26‏/11‏/2014

لدغة القبلة الجامحة

لدغة القبلة الجامحة
اعتاد قضاء أمسيات الخريف الطويلة في غياب أمه وانشغال أبيه في عمله مع مربيته الجميلة ليلتي كما كان يحلو له أن يناديها. في تلك الأمسيات الطويلة، عندما يشتدّ عصف الرياح المولولة خارجا فتخدش أغصان شجرة الصفصاف بلور النافذة، ويدخل البرد مخالبه الطويلة من تحت الباب، كانت تجلس معه على الأريكة قبالة النافذة، وكثيرا ما كانت توشوشه حكايتها المفضّلة عن غواية العذراء الأولى.
كانت تبدؤها بصوت هادئ خفيض، يتحوّل تدريجيا، حسب نسق الحكاية، إلى فحيح هامس أو عويل صارخ. ومع تدفّق الكلمات من فمها الشهي كان يتصاعد خوفه، ويرتفع صدى دقات قلبه مغطيا همساتها المتحشرجة، ويسكنه الرعب، فيقشعر جسمه الصغير، وتضطرب حركاته، ويكاد يتوقّف تنفسه.
عندها كانت تعانقه وتغطيه بردائها، فيلتصق بها، يضع رأسه قرب ثديها الممتلئ الناهد، ويتشبّث بخصلات شعرها المتوهّج، ويشمّ رائحتها الشبيهة بالتراب حين يبلّله المطر. كانت هذه الحكاية سرّهما الصغير لا يعرفها أحد سواهما. وكان يتقبّل عناقها بغبطة كنعمة سماوية خالصة.
أعادت هذه اللوحة إلى ذاكرته حكايات ليليتي الجميلة التي اختفت من حياته فجأة وكأنها عصفور طار من النافذة بالرغم من أنها وعدته أن تأخذه معها. كان رسما تقطر ألوانه القاتمة بالحياة. أجادت الريشة إبراز تفاصيل سواد ظل القمر وحزن البومة على غصن الشجرة الضخمة. وأبدعت الرسامة في تصوير شبق آدم وهو يقضم تفاحة صدر حواء المنشغلة عنه بالأفعى الملتفة حول خصرها. أغوته أجواء اللوحة فلم ينظر إلى غيرها. انتظر خلوّ المعرض من الزائرين وذهب إلى الرسامة الشابة ليجري معها حوارا صحفيا، جعله مطوّلا أكثر من اللازم - إذ كان يراودها- ولم تبخل هي عليه بالإجابات والتفاصيل فقد كانت مستجيبة. وعندما تأخّر الوقت عرض عليها أن يوصلها إلى بيتها وافقت مبتسمة ومشجّعة.
كانت العاصفة في بدايتها فهبّت الريح متردّدة بين الاتجاهات، أما الأمطار فقد هطلت بسخاء. حاول أن يغطّيها بمطريته لكنّها رفضت لأنها تحبّ الالتحام مع الطبيعة... "ثمّ إنّ بيتي قريب من هنا" أردفت بإغراء لا يقاوم.. فأجابها وهو يتأمّل خصلاتها الصهباء التي موّجتها الرياح وصدرها الناهد وقد كشف قماش الفستان المبلّل تفاصيله:
وأنا أيضا... أحبّ الغوص في أعماق الطبيعة... والالتحام مع تفاصيلها...
- عندما وصلا إلى بيتها الصغير الذي تظلّله شجرة صفصاف كبيرة، وافق دون تردّد على دعوتها لشرب العصير. وخمّن أنه من الممكن اختصار المراحل ليكون العناق بداية تعارفهما. فتحت له الباب فولج خلفها مسرعا. ترك المطرية في المدخل متأمّلا اللوحة الزيتية كبيرة الحجم في غرفة الاستقبال. كانت صورة لامرأة صهباء بنية العينين تحيي الزائر بابتسامة دافئة. شعر بالألفة وكأنه عاش هذه اللحظات في حياة سابقة. شيء ما ذكّره بمربّيته والأمسيات الطويلة التي قضاها معها قبل أن اختفائها المفاجئ دون وداع.
جلس على الأريكة الوحيدة قبالة التلفزيون ينتظرها. وكما في ذكرياته، كانت الريح تعوي كسرب من الذئاب احتفالا باكتمال القمر. ومن النافذة الوحيدة بدت له أوراق شجرة الصفصاف وهي تطير مذعورة في دوامة تخدش عتمة الليل البارد.
عاد إليه خوف صبي صغير في حجرة معتمة. وعلى وقع غرغرة المزاريب وهي تزدرد الأمطار النازفة، تراكضت أفكاره في أنحاء شتى، وازدحمت في ذهنه كخيل جامحة لا تعرف المفرّ. ومع وصول العاصفة إلى ذروتها تنامى في داخله انقباض عوّض لحظات الألفة الأولى. وودّ لو أنه لم يستجب لرغباته واكتفى بأخذ رقم هاتفها.
وقبل أن يستبدّ به الندم أقبلت نحوه. مثيرة في فستانها الأسود كالبدر ليلة تمّه. جامحة بشعرها الأصهب. جريئة بنظراتها التي تكاد تجرّده من ثيابه. تبدّدت مخاوفه حين قدّمت إليه العصير قائلة "اشربه... سيجعلك أكثر دفئا". وجلست قربه فتنشّق رائحتها. كان عطرا مألوفا لديه. تأمّلته وهو يمسك الكأس كطفل صغير ومالت على أذنه فتغلغل صوتها في كلّ مسامه وقالت هامسة:
.. مثل رائحة التراب المبلّل بالمطر...
- صعق كمن مسّه سلك كهربائي عاري، وتساءل في سرّه إن كانت تقرأ أفكاره، وأجاب وهو يبتلع ريقه: أجل... كنت أفكّر بأن رائحتك فيها شيء مألوف..
- فأجابته بهدوء "..مألوف مثل رائحة الأمهات.. في ليالي الخريف الطويلة". نظر إليها محاولا التماسك، وسألها:
هل كانت لديك مربّية؟
- فأجابته وهي تلعب بخصلات شعرها:
أجل... وفي أمسيات الخريف الطويلة كانت تحكي لي قصّتها... وكنت وأنا في حضنها أستنشق رائحة التراب المبلّل بالمطر، وأتلهى بخصلات شعرها المصبوغة بالحناء...
يا لهذه الصدف التي تجمعنا..
قال غير مصدّق..
أجل إنه القدر ... وربما أكثر من القدر...
- أجابته وهي تنظر إلى النافذة، ثم قالت بعد صمت قصير:
أشرب كأسك فأمامك ليل طويل..
- حمّسه تلميحها فدلق العصير الأحمر الشفاف في فمه دفعة واحدة دون أن يسأل عما يشرب. فقد كان في الحقيقة راغبا بشدّة في إنهاء الحوار سريعا ليعتليها من دون مقدّمات. أخذت منه الكأس الفارغة ورمتها بعيدا فارتطمت بالأرضية الصلبة الباردة. وانتشرت شظاياها في كلّ مكان. أعجبته حركات يدها الرشيقة وتسديدتها الموفّقة، وتأمّل - مبتلعا ريقه - زندها البضّ وتنشّق رائحتها العبقة. وأحسّ بمدّ من الحرارة ينهش جسمه رغم برودة الغرفة الخاوية تقريبا من الأثاث.
