22‏/10‏/2014

ليل الشتاء طويل موحش وبارد

هذه الحكاية أخبرني بها رجل عجوز قبيح جلس بجانبي عندما كنت أنتظر في محطة المترو. فقد قال لي هامسا وهو يتلفّت يمينا ويسارا وكأنه سيخبرني بشيء خطير، فعلا إن الجميع يعتقدون بأنه لا شيء أسهل من سرقة عجوز وحيدة في السبعين.
نظرت إليه وقد علقت بصنارة حكايته التي ألقاها أمامي بمهارة، فواصل:
وفي الحقيقة هكذا فكّر اللص الصغير، عندما تسلّل من النافذة التي تركتها له الخادمة مفتوحة، واختبأ تحت سريرها. كانت خطتهما بسيطة وواضحة وسهلة الانجاز ونسبة نجاحها عالية. فقط عليه أن ينتظر بهدوء حتى تنام العجوز ومن ثمة يرشّ عليها من البخاخ المشلّ للحركة ويتجوّل بحرية في البيت ليأخذ ما يشاء.
وكما توقّع تماما. ففي التاسعة مساء، استعدّت العجوز للنوم وأحكمت إغلاق باب غرفتها، وتفقدت النافذة والستارة. عدّلت حرارة الغرفة. وتمدّدت على سريرها العريض. أطفأت المصباح ودخلت تحت الغطاء. بدأت تغمض عينيها. وبدأ هو يحسّ بالاطمئنان على نجاح خطته.
وهنا خفض العجوز نبرة صوته. فقرّبت أذني من فمه رغم رائحة أنفاسه الكريهة. وواصل قائلا بصوت خفيض:
غير أن إحساسا غريبا تملّك تلك المرأة فأبعد النوم عن عينيها. لقد أحسّت بأنها ليست وحدها، وبأن هنالك هواء ثقيل وبارد يتلوى ويزحف في الغرفة. وأحسّت بالقشعريرة. فمدّت يدها المرتجفة وأضاءت المصباح. وجالت ببصرها في أرجاء الغرفة. لاشيء غير معتاد.
أخذني التحفّز لمعرفة بقية الحكاية، فأهملت انتظاري للمترو وركّزت مع فحيحه الهامس وهو يواصل قائلا:
وبالفعل فقد تفقدت العجوز جهاز التدفئة والستارة والنافذة والباب. كان كل شيء محكم الإغلاق. كلّ شيء يعمل بصفة عادية. عدّلت الغطاء، تكوّرت وأغمضت عينيها بشدّة.غير أنها لم تشعر بالدفء.
وهنا سألته عن اللص المختبئ تحت السرير، فأجابني، وهو يهز رأسه:
لقد حبس أنفاسه، وبقي ينتظر متوجّسا. وتملكه إحساس غامض بأنه ليس وحده، وبأنه مراقب. وبأنه يكاد يتجمّد من البرد.
وبشكل غير متوقع تطايرت ندف الثلج في كل مكان. وعندما رفعت العجوز رأسها إلى السقف أطلقت صرخة مدوّية قبل أن يعقد الخوف لسانها. واخترقت صرختها المذعورة جسم اللص المختبئ تحت السرير. فتجمّد في مكانه رغم أنه لم ير شيئا من المشهد. أما هي فقد رأت ما يكفي.
انتابني الفضول فحثثته على المواصلة، فقال وهو يرمش بعينيه الضيقتين:
لقد كان هنالك. معلقا من قدميه في السقف. جناحاه مثل خفاّش وله وجه قرد بأنياب بارزة. يتدلى لسانه مثل أفعى مكسوة بالريش. جسمه الأسود مرقط بالأبيض ويكسوه الزغب. يحرّك ذيله الطويل فيخرج الثلج من مؤخرته المكشوفة فيتحوّل كل شيء إلى جليد. ابتسم لها، فخرج البخار من فمه القبيح وهو يقول:
-         هل تشعرين بالبرد يا حبيبتي... هل تريدين أن أضمّك قليلا إلى صدري لتشعري بالدفء...
لم ينتظر ردّها فقد كانت متجمّدة فعلا. فنزل من السقف بخفة واحتضنها.
-         لماذا جعلتني أنتظر كلّ هذا الوقت.. سبعون عاما وأنا أنتظر كي ترفعي رأسك نحو السقف.. هذه الليلة لن تنامي بمفردك فليل الشتاء طويل موحش وبارد..
وبحركة تلقائية وجدتني ألتصق بالعجوز القبيح وهو يواصل سرده:
وفي الثامنة صباحا عندما دخلت الخادمة لم يفاجئها جسم العجوز المتخشّب فوق السرير. وإنما أصابتها هستريا حادة عندما نظرت تحت السرير ورأت خطيبها متيبسا زائغ النظرات وقد تجمّد الزبد الأبيض على جانب فمه.
أردت أن أسأله عن بقية الحكاية غير أن اللعين قفز بخفة قرد داخل عربة المترو واختفى تماما في الزحام.

روضة السالمي، تونس 22 أكتوبر 2014