بالأسئلة.
هدّأت حماستها. واقترحت ترك مسألة فتح العلبة إلى ما بعد تناول العشاء. تركنا الطرد على الطاولة. عدت أنا إلى شرفتي ودخلت فاطمة المطبخ تعد حساء الخضر المسلوقة التي لا نستطيع التخلي عنها بسبب أمراضنا المختلفة..
بقيت أفكر في هوية المرسل ومحتوى العلبة. وضعت في ذهني قائمة لكل الأشخاص الذين أعرفهم. لكل الأقارب. لكل من يعرف العنوان. وفي النهاية استبعدت أن يكون أحدهم أرسل هذا الطرد.. داهمني شعور غامض بأن في المسألة خطئ ما. أو أن تكون مزحة ثقيلة من أحد الجيران.
عدت إلى داخل الشقة. عظامي المنهكة لم تعد تحتمل برد المساء. أغلقت الباب على هواء الخريف الذي بدأ يشتدّ.. كانت فاطمة تحوم حول العلبة. يكاد يقتلها الفضول. انتبهت لحضوري فتظاهرت بتسوية الزهور في الإناء.. رغم سنواتها الخمسون ما زالت تتصرّف كطفلة.. آه طفلتي الوحيدة، ألم تعلّمك التجارب الصبر؟..
تلهيت بقراءة الصحيفة محاولا تجاهل العلبة التي تغريني بالاقتراب. كنت قد انتهيت لتوي من ملء شبكة الكلمات المتقاطعة حين نادت علي فاطمة من وراء قدورها.
لم نتناول عشاءنا صامتين كالعادة. فقد أخذت فاطمة تفكّر بصوت مرتفع.. وضعت فرضيات عديدة تمكنت من تفنيدها بسهولة. ذكرن أسماء كثيرة حتى جعلتني أشعر بالانزعاج فصحت فيها ساخرا:
-    ربما يكون منتصر هو من أرسل الطرد..
آلمتها كلماتي القاسية فتلهت بغسل الأواني كي تخفي تجاعيد خدّها المترهل.. اقتربت منها محاولا مصالحتها. ثم اقترحت مساعدتها في تنشيف الصحون فلم تمانع.. قلبها طيب رغم كل شيء.
سألتها وهي تعدّ الشاي الأخضر الذي أحبذه ممزوجا بورق النعناع الطري أن تحزر ما في العلبة فعادت نشيطة إلى الرياضة الذهنية التي أعجبتها. اقترحت أن تكون ملئ بالشكلاطة أو أقراص الحلوى والسكاكر.. لو يكون الأمر كذلك فسنوزعها على أطفال الجيران. لأننا أنا وفاطمة نعاني من مرض السكر المزمن. هي بسبب وفاة منتصر. وأنا بسبب عوامل وراثية.. وقد نصفح عن صاحب هذه المزحة الثقيلة.
وقد يكون في العلبة حذاء.. فإن كان الأمر كذلك فلأينا الحذاء.. ثم من يعرف مقاسنا.. ثم افترضنا أن يكون في العلبة منديل للرأس. لكن العلبة كانت ثقيلة. ولا يعقل أن يكون منديل الرأس بمثل ذلك الوزن.
انتهينا من اعداد الشاي. ولم ننته من وضع الافتراضات. وحين أتعبتنا هذه اللعبة قرّرنا فتح هذه العلبة.
جلسنا إلى الطاولة. وبقينا لحظة صامتين نحاول أن نطيل متعة التكهن. أنامل فاطمة متحفّزة لفتح الطرد ونزع غلافه. لكن أنا من سيفتح الطرد. أولا لأنني أنا الرجل. ثانيا لأن الطرد مرسل أساسا إليّ.
أمسكته بكلتا يدي. حرّكته بشّدة يمنة ويسرة وأرهفت سمعي. تبدّت لي أصوات غامضة. أشياء ترتطم ببعضها محدثة صوتا حادا كتمته العلبة المغلّفة.
نزعت الغلاف بحذر. فقد علمتني التجارب التي تركت آثارها على تجاعيد وجهي أن أتعامل بحذر مع كل ما أجهل. كان يختفي تحت ورق التغليف صندوق خشبي بحجم علب الأحذية. يلمع خشبه المصقول كالمرآة تحت نور مصباحنا الشاحب.
كان صندوقا محكم الصنعة ومحكم الاغلاق. وكأن صاحبة كان يخشى أن يضيع ما بداخله.أسرعت فاطمة إلى المطبخ وأحضرت السكين.
عالجت الصندوق طويلا حتى انفتح. نظرت إلى داخله ثم قربته من فاطمة.. رفعت إلي رأسها وقد اشتعل بريق عينيها الخابي بدهشة المفاجأة وعدم الفهم.. تبادلنا النظر صامتين.
أدخلت يدي بحذر وأمسكت قطعة أولى. وضعتها على الطاولة. كانت شظية مرآة. تأملناها طويلا. ارتسمت الحيرة على وجهينا. على الشظية خطوط غير مفهومة. وكأنها جزء من رسم. أفرغت محتوى الصندوق على الطاولة. تساقطت مئات الشظايا البلورية ومجموعة من الأوراق والدفاتر...
هرب الكلام من حناجرنا.. أبدا لم نتخيل شيئا كهذا.. في عيوننا سؤال يحتاج إجابة سريعة. بعد لحظات الدهشة قررنا اقتسام اللغز.. جمعت فاطمة الشظايا جانبا. وأخذت أنا الدفاتر والأوراق. وبدأ كلّ منا رحلة البحث.

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف3/7/14 14:27

    Je suis curieux d'en savoir plus, merci de continuer.

    ردحذف