همّ بها فتمنّعت. عاود المحاولة، فسألته بصوت لم ينتبه إلى حشرجته "ما رأيك ببعض الموسيقى؟" هزّ رأسه بالموافقة، لا يهمّه ما سيسمع، كلّ ما يعنيه هو هذا القرب المثير العاصف الذي يسري كطوفان هادر في شرايينه وأحشائه. مع أولى النوتات الهادئة، التصقت به، فكاد يخرج من جلده، وقد تحوّل إلى كائن معجون بالشهوة والجموح. ومع الألحان المتسارعة التي ملئت الغرفة ضاقت به ملابسه وجسمه. فأصبح كتلة من الخلايا العصبية فائقة الحساسية. ومع تقدّم اللحن بدأ يلهث وهو ينزع ثيابه ويمزّق ثوبها. تحوّل كلّ مليمتر من جلده إلى كتلة من المثيرات العصبية المرتبط مباشرة بخلايا الاستقبال في دماغه. شعر بأن كلّ ما حوله يلفّ ولا يتوقف عن الدوران. وتحوّل إلى فم ويدّ ولسان وأصابع وتحوّلت كلّ مشاعره إلى لذة وألم.. إلى حرارة وبرودة.
وفي اللحظة التي بلغت فيها الموسيقى أوجها، وارتفعت به الرغبة شاهقا، وعصفت الريح مبعثرة كلّ شيء، فتحت النافذة. لم ينتبه إلى البومة الرمادية التي أطلّت برأسها ولا إلى الحراشف التي غطّت جسمها. لم ينتبه إلا حين دفعته بعيدا عنها. عندها أحسّ بالألم الذي أطبق على جسمه الهائج. فلحقها غير مستسلم.
لم يميّز وجهها في الظلام، ولم يرى وجهها المألوف لديه. فقد خانه البصر. والتحما في رقصة دامية، أثارت دوّامة من التراب والغبار وشظايا الزجاج الذي أدمى جسمه. قبّلها عميقا، وهو يمزّق شعرها. ثم غرس أسنانه في ذراعها البضّة وضغط بقسوة على جسمها المتحوّل. أما هي فقد لدغته في لسانه، ونهشت ذكره، وكسرت ضلوعه، ثم مضغت قلبه. فتحت الباب وخرجت به منتصرة إلى قلب العاصفة. وطافت سبع مرّات وهي تجرّه من أمعائه حول شجرة الصفصاف. ثم أطلقت زغرودة تلوّت في الفضاء مثل العواء.
وفي اللحظة التي انقشعت فيها الغيوم عن القمر الأسود المكتمل، التفتت إلى ما تبقى منه وقالت بصوت متهدّج يشبه الفحيح "الآن وفيت بنذري.. ونفّذت وعدي.. الآن أودّعك الوداع الأخير..". ابتسمت فخرج من شفتيها لسان أفعى ونبت على ظهرها جناحان وتحوّلت إلى بومة رمادية طارت بعيدا. ووحدها بقيت الحية المرقطة التي التفّت على جذع الشجرة لتحرس الأشلاء. وكانت اللوحة الزيتية كبيرة الحجم في غرفة الاستقبال ما تزال في مكانها تحيي الزائر بابتسامة دافئة. ولم تبرح المطرية المبلّلة مكانها من المدخل. وكأن ما من عاصفة مرّت من هنا.
روضة السالمي، تونس، 26 نوفمبر 2014

21‏/11‏/2014

الأم الخارقة

في البداية كنت أعتقد أنها موسيقى تصويرية لحلمي.. كنت أرى ساراس تشاندرا (Gautam Rode) بطل المسلسل الهندي الذي سهرت لأشاهده إلى ما بعد منتصف الليل.. وهو.. لايهمّ... وعندما أصرّت الألحان على التلوّي والارتداد والالتفاف في فضاء الغرفة الدافئة... مددت يدي أبحث عن الهاتف الجوال في حقيبتي.. تناثرت أوراقي، وتدحرجت الأقلام تحت سريري.. أطفأته وانكمشت في وضعية الجنين التصقت بنصفي الحنون وأنا أتلذّذ اللحظات الهادئة... خمس دقائق... خمس دقائق لا غير...
فتحت عيني على الضوء وقد انتشر متسلّلا من خلف الستائر.. أنصتّ لتغريد العصافير في الحديقة يغطي صوتها أبواق السيارات ولغط المارة ووقع الأقدام المسرعة.. نظرت إليه... اللعنة إنها السابعة والواحد وثلاثين دقيقة... اللعنة لماذا لم يوقظني أحد... نظرت إلى نصفي الثاني والشرر يكاد يتطاير والزبد يخرج من زوايا فمي "لماذا لم تستيقظ إلى الآن.".. وردّدت مقولتي اليومية "لماذا علي أنــــــا أن أكون أوّل من يستفيق؟"...
طبعا هي أسئلة ليس لدي وقت لانتظار إجاباتها.... أولادي... المدرسة... الطريق... وخاصة حارسة المدرسة... ستوبخني... حارسة المدرسة هي أهم شخص في حياتي.. من أجلها أستفيق باكرا ومن أجلها أشد شعر ابنتي الطويل في ضفيرة... ومن أجلها أجعل ابني يرتدي معطفه ويزرّره حتى وإن كان الطقس حارا... لو تعرف هذه الحارسة كم مهم هو وجودها في حياتي لطالبتني براتب شهري...
أحسست أنه علي أن أكون أقوى من الشدّة، أطول من المدّة، أحدُ من السين، أهدأ من السكون، أسرع من لمح العين، عليّ أن أكون المرأة الخارقة... المرأة الطائرة.. المرأة العجيبة.. أجل إنها أنا الأمّ الخارقة العطوف...
اقتحمت غرفة الأطفال... وعلى وجهي المعذّب صرخة الرسام النرويجي إدفارت مونك كلّ شيء في طريقي لونه أحمر دموي... وطبعا رسمت ابنتي نفس الصرخة على وجهها في إطار المثل القائل بما معناه الطنجرة وابنتها أو أمها.. لا يهمّ... في اقل من ثواني اتخذت ابنتي قرارا جريئا: نعم ستذهب بالبيجاما إلى المدرسة... وبسرعة البرق ارتدت حذائها... أما ابني ففي لمح البصر وبحركات تعجز الكاميرا بالتصوير البطيء أن تتابعها ألبسته البنطال والحذاء. كان يبكي لأنه يريد أن يشرب الحليب... إلى الجحيم إفطار الصباح.. إلى الجحيم كل أبقار العالم.. لحسن الحظ أن نصفي العطوف أعد له حليبه الذي انتزعته من يده بعد الرشفة الثالثة .. الوقت لا يسمح بالتخاذل.. نحن في معركة علينا أن ننتصر فيها...
كنت قائد فرقة عسكرية في مهمة أكيدة... شعارها الانضباط والمسؤولية..... قفزنا في السيارة بشعورنا الشعثاء وأكياس من النوم تتدلى من أهدابنا.. طبعا لا أحد منا غسل وجهه أو دخل التواليت ... سنقضي حاجتنا الصباحية في المدرسة أو موقع العمل.. لا يهم.. المهم هو أن نصل.. المهمّ أن تسمح لنا السيدة الفاضلة حارسة المدرسة بالالتحاق بالدرس...
لبست جوربي وحذائي في السيارة التي بدأت تشق بصعوبة طريقها بين آلاف السيارات المتأخرة مثلنا... نسيت أن أقول بأن نصفي الثاني شديد التهذيب إلى درجة تصعب على الوصف.. إلى درجة أنه يسمح بمرور السيارات من الطرق الفرعية دون أن ينسى أن يحيي السائقين بتلويحة من يده وابتسامة من فمه وإيماءة من رأسه ذي الوجه غير الحليق...
