16‏/10‏/2014

الدمية – روضة السالمي



أخبرتني صديقة صديقتي عمّا حدث مع ابنة جارتها التي تغيّر شكلها وسلوكها وأطباعها فجأة وأصبحت وكأنها شخص آخر.
فبعد عودتها من نادي الرقص الكلاسيكي، في السادسة مساء من ذلك اليوم الخريفي، طلبت هناء من أمها أن تعدّ لها طبقا من المعكرونة بالصلصة، لأنها تحسّ بجوع شديد بعد يومها المليء بالنشاط. فأخبرتها أمها أن تنتبه إلى وزنها الزائد. إلا أن هناء أجابتها:
-         وإن يكن يا ماما، أنا أحب المعكرونة، حتى وإن كنت أحب رقص الباليه فأنا لا أريد أبدا أن أكون نحيلة مثل الدمية باربي
وردّت عليها أمها باسمة
-         حسن، اذهبي أنت إلى الاستحمام الآن وأنا سأعد لك طبقا صغيرا فقط..
وأضافت
-         ولا تبللي دميتك...
ذهبت هناء مسرعة إلى غرفة الاستحمام، دون أن تسمع بقية كلام أمها. أغلقت الباب بالمفتاح، أشعلت الضوء، وفتحت صنبور المياه وعدّلت حرارته لملء المغطس. ثم نزعت ثيابها أمام المرآة وتأملت نفسها. فعلا إنها بدأت تميل إلى الامتلاء بعض الشيء. أمسكت دميتها كبيرة الحجم العارية الموضوعة دوما على كرسي غرفة الاستحمام البلاستيكي الأزرق، وخاطبتها باسمة وهي ترقص معها في حركات دائرية:
-         هل تسمعينني، لا أريد أن أبدو نحيلة مثلك.. سآكل ما يحلو لي وأمارس ما أحب من الرياضة وهكذا سأحافظ على لياقتي.. وسأرميك بعيدا.. لأنني كبرت ولم أعد بحاجتك...
كانت دمية هناء تعادلها في الحجم، أهدتها لها أمها منذ سنتين في عيد ميلادها الثامن. في البداية كان للدمية ملابس جميلة براقة، وكان شعرها أشقر لامع وعينيها زرقاوين. ولكن ومع مرور الوقت تمزقت كلّ ثيابها، وأصبح شعرها منكوشا كمهرّج، وغطّتها آثار الألوان المائية والأقلام اللبدية. حتى أنها فقدت إصبعين تسلت هناء بقضمهما وهي تشاهد برامج الكرتون.
عندما دخلت هناء إلى المغطس مع دميتها بدأت تحدثها عمّا تعلمته في درس الرقص:
-         اسمعي أيتها الدمية القبيحة.. لكي تكوني باليرينا مثلي عليك أن تقفي باستقامة، أن تشدي ساقيك وعضلات فخذيك هكذا، تنظري إلى الأمام، وتتنفسي بانتظام...
وأخذت تهزّها بعنف وتحرّك أطرافها في كلّ اتجاه. انغمست هناء في اللعب مع الدمية، تشدّها تارة من شعرها وطورا من ساقيها، مرّة تفتح يديها بشكل أفقي ومرّة في اتجاه عمودي. ويبدو أنها انغمست في لعبتها عندما انقطع النور فجأة وشعرت هناء بيد تمسكها تريد أن تغرقها في مياه المغطس.
أحست هناء بالفزع. وتسارعت دقات قلبها. أرادت أن تصرخ لتنادي أمها. إلا أن صوتا لم يخرج من حنجرتها. أصابها الرعب. وشلّ الخوف حركتها. وطغى صوت دقات قلبها على كل شيء. لم تعد تقوى على التنفّس. ألجم الرعب حركتها وفقدت القدرة على ردّ الفعل. أطبق الألم على ضلوعها. وأصابها ارتعاش كارتعاش الحمى. حاولت هناء الصراخ. إلا أن حلقها الجاف لم يقو على إصدار أي صوت. ومع قسوة اليد المجهولة التي تمسكها بكلّ عنف، تكاثف شعورها بالتوتر والخوف من الغرق ومن الموت. نز العرق غزيرا من كلّ مسامات جسمها المبلّل. وتملكها الدوار وجمّد الخوف مفاصلها. وغطى صوت وجيب قلبها على كل شيء وامتلأت الغرفة بصداه.
استجمعت شجاعتها لبرهة وجاهدت بكلّ قوّتها ألا تغرق في المياه الدافئة وحاولت الإفلات إلا أنّ قوّة هائلة كانت تسيطر على كلّ جسمها. تحرّك أعضائها في كلّ اتجاه. ومن دون أن تتوقّع أحسّت بجسمها يطير ويدور في الهواء عدّة مرّات قبل أن يستقرّ مثل خرقة مبلّلة وبلا حراك فوق كرسي غرفة الاستحمام. وفي تلك اللحظة عاد النور الكهربائي.
كانت مسمّرة على الكرسي البلاستيكي الأزرق البارد، يسيل من طرف شفتيها وأنفها خيط رفيع من الدماء، وبدا شعرها المنكوش كباروكة المهرّج. اتخذ جسمها الوضعية الرابعة في رقصة الباليه، حيث تكون القدم اليمنى أمام القدم اليسرى وكل منهما ملتفة للخارج تفصل بينهما مسافة قدم. ذراعيها مفتوحتان إلى الجنب وأقل من ارتفاعا من الكتف بقليل، مع الحفاظ على تماسك الذراع في شكل مائل للدوران.
ومن المغطس خرجت فتاة جميلة، تقطر المياه الدافئة من جسمها الرشيق، التحفت برداء الحمام. واتجهت نحو المرآة، فأزاحت الضباب المتكاثف على صفحتها، وابتسمت لصورتها المنعكسة على البلور المصقول. إنها جميلة ورشيقة، إنها فعلا تستحق أن تكون البالرينا.
اتجهت نحو باب وقبل أن تخرج التفتت إلى الجسم الهامد فوق الكرسي قائلة:
-         ألم تقل لك أمك ألا تبللي دميتك... لماذا لا تستمعين إلى ما يقال إليك... يبدو أنني هذه المرّة سأرميك بعيدا.. لأنني كبرت ولم أعد بحاجة إلى شيء قبيح مثلك...
ومنذ ذلك اليوم وبشكل مذهل ولا يصدّق، تحوّل لون عيني هناء إلى الأزرق من دون استعمال عدسات لاصقة. وأصبحت غريبة الأطوار نوعا ما.. ربّما لأنها كبرت ولم تعد تلعب بالدمى... من يدري...
الدمية – روضة السالمي، تونس أكتوبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق