2‏/9‏/2014

سقوط

صمت ناجي قليلا ثمّ مال نحوي و قال لي هامسا كالمعتذر:
-… أنت تعرف كم تبدّلت الأحوال.
توقّف عن الكلام ثانية، ثمّ سوّى وضع نظّارته الشمسية و عاد يسرّ لي بنفس النبرة الخافتة:
-… و أنا، بالطبع لست غبيا إلى الحدّ الذي أدع فيه الفرصة تمرّ … ثمّ إن الوقوف عند الشكليات و الأمور النسبية يعرقل التقدّم...
فقاطعته في احتجاج مكتوم:
-و لكنّك، منذ حين، كنت تؤكّد..
إلاّ أنّه أوقف بحركة رشيقة من يده، أظهرت بوضوح معدن الخاتم في إصبعه، سيل الكلمات في فمي:
-أجل قلت ذلك و قد أقول أكثر من ذلك إن توفّرت الفرصة، لكنّك تعرف الظروف… ثمّ إنّ النساء…

عاد للصمت مرّة أخرى ريثما ينتهي النادل من مسح غبار الطاولة ووضع فنجاني القهوة. حرارة الطقس لا تتناسب و نهايات الخريف.. و كنت جائعا و مفرغا.. عاريا كأشجار الخريف.. تملّيت ما حولي، المقهى نصف فارغ. الساعة على الجدار ثابتة، منذ دخلنا عند الثالثة و الرّبع. تملّكتني رغبة في الانحناء داخلي و معانقة ذاتي المتربة، و في الصمت… دخل شرطي لم يكن يرتدي زيّه الرّسمي، لكن كلّ ما فيه كان يؤكّد هويّته.. و قع خطواته، نظرته، حتى رائحة سيجارته التي سبقته. جلس في الزاوية نظر نحو الساعة مليا ثمّ عدّل في ساعته، اقترب منه نادل مبتدئ - بدا ذلك جليا من خلال انحناءته المرتعشة وهو يمسح غبار الطاولة ثمّ من خلال ارتباك أصابعه حول فنجان القهوة الساخن - و كنت ضجرا فأعادني صوت ناجي المتعرّج إلى ركني المعتاد.
- في البداية استغربت تبدّل موقف بثينة… كانت تغار منها لا بل كانت تحقد عليها.. و أنت تعرف طبعا مشاعر الحقد و الحسد التي تعتمل في نفوس الفقراء تجاه الأوفر حظّا.
حاولت مقاطعته ليشغل لي سيجارة من ولاّعته الذهبيّة التي تركها بإهمال متعمّد على الطّاولة قرب فنجان قهوته التي بدأت تبرد، لكنّه تجاهل إشاراتي و مضى يواصل سرده.
- و حين أصبحتا روحا واحدة في جسدين لم أبد اعتراضا… بسبب ثراء آمال.. ثمّ أنت تعرف كم تغيّرت الأحوال..

توقّف عن الكلام فجأة و نظر بارتياب إلى الرجل الذي جلس لتوّه إلى الطاولة المجاورة ثمّ عاد يحدّق فيّ طالبا كلّ اهتمامي. في الحقيقة كنت قد بدأت أسأم حكايته و صوته الرّكيك و هذا المقهى الذي بدأ يكتظّ بمعطوبي الحروب النفسية… لماذا يصرّ على التمادي في سخافته.. كنت آمل أنّه قد و جد لي شغلا لكنّه بدل الحديث عمّا يهمّني يصرّ على التأكيد على تغيّر الظروف و تبدّل الأحوال.. كدت أغرق ثانية في أفكاري الباهتة و لكنّه داس بحذاء صوته الهامس على رأس أفكاري المفرغة و واصل:

-.. و حين بدأت بثينة تتخلّف عن مواعيدي.. و تضررت أوضاعي الماديّة و النفسيّة.. خفت، حاولت إثبات تفهّمي بهزّ رأسي إلاّ أنّ ناجي نظر في ساعته الذّهبية و عاد يقول لي و كأن المسألة لم تعد تعنيه:
- أجل خفت.. خفت أن أفقد خطيبتي الجميلة و المثقّفة و الذّكية..
-رشف من قهوته و ابتسم في غموض و هو يقول:
- .. و أنت يا صاحبي، تدرك و لا شكّ ضرورة أن تكون لك زوجة شابّة و جميلة و مثقفة و ذكية وبالخصوص.. متفتحة.. جدّا. صمت مجددا مفسحا لي المجال هذه المرّة فسألته مجاملا:
- و ماذا فعلت ؟
- لا شيء يستحقّ الذّكر، أجابني فقط ذهبت في زيارة إلى أهلها… و … رشوتهم. فقاطعته غير مصدّق:
- كيف ؟ ألم تهددهم بفسخ الخطوبة على الأقلّ ؟
-.. بنظرة تأنيب لم أتبيّن سببها إلاّ حين قال ببطء و كأنّه يمضغ كلمات مستعصية:

- بثينة لم تكن في ذلك الوقت خطيبتي بشكل رسمي… نحن نسكن في نفس الحيّ و كنت أتساهل معهم في خلاص مشترياتهم من متجر أبي.. ثمّ إنني كنت أعطيهم من باب التودد و من حين لآخر بعض المواد الغذائية التي تكون قد انقضت مدّة صلاحيتها.
قلت فزعا:
-ولم يحدث لأحدهم شيء.. تسمم مثلا … ثمّ ألم يتفطّن أحدهم للتاريخ المنصوص عليه فوق الغلاف…؟

فأجابني بهدوء
-طبعا لا, كنت أتحايل لمحو التاريخ من على العلب… ثمّ هل سمعت في حياتك يا صاحبي عن فقير يموت جراء التسمم.. وفي الحقيقة كنت أريد أن أبدو شهما في نظر الفتاة و لحسن الحظّ لم يكتشف أحد المسألة. لا هم و لا والدي..
- و ماذا كان سيفعل والدك لو علم بالأمر ؟
-كان سيغضب حتما، فقد كان معتادا على بيع تلك المواد الفاسدة و تصريفها.. على كلّ حال استطعت أن أنال ودّهم… حتّى أنني أحسست برغبتهم غير المعلنة في تزويجي من البنت.. تصوّر.. و حين زرتهم كان ذلك لأعرف سبب غياب بثينة عن المتجر..

سألته و قد بدأ صبري في النفاذ:
-فهل أطلعوك على السبب ؟

رشف من قهوته و أجال بصره في رواد المقهى ثمّ أجابني:

-تصوّر أن ذلك كلّفني رطلين من لحم الضأن و بعض الغلال.. المهمّ أنني عرفت كلّ شيء… ذلك أن بثينة لم تكن تغيب عنّي إلاّ لأنها تتابع مع صديقتها آمال دروسا خصوصية في اللغة الإنجليزية.
قلت و قد أحكم الضيق قبضته على صدري :
-فهل كانت بثينة في حاجة إلى تلك الدروس؟
فأجابني بحدّة و كأنّ تشبثي بمعرفة التفاصيل قد ضايقه:
-طبعا لا..
ثمّ أردف و قد لطّف في نبرته:
-.. مادام الأمر لا يكلفهم شيئا و لم يكن ليكلفني نفقة فلم لا تستغل الفرصة.. خاصة وأن الأستاذ من هناك.. أتريد قهوة أخرى.. حسن.. لا بأس ستحتاجها..

في الواقع لم أستوعب حينها ملاحظته. لكنني رحبت بالقهوة.. كي أخدع جوعي على الأقل.. ثمّ لم لا أستغل أنا أيضا الفرص.. وعاد ناجي يقول بحماس :

- إنّها العولمة يا صاحبي.. وقلت في نفسي أنه باب الرّزق و الدولارات و قد فتح عل مصراعيه.. و قد يصيبنا من ممثل هؤلاء القوم خير كثير … أنت تفهمني طبعا.

قطع عليه حماسته قدوم النادل و هو يحمل طبقا فيه فنجاني القهوة الجدد. كنت أحسّ بالعطش فطلبت زجاجة ماء و أشعلت سيجارتي بولاّعته دون أن أطلب الإذن هذه المرّة.. طبعا أفهمه و كيف لا أفهم.. يوم آخر يضيع في حديث لا ينتهي.. لماذا لا أستطيع أن أكون بنفس مستوى تفاهته.. الأوضاع تبدّلت.. حقّا.. رفعت رأسي المنهكة دلالة الفهم و أنا أسترق النظر إلى حذاءه اللاّمع.. لم أنتبه لخروج الشرطي من زاويته.. وجوه احتلت جزءا من المشهد. حماسة لاعبي الورق تذوب في روائح التبـغ و العرق. الجالس إلى الطاولة التي بجوارنا يتأمل بإمعان حزين خطوطا ما داخل فنجانه.. أو يتابع نسج خيوط حكاية ما.