الكاظمون الغيظ هي عبارة تناسبني... طبعا لم يخلو الأمر من جملة دامية أطلقتها من فمي كالرصاصة وأنا أحاول الحفاظ على رباطة جأشي.. "عزيزي لماذا لا تنزل وتحييهم فردا فردا؟.." وبنبرة أكثر حدّة وبلهجة مصرية خالصة "احنا حنتهزأ.." وكنت أقصد حارسة المدرسة.. طبعا ذرفت ابنتي بعض الدموع.. في حين ابتسم ابني وقال "انأ لا يهمني.. سنبقى في قاعة الحجز إلى الحصة القادمة"، وكان توأم روحي يقود السيارة بكل التهذيب الموجود في العالم وهو يقول "اسمعوا أنا سأوقف السيارة بعيدا ولن أنظر في اتجاه تلك المرأة تصرّفوا..." لا .. لا .. أنتم مخطئون هو كان يمزح... إنه شجاع بما يكفي ويتحلى بكل صفات الأبوة.. ولكن كان لا بدّ من تلطيف الجوّ.. عندها غيّرت أنا التخطيط، وواصلت تزرير قميصي الذي ارتديته على عجل ما بين الباب الأول للبلفيدير وشارع الشاذلي زويتن، وألقيت خطبة صباحية عصماء مليئة بالمشاعر العميقة جديرة بأن تدرّس في المعاهد على رأي الفنانة أحلام.
وقلت وأنا أنظر في المرآة المعلّقة وأمسح بإصبعي المبلّل بالبصاق القذى من عيني:"اسمعوني جيدا.. ابنتي احتفظي بدموعك إلى ما بعد.. عندما تبقين وحدك في قاعة الحجز ويكون أصحابك في القسم.. وأنت تذكّر أن تراجع دروسك (كنت اقصد ابني لأنه نام دون أن يقوم بالواجب).. اسمعوني جيدا سنتصرّف وكأننا سنصل في الوقت المحدّد.. لأننا سننتصر.. اسمعوا معنا خمس دقائق إضافية (لان المدرسة تبقي الباب مفتوحا ليتمكن المتأخرون من الوصول) وسنكون بإذن الله أول المتأخرين الواصلين... اسمعوا وعوا (ألم أقل لكم بأنني ألقيت خطبة أعصم من خطبة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وأبتر من خطبة زياد بن أبيه لدى تولّيه البصرة) علينا أن لا نظهر فزعنا وخوفنا ودموعنا للحارسة... سنتصرّف بما يليق بنا من كبرياء وكرامة ورباطة جأش.. سنرفع رؤوسنا ونحن نتلقى سيل التوبيخ لكننا سندخل هذه المدرسة وسنصل وسنحضر الدرس.. سننتصر.. وسندخل هذه المدرسة (التكرار لتحفيز الهمّة والعزيمة) ...نحن فريق واحد فلنتسلح ببرودة أعصابنا.."أنهيت كلامي تماما أمام باب المدرسة الذي بدأ يغلق...
وكما في الأفلام وبالتصوير البطيء قفزت من السيارة ببنطلوني المفكوك وخيوط حذائي غير المربوطة وفتحت الباب الخلفي ليخرج أولادي الذين قفزوا وحقائبهم على ظهورهم مثل سلاحف النينجا أو الطيارين الذين يقفزون من الطائرة وعلى ظهورهم المظلات.. واندفعوا في اتجاه الباب الذي تفصله شعرة قبل أن يغلق.. ودخلوا منتصرين مطأطئي الرؤوس تحت أنظار الحارسة التي لم تجد الوقت الكافي لتقول شيئا... بقيت أنظر من بعيد وفي عيني دموع الفرح.. ابتسمت للحارسة التي لم تردّ لا بمثلها ولا بأحسن منها... وانتهت العاصفة الصباحية... لقد وصلنا في تمام الثامنة وست دقائق.. عانقت بعيني زوجي وقلت "ياس وي ديد ايت" أسوة بأوباما عندما اقتحم البيت الأبيض..
في تماما الثامنة وأربعة عشر دقيقة كنت أثبت حضوري في العمل أنا ونصفي الثاني (لأننا نعمل معا).. وفي تمام الثامنة وتسعة عشر دقيقة طلبت قهوة كابوتشينو وكرواسون في حين طلب زوجي قهوة ألونجي وبان أوشوكولا.. نظرنا إلى بعضنا بكلّ ودّ وتبادلنا تحية الصباح.. أجل تلك هي متع الحياة الدنيا.. كل شيء على ما يرام... فتحت الفايس بوك وأنا ألوك علكة الشوينغوم لأطرد مذاق القهوة من فمي، وكتبت ما يلي: "في البداية كنت أعتقد أنها موسيقى تصويرية لحلمي اللذيذ.. كنت أرى الرائع والمثير ساراس تشاندرا (Gautam Rode) بطل المسلسل الهندي الذي سهرت لأشاهده إلى ما بعد منتصف الليل.. وهو (لا داعي لذكر التفاصيل)... وعندما أصرّت الألحان على التلوّي والارتداد في فضاء الغرفة الدافئة... مددت يدي أبحث عن الهاتف الجوال في حقيبتي.. تناثرت أوراقي، وتدحرجت الأقلام تحت سريري.. أطفأته وانكمشت في وضعية الجنين التصقت بنصفي الحنون وأنا أتلذّذ اللحظات الهادئة... خمس دقائق... خمس دقائق لا غير... "
روضة السالمي، تونس، الجمعة 21 نوفمبر 2014

