11‏/12‏/2015

Morteza Pashaei - Chetor Delet Omad [ 2010 ]

Morteza Pashaei (Persian: مرتضی پاشایی‎‎; August 11, 1984 – November 14, 2014) was an Iranian musician, composer, and pop singer.
Born and raised in Tehran, Pashaei studied graphic design and was interested in music since his childhood, when he began playing guitar. Less than two decades later, he was diagnosed with cancer in 2013 and hospitalized at Tehran's Bahman Hospital on November 3, 2014 as his health deteriorated. He died on November 14, 2014, aged 30.

https://en.wikipedia.org/wiki/Morteza_Pashaei

30‏/11‏/2015

سحابة عابرة في مربّع من الزرقة

سحابة عابرة في مربّع من الزرقة

روضة السالمي – تونس - 30 نوفمبر 2015

ما من أحد توقّع ما فعلته بيّة ذلك اليوم.
بدأ النهار عاديا. انسكبت أشعة الشمس عمودية على بلاط الصحن. فعكست الأرضية انكسار الأشعة على الجدران التي عشّشت فيها الرطوبة.

لعقت إحدى القطط يديها ونظّفت وجهها مرارا. في حين تمسّح القط برتقالي اللون، بصوته الذكوري الصاخب على لوح الباب الأزرق.
ظهرت غيمة ثم ابتعدت مسرعة واختفت وسط اللون السماوي.

ربّما حدث ذلك في الحادية عشرة صباحا.
وكانت بيّة، اذا استثنيا قططها الخمسة أو الستة وعشرات الجرذان وساكن العليّة وابنها حوسين، بمفردها في البيت.
لم تفح من المطبخ رائحة الطعام. فالعروسي لم يعد بعد، ولم يكن في البيت ما يؤكل، كما أن بيّة لم تكن تحبّ الطبخ.

وكان الزقاق هادئا.
أغلب السكان كانوا إما يغطون في النوم في انتظار الموت الذي يبطئ في القدوم، أو يغطون في النوم بعد السهر الطويل، أو يغطون في النوم لأنه المتعة الوحيدة المتاحة.

"روبافييييكيا.... روبافييييكيا..."
اخترق الصوت المشهد الصامت.

حرّكت القطة السمينة التي كانت تلعق يديها وتنظف وجهها أذنيها القصيرتين في اتجاه مصدر الصوت. رفع القط ذي اللون البرتقالي رأسه وحكّ بقائمته الخلفية براغيثا عشّشت في جسمه. ومن الغرفة الوحيدة اندفعت قطّتان صغيرتان وسط الفناء المبلّط تتنازعان كيسا بلاستيكيا أسود.
ربّما اندفعت في تلك اللحظة، وبسبب ذلك الصوت الممطوط لبائع الروبافيكيا المشبع بالتبغ والخمر وسوء التغذية، فكرة ما إلى عقل بيّة، أو ما تبقى من عقلها.

جميعنا كان يطلق عليها اسم المهبولة.
وقليلون كانوا يعرفون أن اسمها الحقيقي هو البيّة.
وحفنة من الأشخاص يعرفون أنها كانت في الثالثة عشرة عندما تزوجت العروسي. زواجا لإنقاذ سمعة العائلة. فقد كانت بيّة ذات الثلاثة عشرة سنة حاملا بابنها الأوّل الحطّاب من العروسي الذي يفوقها بعشرين عاما.
كان العروسي عربيدا وزير نساء وعاطلا عن العمل، ولسبب ما وافق على زواج التسوية. ولم تكن البيّة التي أيقظها اليوم صوت بائع الروبافيكيا، وهي في تلك السنّ مميّزة جميلة أو تنحدر من أسرة ميسورة. ولسبب مجهول استمر زواجهما إلى أكثر من ثلاثين عاما.

حملت بيّة ذات العينين الزرقاوين والأنف الأفطس والساقين المعوجّتين والشعر الشائك، خلال سنوات زواجها عديد المرات، ولم يعش من أبنائها سوى خمسة.

أكبر أبناء البيّة هو الحطّاب، في الثلاثين من عمره، وهو يحترف تقليد الرسوم المشهورة، وتغطي وجهه لحية صهباء لم يشذّبها قط، وعلى جبينه دائرة داكنة اللون بفعل السجود. ورث عن أمه عينيها الضيقتين الزرقاوين وعن أبيه لونه المائل إلى الزرقة. وكان على الحطاب أن يذهب مرتين يوميا إلى مركز الأمن بالحفصية ليثب وجوده، فقد كان تحت المراقبة الإدارية.