-و لكي لا يبدو عليّ أيّ أثر لأطماعي.. بدأ الجملة من جديد، و للمرّة الأولى نظر في عيني مباشرة وصمت عند عودة النادل بزجاجة المياه. ثمّ سكب لي كأسا نظيفة و هو يواصل كلامه الهامس وهو يأسر نظراتي المنهكة:

-.. و لكي يتسنّى لي تحقيقها على مستوى الواقع تظاهرت بالغيرة.. أذكر لك كلّ هذا لأنني أدرك أنّك تفهمني. ثمّ أنت تعرف من دون شكّ ولع النساء بالرجل الغيور.. المهمّ أنني أصرّيت على لقاء مدرّس اللّغة الإنجليزية القادم من هناك.. التفت حوله بريبة و نظر مليّا إلى الجالس قربنا و عاد يهمس لي:

- في البداية رفضت بثينة و تذرّعت بكلّ الحجج الممكنة. فزادني ذلك إصرارا.. و باختصار مارست عليها كلّ الضغوط التي يمكن أن يمارسها رجل مثلي. إلى أن رضخت و طلبت بعض الوقت لتتشاور مع آمال في المسألة و تحاول إقناعها. سكت برهة. نظر في فنجانه ثمّ عاد يقول كالآسف:

- أحسست بالانتصار حين صعدت مع بثينة سيارة آمال التي ستقلنا إلى شقّتها في ضاحية قرطاج حيث سألتقي الرجل.. إلا أن القلق داهمني حين لمحت ابتساماتهما المريبة و نظراتهما المتواطئة، وكدت لولا الخجل العدول عن مشروع تقديم خدماتي للرجل و أن أطلب إلى آمال إعادتنا إلى حيّنا..

سألته و أنا أحاول أن أبدو مهتمّا:

-المهمّ هل قابلته ؟

فطوّح برأسه كما تفعل عادة الأرامل و خبط على ركبتيه و هو يقول بحماس أنساه أن يخفض صوته:

-في حياتي لم أصادف رجلا في مثل و سامته و جاذبيته.. رجل بالفعل.. كالذين نراهم في أفلام الوسترن.. بل أفضّل منهم. طويل القامة، عريض المنكبين، كثيف الشعر فاحمه، بشرته برنزية، عيناه زرقاوان.. كلّ ما فيه يصرخ بالرجولـــة و القوّة.. لو تراه.. حتى أنني احتقرت و سامتي التي طالما تفاخرت بها.. هؤلاء البشر تفوقوا علينا في كلّ شيء حتى في الرجولة. و أنت تدرك ذلك و لا شكّ..

في الواقع لم أكن أعرف ذلك و لا سواه. لم أعد واثقا من شيء. إلاّ أنني سألته مجاملة و بهدوء مفتعل لأن الحكاية طالت أكثر من اللاّزم و لأنني ضقت ذرعا بكلّ شيء. بخيبة أملي الجديدة.. بالمقهـــى.. بالساعة الثابتة و بصاحبي الذي لا أعرفه.. أو لا أكاد

-فكيف إذن لم تقع في غرامه إحدى الفتاتين أو كلتيهما؟
- و أنا أيضا طرحت على نفسي السؤال ذاته.. صمت قليلا مطّ شفتيه و هزّ رأسه و واصل.. لكن كلّ شيء توضّح لي في ما بعد.. بعد التحيّة و التعارف.. كنّا قد جلسنا متقابلين و قد بقينا لوحدنا في غرفة الجلوس بعد أن غادرتنا الفتاتان لسبب لم اعد أذكره..

نظر إليّ و كأنّه يبحث عن الكلمة المناسبة أو كأنّه يستدرّ عطفي و تفهّمي ثمّ واصل.
-أحسست وقتها أنني في مأزق.. أنت تعرف أنني لم أنه دراستي و أن مستوى إنجليزيتي ضحل للغاية.. وبعد تبادل الابتسامات المرتبكة و لأخفي توتـــري و شعوري بالإحراج اتجهت إلى الشرفة وتلهيت بالنظر إلى الحديقة من خلال الزجاج في انتظار عودة الفتاتين..

