21‏/11‏/2014

الأم الخارقة

في البداية كنت أعتقد أنها موسيقى تصويرية لحلمي.. كنت أرى ساراس تشاندرا (Gautam Rode) بطل المسلسل الهندي الذي سهرت لأشاهده إلى ما بعد منتصف الليل.. وهو.. لايهمّ... وعندما أصرّت الألحان على التلوّي والارتداد والالتفاف في فضاء الغرفة الدافئة... مددت يدي أبحث عن الهاتف الجوال في حقيبتي.. تناثرت أوراقي، وتدحرجت الأقلام تحت سريري.. أطفأته وانكمشت في وضعية الجنين التصقت بنصفي الحنون وأنا أتلذّذ اللحظات الهادئة... خمس دقائق... خمس دقائق لا غير...
فتحت عيني على الضوء وقد انتشر متسلّلا من خلف الستائر.. أنصتّ لتغريد العصافير في الحديقة يغطي صوتها أبواق السيارات ولغط المارة ووقع الأقدام المسرعة.. نظرت إليه... اللعنة إنها السابعة والواحد وثلاثين دقيقة... اللعنة لماذا لم يوقظني أحد... نظرت إلى نصفي الثاني والشرر يكاد يتطاير والزبد يخرج من زوايا فمي "لماذا لم تستيقظ إلى الآن.".. وردّدت مقولتي اليومية "لماذا علي أنــــــا أن أكون أوّل من يستفيق؟"...
طبعا هي أسئلة ليس لدي وقت لانتظار إجاباتها.... أولادي... المدرسة... الطريق... وخاصة حارسة المدرسة... ستوبخني... حارسة المدرسة هي أهم شخص في حياتي.. من أجلها أستفيق باكرا ومن أجلها أشد شعر ابنتي الطويل في ضفيرة... ومن أجلها أجعل ابني يرتدي معطفه ويزرّره حتى وإن كان الطقس حارا... لو تعرف هذه الحارسة كم مهم هو وجودها في حياتي لطالبتني براتب شهري...
أحسست أنه علي أن أكون أقوى من الشدّة، أطول من المدّة، أحدُ من السين، أهدأ من السكون، أسرع من لمح العين، عليّ أن أكون المرأة الخارقة... المرأة الطائرة.. المرأة العجيبة.. أجل إنها أنا الأمّ الخارقة العطوف...
اقتحمت غرفة الأطفال... وعلى وجهي المعذّب صرخة الرسام النرويجي إدفارت مونك كلّ شيء في طريقي لونه أحمر دموي... وطبعا رسمت ابنتي نفس الصرخة على وجهها في إطار المثل القائل بما معناه الطنجرة وابنتها أو أمها.. لا يهمّ... في اقل من ثواني اتخذت ابنتي قرارا جريئا: نعم ستذهب بالبيجاما إلى المدرسة... وبسرعة البرق ارتدت حذائها... أما ابني ففي لمح البصر وبحركات تعجز الكاميرا بالتصوير البطيء أن تتابعها ألبسته البنطال والحذاء. كان يبكي لأنه يريد أن يشرب الحليب... إلى الجحيم إفطار الصباح.. إلى الجحيم كل أبقار العالم.. لحسن الحظ أن نصفي العطوف أعد له حليبه الذي انتزعته من يده بعد الرشفة الثالثة .. الوقت لا يسمح بالتخاذل.. نحن في معركة علينا أن ننتصر فيها...
كنت قائد فرقة عسكرية في مهمة أكيدة... شعارها الانضباط والمسؤولية..... قفزنا في السيارة بشعورنا الشعثاء وأكياس من النوم تتدلى من أهدابنا.. طبعا لا أحد منا غسل وجهه أو دخل التواليت ... سنقضي حاجتنا الصباحية في المدرسة أو موقع العمل.. لا يهم.. المهم هو أن نصل.. المهمّ أن تسمح لنا السيدة الفاضلة حارسة المدرسة بالالتحاق بالدرس...
لبست جوربي وحذائي في السيارة التي بدأت تشق بصعوبة طريقها بين آلاف السيارات المتأخرة مثلنا... نسيت أن أقول بأن نصفي الثاني شديد التهذيب إلى درجة تصعب على الوصف.. إلى درجة أنه يسمح بمرور السيارات من الطرق الفرعية دون أن ينسى أن يحيي السائقين بتلويحة من يده وابتسامة من فمه وإيماءة من رأسه ذي الوجه غير الحليق...