مراد شُهر "جرادة" هو الابن الثاني، وله من العمر خمسة وعشرين عاما، إذ أجهضت البيّة عديد المرات منذ حملها الأوّل، كما أنها وضعت بنتا توفيّت بعد أشهر من ولادتها. وقد استحقّ جرادة لقبه بسبب نحافته و طول ساقيه في غير اتساق مع جذعه، وسرعته في الركض والقفز بعد كلّ عملية نشل يقوم بها. وهو مختص في سرقة أحذية المصلّين وبيعها في سوق باب سيدي عبد السلام.

الابن الثالث لهذه العائلة هو شدولة، وهو في الرابعة والعشرين، نحيف الجسم مخطوف اللون، على وجهه آثار بثور وعلى ساعديه آثار تقطيع بالموسى. وهو رسام مثل شقيقه، كما أنه مصاب بربو مزمن. وقد أصرّت البيّة على إطلاق هذا الاسم عليه بعد أن حلمت بأن بلحسن الشاذلي زارها في المنام وطلب منها بعد أن أعطاها دفترا ممزقا أن تسمي ابنها على اسمه.

أما الحوسين أو الحوسي، ذي الثالثة والعشرين من عمره، فهو أوّل شيء تراه لو دفعت باب الدار ودلفت السقيفة. كما أنه أوّل رائحة تشمّها، قبل رائحة الزبالة، والسمك المقلي، وبراز القطط، والمرحاض.
 فقد كان الحوسي يتبوّل ويتغوّط في ثيابه وفي مكانه. والوحيد الذي كان يهتم بنظافته هو الحطّاب، الذي كان يحرص على تحميمه مرّة كلّ أسبوع قبل أن يعانقه.
وكان الحوسين مصابا بمرض نفسي يجعله يقرفص أرضا صيفا وشتاء ويسند حائط السقيفة بجسمه المهزوز إلى الأمام والخلف بلا انقطاع. ولا يتكلّم أو يستمع لأحد. ومن حين لآخر يصاب بنوبة هسيترية من الضحك غير المبرّر. وقد تحدّث البعض عن ضربات شديدة ومتكرّرة تلقاها على رأسه جعلته يفقد الصواب.

أما آخر العنقود فهي خدجدج، ذات العشرين عاما، وهي رغم ساقيها المقوستين وأسنانها البارزة فقد كانت على قدر معقول من الملاحة بفضل عينيها الزرقاوين. وكانت خدجدج وهو تصغير لاسم خديجة تسكن في بيت الجيران لأنها لم تجد في بيت أهلها مكانا تغيّر فيه ملابسها.

"روبافييييكيا.... روبافييييكيا..."
توغّل صوت البائع المتجوّل داخل الأزقة. وبقي بعض صدى صوته ليصل متشعّبا عبر الجدران التي لم تفلح أشعة الشمس في تدفئتها.

وفجأة دبّت الحركة في جسم البيّة. وتملّكتها حماسة كبيرة. فراحت تتنقّل جيئة وذهابا داخل حجرة النوم. ثم فتحت الباب وخرجت مسرعة.

لم يتسنى لأحد رؤيتها في تلك اللحظات. ولا حتى القطط التي تحرّكت على مضض مفسحة لها المجال لكي تمرّ. فقد مرّت كسحابة عابرة.
في السقيفة كان الحوسي، بجسمه النحيف العاري إلا من بعض الأسمال، يهتزّ إلى الأمام والخلف في وضعه المقرفص الأبدي. ربما يكون هو الوحيد الذي شاهد بيّة وهي تخرج حاملة تحت إبطها كيسا أسودا كبيرا.

بعد نحو ساعة عادت بيّة.
شعرت القطط بعودتها فابتعدت عن طريقها في غير عجلة.

جلست بيّة على البلاط وفتحت الكيس الذي كانت تحمله وأخرجت حذاء رجاليا لامعا، أبيض وأسود، من النوع الذي كان منتشرا في الأفلام الراقصة التي تصوّر فترة الخمسينات. أزاحت بضربة من ساقيها المعوجتين الخفّ الممزقّ الذي كانت ترتديه، فاستقرّا قرب الباب اللوحي الأزرق حيث كان القط يحكّ ظهره، وارتدت بسعادة واضحة زوج الحذاء.
تمشّت في الفناء المبلّط مثل عارضات الأزياء فأصدر الحذاء عند كلّ خطوة صوتا مقزقزا. وبخفّة الفرشات تحرّكت بيّة بخطوات راقصة، ثم انحنت على الكيس وأخرجت مطرية. كانت مطرية زرقاء اللون وبها نقاط بيضاء مثل غيوم شاردة في الفضاء.

نظرت بيّة أوّلا إلى مربّع السماء الذي يغطي الفناء، ثّم أمعنت النظر إلى النافذة الوحيدة لغرفة العليّة وبعد ذلك فردت المطرية وتبخترت بها بين أرجاء الفناء. وهي تغطي بها رأسها تارة وتسندها إلى كتفها تارة أخرى، وكأنها تقلّد ممثلة سينمائية.

مال الظلّ على الحائط الغربي قبالة نافذة العليّة. ربما تكون بعض عصافير الدوري قد زقزقت بكسل ثم انكفأت على نفسها تفلي أجنحتها بصمت فاتر. عاد التلاميذ من مدارسهم، في تلك الفترة من النهار، وبدؤوا لعب الكرة. وهكذا دبّت بعض الحياة في الزقاق.

عاد العروسي نحو الثانية بعد الزوال. فقد كان يشتغل حمّالا في سوق السمك. تعلّقت به القطط التي قضت صباحها متمدّدة في الشمس الربيعية الدافئة.
كان البيت تقريبا فارغا، إذا استثنينا البيّة والحوسي والقطط ومجموعة الفئران وساكن العلّية. دخل العروسي إلى المطبخ وسلق بعض المحمّص مع الماء والزيت والسكر. فقد كان ذلك هو الأكل الوحيد الذي يتناوله الحوسين مرّة في اليوم وفي بعض الأحيان في اليومين إذا حدث ونسي العروسي أمره، وكثيرا ما كان ذلك يحدث. ثم أخذ يقلي كيلو السردين التي سيتناوله مع قارورة اسبريتو.

كان الحطّاب يقبع منذ أسبوعين في الإيقاف في مركز الأمن بالحفصية بسبب منشورات ضبطوه وقد سرّبها داخل أطر لوحاته الزيتية المقلّدة. أما جرادة فربما يعود أواخر العشيّة ليأكل ما يجده ويغيّر ملابسه قبل أن يخرج من جديد. ومنذ ليلة أمس يقبع الشاذلي المصاب بالربو في مستشفى عزيزة عثمانة، إثر إصابته بنوبة سعال حادة صاحبها القيء. حدث له ذلك إثر شربه قارورة اسبريتو كاملة مع بعض الأقراص المخدرة من دون تناول أيّ طعام. وبالطبع كانت خديجة التي لا تجد مكانا تغيّر فيه ملابسها في هذا البيت المتآكل الأطراف تقيم مع صاحبها الجديد.

دخلت البيّة حجرة النوم ولم تخرج منها إلا بعد أن بدأت تشتّم مثل القطط رائحة السمك الصغير الأزرق المقلي في زيت قديم.

وعندما وقفت في الفناء، بدا وجهها المكرمش بأنفها الأفطس، وعينيها الزرقاوين الضيقتين، كغطاء الطاولة المبقّع بآثار الصلصة والقهوة وأصفر البيض. وبدا أنها طلت وجهها بما يشبه مساحيق التجميل.

وكما تفعل ممثلات السينما، أخذت البيّة تذهب وتجيء بخيلاء في الفناء المشمس وهي تطرق بحذائها الرجالي البلاط وقد فردت المطرية الزرقاء تحت أنظار ثلاثة أو أربعة قطط كانت تلتهم رؤوس السردينة التي كان يلقيها العروسي بين الفينة والأخرى من شباك المطبخ الذي يفتح على الفناء.

وعندما رفع العروسي رأسه ونظر من النافذة، وكان قد جرع ربع زجاجة الأسبريتو والتهم خمسة أو ستة سردينات، رأى البيّة في الفناء تتباهى بالحذاء والمطرية، حينها صرخ عاليا مغمغما سيلا من الشتائم وألقى عليها المقلاة بما فيها من بقايا الزيت الأسود المغلي.

لم تصب البيّة بأذى، فقد نطّت بخفّة قطّ وبقيت تهزّ مطريتها وتدور بها غير مبالية، فيما تفرّقت القطط وكادت إحداها تنزلق في الزيت الحار.
خرج العروسي من المطبخ مسرعا ودخل إلى حجرة النوم. وهناك بدأ سيل السباب الذي تردّد خلاله اسم الربّ كثيرا.

وكان النائمون في الزقاق وقد أيقضهم صوت السباب وركلات تلاميذ المدارس على الجدران الآيلة للسقوط، قد انقلبوا على جنبهم الآخر وأعادوا تغطية رؤوسهم بحثا عن النوم في انتظار شيء أهمّ.

كانت البيّة تواصل اللعب بمطريتها الجديدة، عندما خرج العروسي من حجرة النوم وقد طار مفعول الاسبريتو من عقله.
كان برأسه الأصلع ووجهه المتغضّن الذي يغطّيه زغب رمادي صلب، وجسمه الذي يميل إلى القصر أشبه بمصارع في حلبة. في البداية رجحت كفّة الصراع إلى صالحه بعد أن أمسكها من رقبتها يحاول خنقها. إلا أنها أعملت في وجهه أظافرها وضربته على بطنه بالحذاء الجديد وعضّته من إصبعه كادت تقطعه.
سقطت المطرية بعيدا فتفاداها القط البرتقالي ونطّ هاربا.

ومثلما تهدأ العاصفة مثلما تبدأ فجأة، جلس العروسي على البلاط منتحبا متسائلا من دون أن ينتظر الإجابة "أين أخذت كلّ ثيابي، لماذا لم تتركي لي حتى معطفا؟"

كانت القطط قد استولت على بقية السمك.

دخلت البيّة إلى المطبخ وجلبت بقية زجاجة الأسبريتو، ثم جلست إلى جانب العروسي على البلاط المغطى بالزيت. شربت جرعة وأعطته الزجاجة ليحتسي بدوره.

في ذلك المربع من الزرقة الذي استطاع رؤيته عبر ثقب في نافذة العليّة مرت سحابة عابرة. لم يكن بإمكانه الخروج الآن، فقد كان العروسي وبيّة يتعانقان على البلاط أمام القطط وتحت أنظار السماء. ويصدران أصواتا شبيهة بمواء متوحّش. كانا يعيشان بمفردهما في هذا العالم. وكلّ منهما له عالم خاص به. كيف استمرّت علاقتهما، وكيف لم يقتلا بعضهما البعض فتلك من الأشياء التي لا يمكن تفسيرها. كما أنه لم يعد يسكن في العليّة فقد انتقل بالسكنى إلى بيت آخر في حيّ أكثر رقيّا وهدوءا من الحفصية.

لقد انتقل إلى الصبّاغين.

11‏/11‏/2015

مواسم المشمش

مواسم المشمش - روضة السالمي - تونس 10 نوفمبر 2015 – من مجموعة "سميرة وأخواتها"

سنة 1978 كانت تدرس بالسنة الثانية ابتدائي في مدرسة نهج كتاب الوزير. كانت صغيرة، تحيط وجهها المستدير ضفيرتان قصيرتان من الشعر الكستنائي. وكانت سعيدة بسقوط أسنانها اللبنية الواحدة تلوى الأخرى، فقد كان ذلك يشعرها بأنها بدأت تكبر.
وكان محسن، الصبي ذي الثمانية أعوام، والذي يجلس بقربها في المقعد الأول من الصف الثاني، جارها. فقد كان يسكن مع جدته لوالده في البيت المجاور لبيتهم من الجهة الخلفية. وكانت تخجل من جلوسها بقربه. فلطالما أوصتها أمّها الأرملة بتجنّب اللعب مع الصبيان أو محادثتهم.
كان يكبرها بسنة واحدة، إذ كان يعيد السنة الثانية.
وكانت في سرّها تستغرب كيف يسقط أحدهم في الامتحانات، ليس لأنها ذكية أو متفوّقة. وإنما لأنها كانت تعتقد أن الامتحانات هي الفرصة الوحيدة للإجابة عن الأسئلة دون الشعور بالخجل والتلعثم الذي تسبّبه النظرات المصوّبة من كلّ جانب.
وفي أحد أيام سبتمبر من تلك السنة وخلال حصّة الرياضيات، وفيما كان المعلّم يتجوّل بين الصفوف، لكزها محسن بلطف بمرفقه وهمس لها بأنه يريد أن يطلعها على سرّ.
صحيح أنها كانت تتجنّب الحديث معه، ولكنها لم تكن لتقاطعه حين يكلّمها. ولذلك حين همس لها ذلك اليوم بأن لديه شيئا ما ليخبرها به، توقّفت برهة عن التنفّس، حتى تستمع جيدا إلى ما يريد أن يطلعها عليه. وفيما كان المعلّم يواصل جولته في آخر الفصل، قال لها محسن وهو يفتح سحاب سرواله "انظري" وهو يشير إلى شيء منتفخ في مثل حجم حبة المشمش تحت تبانه الداخلي ذي اللون الأحمر.
أشاحت وجهها عنه بسرعة. ورغم ذلك فقد انطبعت الصورة في رأسها إلى الأبد.

سنة 1987، كانت تدرس في السنة الخامسة من التعليم الثانوي شعبة آداب. وكانت ما تزال قصيرة القامة، تربط شعرها الكستنائي الطويل في شكل ذيل حصان، وتضع مقوّم أسنان.
في أحد أيام شهر جانفي من تلك السنة، كانت في المكتبة العمومية تعدّ ملفا عن العباس بن الأحنف، وبينما كانت مستغرقة في الاستمتاع بالبيت الذي يقول فيه "أَيا فَوزُ لَو أَبصَرتِني ما عَرَفتِني...لِطولِ شُجوني بَعدَكُم وَشُحوبي...وَأَنتِ مِنَ الدُنيا نَصيبي فَإِن أَمُت...فَلَيتَكِ مِن حورِ الجِنانِ نَصيبي"، وبينما كانت تتلذّذ بنطق اسم محبوبة الشاعر فوز القريب من اسمها فائزة، وضع أحدهم يده على كتفها.
التفتت فوجدته يقف خلفها. كان طويل القامة بالنسبة إلى شخص في الثامنة عشرة من عمره. ابتسم لها فغطّت ابتسامته الجميلة على الزغب الخفيف الذي نبت على وجهه ولم يفلح في إخفاء البثور المتقيّحة.
ردّت عليه بابتسامة مرتبكة. فقد أطلت عليها ذكرى حبّة المشمش المغلّفة في اللون الأحمر. لم تكن قد رأته منذ سنوات طويلة، إذ كان قد انتقل إلى العيش مع أمه جهة ابن عروس فيما بقيت هي في نهج جامع الغربال، لتواصل دراستها في المعهد العلوي بعد أن سقط سقف معهد الصباغين على رؤوس التلاميذ وتحوّل فيما بعد إلى مركز للشرطة.
جلس بقربها وثرثرا لبرهة بصوت خفيض، فعرفت أنه يدرس بالمعهد النموذجي في السنة الخامسة شعبة تقنية، وأنه جاء إلى المكتبة العمومية لينجز بحثا في علوم الأرض عوضا عن صديقته التي كانت تشارك في مباراة كرة سلّة بين المعاهد.
لم تجد ما تخبره به عنها أكثر من أنها توجّهت إلى شعبة آداب لأنها تكره الرياضيات. ولا تدري لماذا شعرت بالحرارة تذيب خديها عندما تذكرت واقعة المشمش، فتوقفت عن الحديث.
تلكّأ بعض الوقت ثم ودّعها. فعادت إلى عباس بن الأحنف وهي تحاول طرد الصورة من ذهنها.

سنة 2001، كانت في نحو الثلاثين من عمرها، تخرّجت منذ سبع سنوات، وتنتظر إعلان نتائج الكاباس حتى تبدأ حياتها العملية في مهنة التدريس. وفي انتظار ذلك كانت تشتغل سكرتيرة لدى طبيب نساء وتوليد منذ أربع سنوات.
في مساء أحد أيام الربيع من تلك السنة، وبينما كانت قد خرجت لتوّها من عيادة طبيب الأسنان حيث تخلّصت من ضرس سبّبت لها التهابا وألما فضيعا في فكّها. سمعت صوتا يكاد يكون مألوفا يناديها، التفتت فرأته يشير إليها من نافذة سيارته الفولسفاكن القديمة أن تصعد قبل أن يشتعل الضوء الأخضر.
لم تعرف كيف وجدت نفسها تجلس بقربه في سيارته القديمة التي تخرج كمية هائلة من الدخان وهي تتحرك، ابتسم في وجهها بفرح، وانطلق بالسيارة التي أحدثت صوت اصطدام معدني عندما مرّت فوق الحفر والنتوءات التي تملأ الطريق. "ما رأيك لو نتناول شيئا معا" سألها وانطلق في الطريق المؤدية إلى سيدي بوسعيد دون أن ينتظر الإجابة، ودون أن يتوقّف عن الحديث ملخّصا العشر سنوات الماضية من حياته، ومعلّقا بين الحين والآخر على حالة سيارته الميئوس منها.
وطوال الوقت الذي كان إما يتحدّث فيه عن مهنته في الهندسة الميكانيكية أو يبتسم لها بأسنانه الجميلة أو ينظر بسعادة أمامه، كانت صامتة تكتفي بهزة من رأسها أو ابتسامة مجاملة وهي تختلس النظر إلى وجهه الذي زالت عنه البثور تاركة ندوبا امتلأت بالرؤوس السوداء.
كانت لا تستطيع منع لسانها من تحسّس موضع الضرس المخلوع، أو شدّ حنكها حتى تتأكّد من زوال البنج. وفي الواقع تحمّست إلى الذهاب معه لأنها كانت وحيدة.
لم يكن أحد ينتظرها في البيت، فقد توفيت والدتها منذ سنتين تاركة لها بيتا يوشك أن يتهدّم، مكوّن من غرفة واحدة تفتح على صالة ومطبخ وحمام. ورغم عملها الدؤوب فهي لم تتمكّن من ترميمه أو تحسينه، واكتفت بتركه على حاله محاولة ألا يؤول إلى السقوط قبل أن تلتحق بالتدريس. فقد كان لديها أمل رومانسي في أن ترسلها وزارة التربية إلى التدريس في إحدى مناطق الريف، علّها تبدأ حياتها من جديد في أحضان الطبيعة.
عندما وصلا إلى سيدي بوسعيد، ركن السيارة في الموقف وترجلا. بدا عملاقا بقربها فيما كانت هي تخفي نحافتها بملابس فضفاضة، وقد أحاطت كتلة من الشعر الكستنائي  المتموّج بوجهها الدائري.
اختارا طاولة قبالة المرفأ. وكانت طيور النورس تحوم في السماء تحشو الفراغ بصوتها المرح. وعندما هبّ بعض النسيم الربيعي، تحرّكت أشرعة الزوارق بوهن دون أن تتحرّك هياكلها الراسية.   
 لم تكن تعرف كيف تتصرّف. صحيح أنها في الثلاثين، وأنها تعرّفت على بعض الشبان حين كانت في الجامعة، وعاشت بعض القصص قصيرة المدى. لكنها في الحقيقة لم تعرف كيف تتصرّف مع محسن. ربما لأنها تتأرجح بين كونها تعرفه منذ الطفولة وإحساسها بأنها لا تعرفه.
وحالما انصرف النادل بعد أن سجّل طلبهما، أقبل نحوهما بائع الورد، همّ بأن يشتري لها وردة حمراء، إلا أنها رفضت بأدب. فسألها محسن وهو يبتسم إن كانت مخطوبة أو مرتبطة.
لم تفكّر في الإجابة، وإنما سمعت نفسها تجيب بأنها تعيش قصة حب مع طبيب شاب هو صديق رئيسها في العمل. وكانت تتحسّس مكان الضرس الذي أصبح أحمر وناتئا مثل حبّة مشمش.

في سنة 2011، وبالتحديد مساء يوم الاثنين 19 ديسمبر، كانت عائدة عبر الزقاق المؤدي إلى نهج جامع الغربال حيث ما تزال تسكن في بيتها القديم، عندما لمحته يسير مع مجموعة من السوّاح. تمنّت في سرّها ألا يراها، لكنه كان قد رآها بالفعل. فتوقّف هنيهة وقد رسم على فمه نفس الابتسامة الحلوة وتقدّم نحوها مسرعا ودون أن تتوقّع أخذها في أحضانه، وسط ضحكات أصحابه وحتى أن أحدهم التقط صورة.
تأرجحت في تلك اللحظة بين أن تحبّه أو أن تكرهه. غير أنها كانت لحظة عابرة بسرعة الضوء، ما أن تبادرت إلى ذهنها حتى انصرفت عنه.
كانت في الأربعين، امرأة ناضجة، تميل إلى البدانة والاستدارة، لم تفلح قصة شعرها القصيرة ونظارتها الطبية في جعلها تبدو مختلفة عمّا كانت عليه قبل عشر سنوات أو أكثر. وكانت قد حقّقت حلمها بتدريس اللغة العربية، في معهد مونفلوري بالعاصمة.
سألته وسط سيل كلامه الجارف وتحت أنظار أصحابه الفضولية "كيف عرفتني؟" فأجابها "ببساطة لأنني كثيرا ما أفكّر بك." صمتت محرجة، فأردف "كنت في الحقيقة سأدعوهم إلى بيت جدتي، ولكن بما أنك هنا فربما تستضيفيننا". فوافقت بعد تردّد.
عرّفها على رفاقه، مونيك صاحبة آلة التصوير، فرنسية وهي مصوّرة محترفة، تقوم بتحقيق صحفي عن تونس، وأشار نحو رجل أبيض بدين أسماه برونو وهو كاتب ايطالي مستشرق ثم قال "يمكن أن تصبحا أصدقاء، لم أنس حبّك لعبّاس بن الأحنف" قالها ضاحكا ثم أضاف "أرأيت أعرف عنك كلّ شيء"، وقدّم إليها في الأخير نتالي المستشرقة السويسرية التي قال عنها الكثير ولكنها لم تستوعب مما قاله سوى أنها زوجته.
دعتهم إلى الدخول، فسارعوا إلى تلبية الدعوة.
كان بيتها الصغير المؤلّف من غرفة وصالة في حالة مزرية. غير أنها اجتهدت في تأثيثه بذوق فبدا مثل عشّ صغير لطيف متعلّق بأهداب غصن تؤرجحه الريح. تأمّل الجدران والأركان والسقف وكلّ الزوايا وكأنه في متحف، توقّف مطوّلا عند صورة أمها التي تتوسّط الجدار ثم سألها على نحو مباغت "أين ناصر؟".
فاجأها سؤاله. أنساها مجموعة الغرباء الذين يتنافسون في التعليق بمرح على الأثاث التقليدي الذي يزيّن فوضى بيتها الصغير.
"تطلّقنا منذ ثلاث سنوات" أجابته دون أن تبتسم، وواصلت وضع قطرات ماء الزهر في فنجان القهوة. ثم قالت بحياد تام "كنت عاقرا. وكان هو مدرّس لغة انجليزية." ولم تسأله كيف عرف اسم زوجها، فللجدران آذان مثلما يقال.

في شهر سبتمبر من سنة 2017، وعندما كانت في السابعة والأربعين من عمرها. كانت قد انتزعت منذ ثلاثة أشهر ورما حميدا بحجم حبّة المشمش من ثديها الأيسر. وفي مساء ذالك اليوم كانت تعدّ درسا عن رواية "حدّث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي، لتقدّمه في السنة الدراسية الجديدة. عندما سمعت طرقا على الباب. نهضت بتثاقل، فقلّما يزورها أحد.
كان محسن، يسدّ الفراغ  بقامته الطويلة وبجسمه الممتلئ. أخفت دهشتها. وتصرّفت كما لو أنها كانت تتوقّع مجيئه. عانقها مطوّلا عند العتبة وكأنه قريب غاب طويلا ثم عاد. أدخلته البيت الذي اجتهدت في حمايته من السقوط، وغيّرت أثاثه ليبدو أكثر ملائمة للموضة الجديدة في التأثيث.
"كم أحب هذا اللون الذي طليت به الجدار" قال بمرح لطيف، ثم أضاف "هل المشمش هو فاكهتك المفضّلة؟" فأجابته "كلا طلاء الجدران ليس بلون المشمش، فتلك الفاكهة لونها أحمر" فأجابها مستنكرا بلطف "ولكن المشمش ليس أحمر، الجميع يعرف ذلك".
من تحت خصلات الشعر المتفرّق الذي نجا بأعجوبة من السقوط بفعل الدواء، توهّج خداها المتهدّلان وأصبحا في لون المشمش.
"لماذا جئت؟" سألته لأوّل مرة في حياتها بشكل مباشر. فأجابها "كنت أتفقّد بيت جدتي الذي ورثته عنها كما تعرفين." ثم واصل "لم أشأ أن أعرض عليك الأمر عبر الهاتف، قلت في نفسي إنها فرصة كي أراك." صمت برهة ينتظر ردّ فعل منها، ثم واصل "أريد بيع هذا العقار، وفكّرت أنك ربما تريدين شرائه."
بعد ثلاثة أشهر كانت قد رهنت بيتها الصغير وتحصّلت على قرض من البنك، وتمكّنت من دمج البيتين معا، محقّقة أمنيتها الصغيرة بامتلاك حديقة.

عندما بلغت التاسعة والخمسين، أي سنة 2029، كانت تجلس قرب شجرة المشمش ترتشف فنجانا من الشاي، تستمع إلى تسجيل حفل أم كلثوم بتونس يوم 3 جوان 1963، وكان الوقت بين العصر والمغرب لأحد أيام شهر ماي الدافئة، وكانت أم كلثوم تصدح " اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه...عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ...أنت عمري اللي ابتدى بنورك صباحه...يا حبيبي تعالى وكفاية اللي فاتنا...هو اللي فاتنا يا حبيب الروح شوية...اللي شفته قبل ما تشوفك عنيا " عندما رنّ جرس الهاتف، نهضت بتثاقل، كان محسن على الطرف الثاني، يدعوها إلى العشاء.
كان يحتفل بإحالته على التقاعد، بعد سنوات عديدة قضاها مهندسا ميكانيكيا في شركة الملاحة والمواني. وكان قد انفصل منذ سنوات عن زوجته المستشرقة السويسرية التي أنجب منها في أواخر سنة 2011 بنتا أطلق عليها اسم صوفيا وتدرس حاليا البيولوجيا في زوريخ مسقط رأس أمها.
انتظرها عند الساعة السابعة في موقف السيارات قرب ساحة الحكومة. مرّت في طريقها بالأنهج التي شهدت طفولتها وصباها، وجلّ مراحل حياتها. كانت تطأ البلاط الذي رصفته على امتداد مئات السنين أقدام المارة.
ولمحته من بعيد، تفرّست فيه في غفلة عنه فلطالما أحست بشيء من الحرج نحوه. كان على الرغم من سنواته الستين ما يزال طويل القامة رغم الصلع الذي أصابه وترهّل جسمه وبروز بطنه. أما هي فما تزال قصيرة القامة يبدو عليها السقام بعد أن خسرت الكثير من وزنها، كما خفّ شعرها بسبب العلاج بالأشعة، وترتدي بلوزة واسعة تخفي بها تورماً في الذراع سبّبه استئصال العقد اللمفاوية.