18‏/11‏/2014

DALIDA, LE TEMPS DES FLEURS TATTOUMM'R

Dans une taverne du vieux Londres

Où se retrouvaient des étrangers

Nos voix criblées de joie montaient de l'ombre

Et nous écoutiions nos coeurs chanter



Refrain :

C'était le temps des fleurs

On ignorait la peur

Les lendemains avaient un goût de miel

Ton bras prenait mon bras

Ta voix suivait ma voix

On était jeunes et l'on croyait au ciel

La, la, la...

{ On étaient jeunes et l'on croyait au ciel }



Et puis sont venus les jours de brume

Avec des bruits étranges et des pleurs

Combien j'ai passé de nuits sans lune

A chercher la taverne dans mon coeur



Tout comme au temps des fleurs

Où l'on vivait sans peur

Où chaque jour avait un goût de miel

Ton bras prenait mon bras

Ta voix suivait ma voix

On était jeunes et l'on croyait au ciel

La, la, la...

{ On étaient jeunes etl'on croyait au ciel }



Je m'imaginait chassant la brume

Je croyais pouvoir remonter le temps

Et je m'inventait des clairs de lune

Où tout deux nous chantions comme avant



Refrain :



Et ce soir je suis devant la porte

De la taverne où tu ne viendras plus

Et la chanson que la nuit m'apporte

Mon coeur déjà ne le reconnaît plus

12‏/11‏/2014

فيلم بالأبيض والأحمر


 كانت السابعة صباحا. عندما سمعت طرقا على بابي. كنت عازما على القيام برحلة صيد لتنشيط جسمي وتجديد دمائي. وكنت أوشك على الانتهاء من إحكام إغلاق النوافذ
. أسدلت الستائر سريعا، وفتحت الباب مردّدا بصوت خافت سيلا من الشتائم. ابتسمت لي بشفتين ممتلئتين مصبوغتين بالحمرة. فبردت أطرافي واشتدت خفقات قلبي. رددت على ابتسامتها بأفضل منها، وسألتها بصمت رافعا حاجبيّ عمّا تريد.
قدّمت نفسها على أنها جارتي في الطابق الرابع، وهي تحتاج إلى قليل من السكر الناعم لتعدّ فنجان قهوة. أوسعت لها الطريق فدخلت دون تردّد. كانت في بدايات الأربعين، وبها مسحة من جمال قديم..
بدت لي وهي تدخل شقتي كممثلة من الدرجة الثانية في فيلم تجريبي بالأبيض والأسود. تأكدت من خلوّ الممر من الجيران فأحكمت إغلاق الباب. .
كانت المرّة الأولى التي ألتقيها. غير أنه بدا لي من حركتها داخل فضاء الشقة بأنها تعرفها جيدا أو على الأقل تعرف ما تريد. فقد توجّهت رأسا إلى المطبخ معلّقة في طريقها على لون الستائر الحمراء.
سألتها مستظرفا جرأتها وأنا أتبعها متأملا خلفيتها المدهشة:
- وما العيب في أن تكون الستائر بهذا اللون؟
التفتت لي، وأجابتني بابتسامتها التي بدأت أتعوّد عليها:
- لأنها توحي لي بأن شيئا ما سيحدث... وكأنها ستفتح بعد نهاية فصل من مسرحية... أو كأن كائنا افتراضيا غامضا سيخرج من خلفها ..
هنّأتها على خيالها الخصب ودخلت المطبخ ورائها. أبدت هي تبرّمها من الأواني التي لم تغسل منذ أيام، وفتات الخبز وبقايا تفاحة مقضومة متعفنة على الطاولة. وقفت أنا في وسط المطبخ أتأملها وهي تشرع في غسل الصحون وتثرثر وكأنها تعرفني منذ زمن.
تكلّمت عن زوجها الذي هاجر إلى ايطاليا منذ خمس سنوات ولم يعد. حدّثتني عن الحوالات البريدية التي تصلها كلّ شهر بالعملة الصعبة والتي لم تعوّضها عن حضنه الدافئ. وعن احباطاتها وآمالها. وعن جاراتها وهن يلكن سيرتها وكأنها أحداث في مسلسل درامي. وأعدّت القهوة وهي تحدّثني عن طفولتها وعن رغبتها القديمة المبتورة في التمثيل. وسكبت فنجانين من القهوة مع السكر لي ولها وهي تحدّثني والدها القاسي وأمها الضعيفة المستسلمة.
كنت طيلة الوقت واقفا واضعا يدي في جيب بنطالي. أتأملها. أتفرّسها. وأراقب ثغرها الملوّن بالحمرة وهي لا تتوقف عن الثرثرة. وكانت هي تتكلّم فيما كنت أنا أتلمّسه وأداعبه وأقبض عليه بأصابعي وأفركه حتى أحسست بثقله ودفئه.
ولم تصمت جارتي إلا بعد أن أمسكتها بغتة من ذراعها بقوّة وأدنيتها مني حتى التصقت بي. ثم وبحركة خاطفة خفضت رأسها. وحينها أخرجته بخفّة من جيبي وأدخلته عنوة في فمها. لامس أسنانها في طريقه، لكنني تمكنّت من حشره بأكمله تقريبا. فقط بقيت أصابعي القابضة عليه خارجا تلامس شفتيها المنفرجتين الملونتين بالحمرة. ثمّ أفرغته فيها وأنا أركّز على الحائط قبالتي. وأنتظر متى سيتحرّك الستار ليعلن نهاية الفصل.
في الحقيقة كانت الطلقة الأولى كافية لقتلها، ولكنني استمتعت بإفراغه كلّه. أتأملها الآن وهي مفغورة الفم مثقوبة الجمجمة مرمية على البلاط الأبيض تسبح في دمها، وأحسّ بالنشوة واللذة... والخفة. ألقيت نظرة خاطفة على الساعة الحائطية التي ارتطمت بها بعض قطرات الدم، وفكّرت كم سيكون ممتعا أن ألحسها بعد أن تجفّ. كانت السابعة وخمسة وأربعين دقيقة صباحا. يبدو أنني لن أذهب إلى الصيد هذا اليوم، فقط سأكتفي بملء قوارير الدماء الطازجة وأضع اللحم في الأكياس..
روضة السالمي
تونس، 12 نوفمبر 2014

5‏/11‏/2014

وليمة للبحر....


وليمة للبحر....
أمضت كامل أمسية السبت تغسل الأكواب في ركنها المعتم من مشرب "البحر". تفكّر في عينيه العسليتين والشعر الأصهب الكثيف الذي يغطي وجهه وصدره وحتى أصابع يديه. لم تشعر بمرور الوقت ولا بحلول العتمة ولا بخروج آخر الزبائن. وما انتبهت إلى نشرة الأحوال الجوية في المذياع. وبالكاد غمغمت بضع كلمات اثر تمنيات النادل لها بقضاء نهاية أسبوع مريحة. بقيت وحدها فاتصلت بصديقتها، لتخبرها بأنها قد تتأخر في العودة. وانهمكت من جديد في تنظيف الأكواب.
وككلّ مرّة باغتها حضوره. لم تشعر إلا وأنفاسه الحارة تلمس خدّها، وتجعل جسمها يرتعش بفعل الكهرباء الساكنة. انزلقت الكأس من يدها وأحدثت ارتطاما مكتوما في حوض الغسيل المليء بالفقاقيع. حادت برأسها عنه ومسحت عن يديها رغوة الصابون. فتحرّك مفسحا لها بعض المجال للحركة. تقدّمت بخفّة نحو الباب ببنطلونها الجينز وكنزتها البرتقالية وحذائها الرياضي.
تأملها صامتا ثم سألها بغتة: - هل تتناولين العشاء معي الليلة؟
حرّكت رأسها بالنفي، وأجابته مبتسمة متمنّعة:
- لا يمكن أن أخرج في موعد مع رئيسي في العمل... وأخشى أن تعيقني العاصفة عن العودة...
صمتت قليلا ثم أضافت في دلال:
- ...كما أنني في الواقع لا أعرفك جيدا...
لحقها في خفّة قط، وقال وهو يغلق باب المشرب على عجل:
- فلنجعلها فرصة للتعارف.. نتعشى معا.. ثم... بعد أن... يمكنني أن أوصلك إلى بيتك...
في صباح اليوم التالي، عقب هدوء العاصفة التي أعلنت عنها النشرة الجوّية، وبعد أن حدثت الزوبعة في منطقة الضغط الجوي المنخفض وتلوّت خلالها الرياح العنيفة بشكل حلزوني في كلّ الأزقة، وبعد أن انتفضت الأشجار، وتطايرت الأثواب المنسية على حبال الغسيل، تنفست الأغصان الصعداء فيما تراكمت الأوساخ وأوراق الأشجار المعفّرة في الطرقات.
عمّت الفوضى الغرفة الضيّقة وكأن العاصفة مرّت من هناك. فردة حذاء رياضي قرب باب غرفة النوم... ثوب داخلي أحمر وسروال جينز رجالي فوق بلاط الممرّ البارد...كنزة برتقالية ملقاة بإهمال على الكرسي... ومن المطبخ فاحت رائحة مرق مشبع بالتوابل والبهارات.
أما هو فلم لم تدغدغه رائحة المرق. فقد كان مبعثرا تحدّق عيناه العسليتان بدهشة في السقف. فيما ارتخت شفتيه، وتسلّل خيط من الرغوة من جانب فمه. وتحت ضوء المصباح المعلّق، بدا شعره الكثيف الذي يغطي وجهه وصدره وحتى أصابع يديه مائلا للحمرة..
كانت تقطّع اللحم على الطاولة الخشبية بسكين ضخم عندما اقتربت منها وعانقتها برقة. تسارعت أنفاسهما الحارة، وسرت بين جسميهما الملتحمين رعشة اللذة... لبثتا برهة في عناق حميم. ثم قالت وهي تشمّ البخار المتصاعد كقطة:
- يا لهذه الرائحة... أشعر بالجوع بعد عاصفة البارحة... ماذا تطبخين؟
أجابتها مبتسمة وهي تمسح يديها مما علق بها من دماء:
- أعدّ فخذا مشوية ومرقا بالبهارات والتوابل...
 ثم أضافت غامزة بعينها:
- بالفعل كانت ليلة شاقة على الجميع... وبالخصوص هو...
تأملته صديقتها في صمت ثم قالت وهي تسكب لنفسها كوب ماء:
- في المرّة القادمة اختاريه أخفّ وزنا... فكّري كم سنتعب في حمل ما تبقى منه وإلقائه في البحر.
روضة السالمي نوفمبر 2014