8‏/12‏/2014

الحبّ دائما في المؤخرة




في آخر المساء، كنت أن أنهيت احتساء كوكاكولا لايت، وكان هو قد شرب قهوة الاكسبريس ودخّن شيشة التفاح نافخا دخانه في الهواء اللاسع البرودة. وكنا قد ثرثنا مليا حول نظرية اتساق الموجات الفيزيائية، وتطرقنا إلى إسهام نويمان في نشأة نظرية الألعاب، كما ساقنا الحديث وهو ذو شجون، إلى التعمّق في تاريخ الأنساق ودورها في تطوير الأنماط الاجتماعية.
ولم ننتبه، ككلّ العاشقين حولنا، إلى مرور الوقت إلا حين جاء النادل لينظّف طاولتنا، فدفعت الفاتورة، لأنني كنت صاحبة الدعوة، وغادرنا المقهى بسمائه التي بدأت تغيب شمسها وطيور النورس وهي تعود إلى أعشاشها...
وفي الطريق من مقهى الرصيف البحري إلى محطة القطارات.. سألته للمرة الألف منذ أن تقبلنا قبل ثلاث سنوات "متى سنتزوّج؟" فأجابني بجدّية ومن دون أن ينظر نحوي:
-       ضعي نفسك مكاني... ألا أستحق السعادة؟
ومن لهفتي تعجّلت الإجابة وقلت "طبعا تستحق السعادة" ثم أردفت كالمبتهل: "ولكنني أحبك". فأجابني بصبر المعلّم الذي يشرح درسا لتلميذه الغبي:
-       وهي أيضا تحبني..
صمّت برهة وأنا حرّك خاتما فضيا في إصبعي، ثمّ قلت وكأنني أمتحنه: "ومن تحبّ أنت؟"
أوقف السيارة في الإشارة الحمراء ثم نظر إليّ بعينين متعبتين، اصفرّ أبيضهما بفعل الشرب والتدخين، وقال ملاطفا:
-       أنت جميلة حقا، وتجيدين اللعب به..
توقّف عن الكلام هنيهة، موحيا بأنه يراجع مشهدا في خياله، ثم واصل بلهجة حالمة وقد لمعت عيناه "ولكن هي..."
"هي ماذا؟" سألته مستفزّة، وقد رفعت نبرتي فخرج صوتي حادا مجروحا: "ما الذي تجده فيها ولا أملكه أنا؟" فأجابني بحرارة صادقة وهو ينطق كلّ حرف على حدة، وكأنه يمرّر لسانه على كلّ حرف:
-       مؤخرتها...
لم أصدّق أذني، فقد تخيلت كلّ الاحتمالات، ووضعت كلّ الأسباب، لكني أبدا لم أر المسألة من تلك الزاوية، فصرخت متألمة ومتعجّبة غير مصّدقة:
-       مؤخرتها؟
اشتعلت الإشارة الخضراء فتحرّكت السيارة، كنا نوشك على الوصول إلى المحطة، ولم يعد أمامي وقت أطول للحديث، فكّرت أنني سأقضي أسبوعا آخر وربما أشهرا قبل أن أستجمع شجاعتي وأسأله مجددا لماذا لا يتزوّج بي.. وكرّر إجابته وهو يسترق النظر نحوي كالمتلصّص يريد أن يقبض على انعكاس مشاعري على وجهي:
-       أجل.. أردافها رائعة...
رمقته مثل جرو صغير يستعطف سيده لكي يسمح له بلعق يده:
-       ولكنك قلت بأنني أجيد المعانقة والملاعبة..
فأجابني بلطف وهو يوقف السيارة أمام المحطّة، وينطق كلّ الحروف من مخارجها لأستوعب كلامه جيدا:
-       لا أنكر ذلك.. أحبّ معانقتك.. ولكن هي... إنها شيء مختلف... عندما ترافقني في الشارع وتهز مؤخرتها بغنج... وعندما ينظر الجميع إلى ذلك اللحم المكوّر المكتنز أحسّ بأنني أقبض بيدي على العالم وأشكّله مثلما أريد..
وفي آخر محاولة يائسة بائسة مني، كرّرت بلا اقتناع:
-       ولكنني أحبك..
فأجابني وهو يومئ إلى باب السيارة كي أنزل:
-       وأنا أيضا أحبّك.. ولا أريدك أن تبتعدي عني.. ولكن ضعي نفسك مكاني.. وفكّري في سعادتي..
ثم أضاف وهو يرجوني بنظرة مستعطفة:
-       حتى أنني فكّرت أن نكون جميعنا معا..
أجبته وأنا أفتح الباب كمن تحت تأثير مخدّر:
-         طبعا أريدك أن تكون سعيدا.. ولكن ما معنى أن نكون جميعنا معا..
فأجابني مبتسما بطيبة المنتصر في حرب كلامية:
-         فكّري في الأمر.. سنكون جميعنا سعداء... ستكون علاقتنا رائعة.. لا تجيبي الآن.. فقط فكري بالأمر...
لم أفكر بالأمر حينها فقد كان القطار يحرج للتوّ من المحطة، وكنت وقتها أتخيّل برودة الكراسي الحجرية التي سأضع عليها مؤخرتي الهزيلة في انتظار القطار الموالي... ولكنني بعد ذلك فكّرت في الأمر.. استغرقتني المسألة سنة كاملة لأوفّر ثمن السيليكون الذي حشوت به أردافي...

روضة السالمي، تونس 8 ديسمبر 2014