تلفت حوله باهتمام. سكب لنفسه كوب ماء جرعه دفعة واحدة ثمّ مال صوبي أكثر و خفض صوته، لأن الجالس إلى الطاولة المجاورة بدا و كأنّه يسترق السّمع، و قال بعد أن ابتلع ريقه بصعوبة:
-.. لم أسمع خطواته و هي تقترب.. لم أشعر بوجوده تماما إلاّ حين أصبح خلفي لا تفصلنا سوى مسافة قدم أو أكثر بقليل.. فالتفت إليه راسما على فمي ابتسامة مرتبكة سرعان ما إمّحت.. كان، جوني، وهذا هو اسمه، ينظر إليّ بغرابة و هو يتقدّم نحوي بالخطوة الأخيرة.. حتى أصبحت محاصرا بين جسمه القويّ و زجاج النافذة البارد.. لم استطع التقهقر أكثر. و لم استطع الخلاص.. ربما لأنّ المفاجأة ألجمتني و شلّ عدم إدراك الموقف حركتي.. و انتابني الفزع و هو يلتصق بي أكثر فأكثر.. ثمّ وهو يضغط عليّ بكلّ ثقله.. تضاعف خوفي و ثار الرجل الذي في داخلي.. لكن بعد فوات الأوان. حاولت دفعه إلاّ أنّه كان الأقوى. حاولت التملص أو الانفلات إلاّ أنّه استطاع بسهولة أن يشلّ حركتي وأن يجهض دفاعي.. ربما بسبب المفاجأة. و ربما بسبب ضعفي أو استعداداتي النفسية و الطبيعيّة.. تركته يقبلني.. لا أدري تماما ما حصل في تلك اللّحظات. أو ربما لا أريد أن أتذكّر.. و لم أفق من صدمتي إلاّ على ضــوء عدسة التصوير و هي مصوّبة نحوي.. لحظات سريعة عشتها كأنّها الأعوام.. و لم أكن قد استفقت تماما من المفاجأة الأولى حتى جمّدني مشهد بثينة. خطيبتي، مشروع حياتي.. وهي تمسك آلة التصوير لتسجل وقائع فقداني لشرفي.. و سقوطي..
و أنا أيضا لم أكن قد أفقت تماما من ذهولي و لست أدري كيف استطاعت حنجرتي أن تفرز صوتا إنسانيّا غبيّا يسأل بلهفة.
-و هل فقدته ؟ أعني شرفك..
فأجابني بهدوء وهو يشغل سيجارة مستوردة:
-ليس تماما.. إنّها مسألة نسبيّة، تختلف فيها وجهات النظر.. ثمّ إنّ مجلاّت الجنس الأمريكية لا تصل إلى بلادنا بسهولة بسبب الرقابة وكذلك الشأن بالنسبة للانترنيت إذ ليس بامكان الجميع الدخول في المواقع الخليعة.. ثمّ إنّهم يدفعون جيّدا و بالدولار و ذلك ينعش الاقتصاد.. نعم يا صاحبي، إنّها العولمة..

سألته بفضول وقد جف ريقي
- و خطيبتك ؟
-تزوجنا طبعا.. و أنت تدرك أكثر من أيّ شخص آخر أن تبادل قلّة الشرف أفضل بكثير من تبادل قلّة ذات اليد.. ثمّ أنت تعرف أكثر من غيرك أزمة البطالة والفقر وبالخصوص مسألة النسبية. ثمّ إنّ الأحوال قد تغيرت. وفتحنا محلاّ للتصوير الفوتوغرافي.. صمت قليلا ثمّ ابتسم ابتسامة كريهة وأضاف:

-لذلك قصدتك اليوم.. نحتاج إلى أناس متكتمين. وأنت صديقي و أنا أعرف تماما بأن ظروفك سيئة، أعتقد بأنه ليس لديك خيار آخر.. فإمّا أن تعيش و إمّا أن يدركك الجنون كغيرك.. فلماذا تضيع شبابك ونضارتك في حين ان الدولارات تنتظر إشارة منك لتتدفق عليك و ببعض الروتوش والماكياج ستبدو رائعا..
لم أكن قد استفقت تماما من ذهولي حين سمعت وقع سقوط الجالس إلى الطاولة المجاورة.. كان قد مال كثيرا في اتجاهنا ليسمع الحكاية.. و لم يكن ناجي قد أنهى كلامه بعد..
روضة السالمي   تونس أكتوبر 1999