5‏/11‏/2014

وليمة للبحر....


وليمة للبحر....
أمضت كامل أمسية السبت تغسل الأكواب في ركنها المعتم من مشرب "البحر". تفكّر في عينيه العسليتين والشعر الأصهب الكثيف الذي يغطي وجهه وصدره وحتى أصابع يديه. لم تشعر بمرور الوقت ولا بحلول العتمة ولا بخروج آخر الزبائن. وما انتبهت إلى نشرة الأحوال الجوية في المذياع. وبالكاد غمغمت بضع كلمات اثر تمنيات النادل لها بقضاء نهاية أسبوع مريحة. بقيت وحدها فاتصلت بصديقتها، لتخبرها بأنها قد تتأخر في العودة. وانهمكت من جديد في تنظيف الأكواب.
وككلّ مرّة باغتها حضوره. لم تشعر إلا وأنفاسه الحارة تلمس خدّها، وتجعل جسمها يرتعش بفعل الكهرباء الساكنة. انزلقت الكأس من يدها وأحدثت ارتطاما مكتوما في حوض الغسيل المليء بالفقاقيع. حادت برأسها عنه ومسحت عن يديها رغوة الصابون. فتحرّك مفسحا لها بعض المجال للحركة. تقدّمت بخفّة نحو الباب ببنطلونها الجينز وكنزتها البرتقالية وحذائها الرياضي.
تأملها صامتا ثم سألها بغتة: - هل تتناولين العشاء معي الليلة؟
حرّكت رأسها بالنفي، وأجابته مبتسمة متمنّعة:
- لا يمكن أن أخرج في موعد مع رئيسي في العمل... وأخشى أن تعيقني العاصفة عن العودة...
صمتت قليلا ثم أضافت في دلال:
- ...كما أنني في الواقع لا أعرفك جيدا...
لحقها في خفّة قط، وقال وهو يغلق باب المشرب على عجل:
- فلنجعلها فرصة للتعارف.. نتعشى معا.. ثم... بعد أن... يمكنني أن أوصلك إلى بيتك...
في صباح اليوم التالي، عقب هدوء العاصفة التي أعلنت عنها النشرة الجوّية، وبعد أن حدثت الزوبعة في منطقة الضغط الجوي المنخفض وتلوّت خلالها الرياح العنيفة بشكل حلزوني في كلّ الأزقة، وبعد أن انتفضت الأشجار، وتطايرت الأثواب المنسية على حبال الغسيل، تنفست الأغصان الصعداء فيما تراكمت الأوساخ وأوراق الأشجار المعفّرة في الطرقات.
عمّت الفوضى الغرفة الضيّقة وكأن العاصفة مرّت من هناك. فردة حذاء رياضي قرب باب غرفة النوم... ثوب داخلي أحمر وسروال جينز رجالي فوق بلاط الممرّ البارد...كنزة برتقالية ملقاة بإهمال على الكرسي... ومن المطبخ فاحت رائحة مرق مشبع بالتوابل والبهارات.
أما هو فلم لم تدغدغه رائحة المرق. فقد كان مبعثرا تحدّق عيناه العسليتان بدهشة في السقف. فيما ارتخت شفتيه، وتسلّل خيط من الرغوة من جانب فمه. وتحت ضوء المصباح المعلّق، بدا شعره الكثيف الذي يغطي وجهه وصدره وحتى أصابع يديه مائلا للحمرة..
كانت تقطّع اللحم على الطاولة الخشبية بسكين ضخم عندما اقتربت منها وعانقتها برقة. تسارعت أنفاسهما الحارة، وسرت بين جسميهما الملتحمين رعشة اللذة... لبثتا برهة في عناق حميم. ثم قالت وهي تشمّ البخار المتصاعد كقطة:
- يا لهذه الرائحة... أشعر بالجوع بعد عاصفة البارحة... ماذا تطبخين؟
أجابتها مبتسمة وهي تمسح يديها مما علق بها من دماء:
- أعدّ فخذا مشوية ومرقا بالبهارات والتوابل...
 ثم أضافت غامزة بعينها:
- بالفعل كانت ليلة شاقة على الجميع... وبالخصوص هو...
تأملته صديقتها في صمت ثم قالت وهي تسكب لنفسها كوب ماء:
- في المرّة القادمة اختاريه أخفّ وزنا... فكّري كم سنتعب في حمل ما تبقى منه وإلقائه في البحر.
روضة السالمي نوفمبر 2014