الكاظمون الغيظ هي عبارة تناسبني... طبعا لم يخلو الأمر من جملة دامية أطلقتها من فمي كالرصاصة وأنا أحاول الحفاظ على رباطة جأشي.. "عزيزي لماذا لا تنزل وتحييهم فردا فردا؟.." وبنبرة أكثر حدّة وبلهجة مصرية خالصة "احنا حنتهزأ.." وكنت أقصد حارسة المدرسة.. طبعا ذرفت ابنتي بعض الدموع.. في حين ابتسم ابني وقال "انأ لا يهمني.. سنبقى في قاعة الحجز إلى الحصة القادمة"، وكان توأم روحي يقود السيارة بكل التهذيب الموجود في العالم وهو يقول "اسمعوا أنا سأوقف السيارة بعيدا ولن أنظر في اتجاه تلك المرأة تصرّفوا..." لا .. لا .. أنتم مخطئون هو كان يمزح... إنه شجاع بما يكفي ويتحلى بكل صفات الأبوة.. ولكن كان لا بدّ من تلطيف الجوّ.. عندها غيّرت أنا التخطيط، وواصلت تزرير قميصي الذي ارتديته على عجل ما بين الباب الأول للبلفيدير وشارع الشاذلي زويتن، وألقيت خطبة صباحية عصماء مليئة بالمشاعر العميقة جديرة بأن تدرّس في المعاهد على رأي الفنانة أحلام.
وقلت وأنا أنظر في المرآة المعلّقة وأمسح بإصبعي المبلّل بالبصاق القذى من عيني:"اسمعوني جيدا.. ابنتي احتفظي بدموعك إلى ما بعد.. عندما تبقين وحدك في قاعة الحجز ويكون أصحابك في القسم.. وأنت تذكّر أن تراجع دروسك (كنت اقصد ابني لأنه نام دون أن يقوم بالواجب).. اسمعوني جيدا سنتصرّف وكأننا سنصل في الوقت المحدّد.. لأننا سننتصر.. اسمعوا معنا خمس دقائق إضافية (لان المدرسة تبقي الباب مفتوحا ليتمكن المتأخرون من الوصول) وسنكون بإذن الله أول المتأخرين الواصلين... اسمعوا وعوا (ألم أقل لكم بأنني ألقيت خطبة أعصم من خطبة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وأبتر من خطبة زياد بن أبيه لدى تولّيه البصرة) علينا أن لا نظهر فزعنا وخوفنا ودموعنا للحارسة... سنتصرّف بما يليق بنا من كبرياء وكرامة ورباطة جأش.. سنرفع رؤوسنا ونحن نتلقى سيل التوبيخ لكننا سندخل هذه المدرسة وسنصل وسنحضر الدرس.. سننتصر.. وسندخل هذه المدرسة (التكرار لتحفيز الهمّة والعزيمة) ...نحن فريق واحد فلنتسلح ببرودة أعصابنا.."أنهيت كلامي تماما أمام باب المدرسة الذي بدأ يغلق...
وكما في الأفلام وبالتصوير البطيء قفزت من السيارة ببنطلوني المفكوك وخيوط حذائي غير المربوطة وفتحت الباب الخلفي ليخرج أولادي الذين قفزوا وحقائبهم على ظهورهم مثل سلاحف النينجا أو الطيارين الذين يقفزون من الطائرة وعلى ظهورهم المظلات.. واندفعوا في اتجاه الباب الذي تفصله شعرة قبل أن يغلق.. ودخلوا منتصرين مطأطئي الرؤوس تحت أنظار الحارسة التي لم تجد الوقت الكافي لتقول شيئا... بقيت أنظر من بعيد وفي عيني دموع الفرح.. ابتسمت للحارسة التي لم تردّ لا بمثلها ولا بأحسن منها... وانتهت العاصفة الصباحية... لقد وصلنا في تمام الثامنة وست دقائق.. عانقت بعيني زوجي وقلت "ياس وي ديد ايت" أسوة بأوباما عندما اقتحم البيت الأبيض..
في تماما الثامنة وأربعة عشر دقيقة كنت أثبت حضوري في العمل أنا ونصفي الثاني (لأننا نعمل معا).. وفي تمام الثامنة وتسعة عشر دقيقة طلبت قهوة كابوتشينو وكرواسون في حين طلب زوجي قهوة ألونجي وبان أوشوكولا.. نظرنا إلى بعضنا بكلّ ودّ وتبادلنا تحية الصباح.. أجل تلك هي متع الحياة الدنيا.. كل شيء على ما يرام... فتحت الفايس بوك وأنا ألوك علكة الشوينغوم لأطرد مذاق القهوة من فمي، وكتبت ما يلي: "في البداية كنت أعتقد أنها موسيقى تصويرية لحلمي اللذيذ.. كنت أرى الرائع والمثير ساراس تشاندرا (Gautam Rode) بطل المسلسل الهندي الذي سهرت لأشاهده إلى ما بعد منتصف الليل.. وهو (لا داعي لذكر التفاصيل)... وعندما أصرّت الألحان على التلوّي والارتداد في فضاء الغرفة الدافئة... مددت يدي أبحث عن الهاتف الجوال في حقيبتي.. تناثرت أوراقي، وتدحرجت الأقلام تحت سريري.. أطفأته وانكمشت في وضعية الجنين التصقت بنصفي الحنون وأنا أتلذّذ اللحظات الهادئة... خمس دقائق... خمس دقائق لا غير... "
روضة السالمي، تونس، الجمعة 21 نوفمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق