26‏/11‏/2014

لدغة القبلة الجامحة

لدغة القبلة الجامحة
اعتاد قضاء أمسيات الخريف الطويلة في غياب أمه وانشغال أبيه في عمله مع مربيته الجميلة ليلتي كما كان يحلو له أن يناديها. في تلك الأمسيات الطويلة، عندما يشتدّ عصف الرياح المولولة خارجا فتخدش أغصان شجرة الصفصاف بلور النافذة، ويدخل البرد مخالبه الطويلة من تحت الباب، كانت تجلس معه على الأريكة قبالة النافذة، وكثيرا ما كانت توشوشه حكايتها المفضّلة عن غواية العذراء الأولى.
كانت تبدؤها بصوت هادئ خفيض، يتحوّل تدريجيا، حسب نسق الحكاية، إلى فحيح هامس أو عويل صارخ. ومع تدفّق الكلمات من فمها الشهي كان يتصاعد خوفه، ويرتفع صدى دقات قلبه مغطيا همساتها المتحشرجة، ويسكنه الرعب، فيقشعر جسمه الصغير، وتضطرب حركاته، ويكاد يتوقّف تنفسه.
عندها كانت تعانقه وتغطيه بردائها، فيلتصق بها، يضع رأسه قرب ثديها الممتلئ الناهد، ويتشبّث بخصلات شعرها المتوهّج، ويشمّ رائحتها الشبيهة بالتراب حين يبلّله المطر. كانت هذه الحكاية سرّهما الصغير لا يعرفها أحد سواهما. وكان يتقبّل عناقها بغبطة كنعمة سماوية خالصة.
أعادت هذه اللوحة إلى ذاكرته حكايات ليليتي الجميلة التي اختفت من حياته فجأة وكأنها عصفور طار من النافذة بالرغم من أنها وعدته أن تأخذه معها. كان رسما تقطر ألوانه القاتمة بالحياة. أجادت الريشة إبراز تفاصيل سواد ظل القمر وحزن البومة على غصن الشجرة الضخمة. وأبدعت الرسامة في تصوير شبق آدم وهو يقضم تفاحة صدر حواء المنشغلة عنه بالأفعى الملتفة حول خصرها. أغوته أجواء اللوحة فلم ينظر إلى غيرها. انتظر خلوّ المعرض من الزائرين وذهب إلى الرسامة الشابة ليجري معها حوارا صحفيا، جعله مطوّلا أكثر من اللازم - إذ كان يراودها- ولم تبخل هي عليه بالإجابات والتفاصيل فقد كانت مستجيبة. وعندما تأخّر الوقت عرض عليها أن يوصلها إلى بيتها وافقت مبتسمة ومشجّعة.
كانت العاصفة في بدايتها فهبّت الريح متردّدة بين الاتجاهات، أما الأمطار فقد هطلت بسخاء. حاول أن يغطّيها بمطريته لكنّها رفضت لأنها تحبّ الالتحام مع الطبيعة... "ثمّ إنّ بيتي قريب من هنا" أردفت بإغراء لا يقاوم.. فأجابها وهو يتأمّل خصلاتها الصهباء التي موّجتها الرياح وصدرها الناهد وقد كشف قماش الفستان المبلّل تفاصيله:
وأنا أيضا... أحبّ الغوص في أعماق الطبيعة... والالتحام مع تفاصيلها...
- عندما وصلا إلى بيتها الصغير الذي تظلّله شجرة صفصاف كبيرة، وافق دون تردّد على دعوتها لشرب العصير. وخمّن أنه من الممكن اختصار المراحل ليكون العناق بداية تعارفهما. فتحت له الباب فولج خلفها مسرعا. ترك المطرية في المدخل متأمّلا اللوحة الزيتية كبيرة الحجم في غرفة الاستقبال. كانت صورة لامرأة صهباء بنية العينين تحيي الزائر بابتسامة دافئة. شعر بالألفة وكأنه عاش هذه اللحظات في حياة سابقة. شيء ما ذكّره بمربّيته والأمسيات الطويلة التي قضاها معها قبل أن اختفائها المفاجئ دون وداع.
جلس على الأريكة الوحيدة قبالة التلفزيون ينتظرها. وكما في ذكرياته، كانت الريح تعوي كسرب من الذئاب احتفالا باكتمال القمر. ومن النافذة الوحيدة بدت له أوراق شجرة الصفصاف وهي تطير مذعورة في دوامة تخدش عتمة الليل البارد.
عاد إليه خوف صبي صغير في حجرة معتمة. وعلى وقع غرغرة المزاريب وهي تزدرد الأمطار النازفة، تراكضت أفكاره في أنحاء شتى، وازدحمت في ذهنه كخيل جامحة لا تعرف المفرّ. ومع وصول العاصفة إلى ذروتها تنامى في داخله انقباض عوّض لحظات الألفة الأولى. وودّ لو أنه لم يستجب لرغباته واكتفى بأخذ رقم هاتفها.
وقبل أن يستبدّ به الندم أقبلت نحوه. مثيرة في فستانها الأسود كالبدر ليلة تمّه. جامحة بشعرها الأصهب. جريئة بنظراتها التي تكاد تجرّده من ثيابه. تبدّدت مخاوفه حين قدّمت إليه العصير قائلة "اشربه... سيجعلك أكثر دفئا". وجلست قربه فتنشّق رائحتها. كان عطرا مألوفا لديه. تأمّلته وهو يمسك الكأس كطفل صغير ومالت على أذنه فتغلغل صوتها في كلّ مسامه وقالت هامسة:
.. مثل رائحة التراب المبلّل بالمطر...
- صعق كمن مسّه سلك كهربائي عاري، وتساءل في سرّه إن كانت تقرأ أفكاره، وأجاب وهو يبتلع ريقه: أجل... كنت أفكّر بأن رائحتك فيها شيء مألوف..
- فأجابته بهدوء "..مألوف مثل رائحة الأمهات.. في ليالي الخريف الطويلة". نظر إليها محاولا التماسك، وسألها:
هل كانت لديك مربّية؟
- فأجابته وهي تلعب بخصلات شعرها:
أجل... وفي أمسيات الخريف الطويلة كانت تحكي لي قصّتها... وكنت وأنا في حضنها أستنشق رائحة التراب المبلّل بالمطر، وأتلهى بخصلات شعرها المصبوغة بالحناء...
يا لهذه الصدف التي تجمعنا..
قال غير مصدّق..
أجل إنه القدر ... وربما أكثر من القدر...
- أجابته وهي تنظر إلى النافذة، ثم قالت بعد صمت قصير:
أشرب كأسك فأمامك ليل طويل..
- حمّسه تلميحها فدلق العصير الأحمر الشفاف في فمه دفعة واحدة دون أن يسأل عما يشرب. فقد كان في الحقيقة راغبا بشدّة في إنهاء الحوار سريعا ليعتليها من دون مقدّمات. أخذت منه الكأس الفارغة ورمتها بعيدا فارتطمت بالأرضية الصلبة الباردة. وانتشرت شظاياها في كلّ مكان. أعجبته حركات يدها الرشيقة وتسديدتها الموفّقة، وتأمّل - مبتلعا ريقه - زندها البضّ وتنشّق رائحتها العبقة. وأحسّ بمدّ من الحرارة ينهش جسمه رغم برودة الغرفة الخاوية تقريبا من الأثاث.
همّ بها فتمنّعت. عاود المحاولة، فسألته بصوت لم ينتبه إلى حشرجته "ما رأيك ببعض الموسيقى؟" هزّ رأسه بالموافقة، لا يهمّه ما سيسمع، كلّ ما يعنيه هو هذا القرب المثير العاصف الذي يسري كطوفان هادر في شرايينه وأحشائه. مع أولى النوتات الهادئة، التصقت به، فكاد يخرج من جلده، وقد تحوّل إلى كائن معجون بالشهوة والجموح. ومع الألحان المتسارعة التي ملئت الغرفة ضاقت به ملابسه وجسمه. فأصبح كتلة من الخلايا العصبية فائقة الحساسية. ومع تقدّم اللحن بدأ يلهث وهو ينزع ثيابه ويمزّق ثوبها. تحوّل كلّ مليمتر من جلده إلى كتلة من المثيرات العصبية المرتبط مباشرة بخلايا الاستقبال في دماغه. شعر بأن كلّ ما حوله يلفّ ولا يتوقف عن الدوران. وتحوّل إلى فم ويدّ ولسان وأصابع وتحوّلت كلّ مشاعره إلى لذة وألم.. إلى حرارة وبرودة.
وفي اللحظة التي بلغت فيها الموسيقى أوجها، وارتفعت به الرغبة شاهقا، وعصفت الريح مبعثرة كلّ شيء، فتحت النافذة. لم ينتبه إلى البومة الرمادية التي أطلّت برأسها ولا إلى الحراشف التي غطّت جسمها. لم ينتبه إلا حين دفعته بعيدا عنها. عندها أحسّ بالألم الذي أطبق على جسمه الهائج. فلحقها غير مستسلم.
لم يميّز وجهها في الظلام، ولم يرى وجهها المألوف لديه. فقد خانه البصر. والتحما في رقصة دامية، أثارت دوّامة من التراب والغبار وشظايا الزجاج الذي أدمى جسمه. قبّلها عميقا، وهو يمزّق شعرها. ثم غرس أسنانه في ذراعها البضّة وضغط بقسوة على جسمها المتحوّل. أما هي فقد لدغته في لسانه، ونهشت ذكره، وكسرت ضلوعه، ثم مضغت قلبه. فتحت الباب وخرجت به منتصرة إلى قلب العاصفة. وطافت سبع مرّات وهي تجرّه من أمعائه حول شجرة الصفصاف. ثم أطلقت زغرودة تلوّت في الفضاء مثل العواء.
وفي اللحظة التي انقشعت فيها الغيوم عن القمر الأسود المكتمل، التفتت إلى ما تبقى منه وقالت بصوت متهدّج يشبه الفحيح "الآن وفيت بنذري.. ونفّذت وعدي.. الآن أودّعك الوداع الأخير..". ابتسمت فخرج من شفتيها لسان أفعى ونبت على ظهرها جناحان وتحوّلت إلى بومة رمادية طارت بعيدا. ووحدها بقيت الحية المرقطة التي التفّت على جذع الشجرة لتحرس الأشلاء. وكانت اللوحة الزيتية كبيرة الحجم في غرفة الاستقبال ما تزال في مكانها تحيي الزائر بابتسامة دافئة. ولم تبرح المطرية المبلّلة مكانها من المدخل. وكأن ما من عاصفة مرّت من هنا.
روضة السالمي، تونس، 26 نوفمبر 2014