رآها قادمة فقطع الطريق في اتجاهها مركزا كامل انتباهه عليها، غير أن شاحنة كانت قادمة من شارع 2 مارس 1934 في اتجاه شارع باب البنات صدمته. كانت محمّلة بصناديق الفاكهة. ولم يكن من بينها المشمش.

21‏/10‏/2015

نساء صغيرات مذعورات

"هل قلت أنني أكره النساء الصغيرات المذعورات النائحات الباكيات. تذكّرن كلامي هذا جيّدا. فلن أكرّره. توقّفن عن النواح والنباح والصياح، وعجّلن في برم حبال للسفينة من شعركن. يجب أن تكون جاهزة غدا قبل أن تسقط أوّل قطرة من حمم الغياب. فالطوفان على الأبواب وأمامي سفر طويل وأمامكن وقت قصير."
ذاك ما قاله حرفيّا. فقد سمعته أنا وريماس. ورأيناه وهو يلوي عنق المسكينة راما، ثم وهو يغلق الباب بسخط بعد أن تركها تتخبّط قرب الجدار.
وفي الظلام الحالك الذي ألفته عيناي أبصرت ريماس تنظر إلى الزبد المتخثّر، وهو يقطر من فم راما، ثمّ قالت شاخصة النظرات ودون أن تحرّك شفتيها: "وهكذا نشأ درب التبانة.. من التحام ظلّ راقص في الغابة السرمدية مع مجموعة من تلك الفراشات الليلية التي غطّت الجدار".
فهمت كلّ شيء. فبعد قضائنا كلّ هذه الأيام بلياليها في هذه النقطة المترجرجة من الزمن، أصبحت أفهم تماما ما قصدته بكلماتها. لقد قرّرت الرحيل.
وبالفعل. فبعد أن أنهت جملتها تلك، وقفت بعزم على قوائمها الخلفية التي يغطيها شعر أسود كثيف، وطارت بخفّة مفاجئة نحو الجدار الذي تكسوه آلاف الفراشات الليلية. كانت الفراشات السوداء ملتحمة تحيك ظلمة الجدار، حين ارتطمت بها ريماس بقوة غير متوقعة فصنعت حفرة بيضاء جعلت الفراشات تتطاير وهي توشوش وتصفق بأجنحتها، ثم عادت فابتلعتها بنشوة وجعلتها جزءا من مستنقعها العمودي المعلّق.
وهكذا بقيت وحدي.
كنت قد عايشت جميع الأحداث خلال إقامتي الجبرية في هذا الحجز اللغوي والمعنوي. وشهدت كيف قضت الساردات الناسجات نحبهن، باستثنائي، لذلك لم أندهش من الحركة الانتحارية الأخيرة فقد سبقتها إلى الاختفاء في غياهب الغياب السرمدي نساء صغيرات مذعورات أخريات، أطلقت عليهنّ في سري أسماء واخترعت لهنّ وجوها.
وفي الحقيقة كنت أتوقّع لراما مثل هذه النهاية، فقد فعل بعنقها مثل ما فعلت هي بعنق السرد. وبما أنني آخر الناجيات حسب ما تسمح لي به الرؤية في هذه الحجرة المعتمة، فيتعيّن عليّ، من باب اللياقة، أن أستهلّ الحكاية من البداية.
يمكنكم تسميتي مايا. أعتقد أنني أصغرهن حجما، وأقلّهن كلاما. وربما كان ذلك سببا في سلامتي. كنّا ثلاثة وأنا رابعتهن. وكنّا قبل ذلك أربعة وأنا خامستهن. ولعلنا كنّا أكثر من ذلك، ففي الظلمة الحالكة، تتشابه الأصوات وتتشابك الأنامل المتخشّبة وهي تفتل من الشعر حبالا تتلوى.
كانت راما، التي دقّ عنقها للتوّ، مثلما أتخيلها، جميلة سمراء في لون القرنفل والقرفة، تزّين جبينها بنقطة من خرز أحمر. ولطالما تخيّلت، طيلة أسرنا المشترك، أنه من الوارد جدا أنّ مجموعة من الأيادي والأعين تطلّ برأسها من ذلك الثقب الأحمر العميق فوق جبينها، أو أن لسانا مثل لسان الأفعى يخرج خلسة فيتلمّس وجوهنا في ظلمة الغرفة، ويبصق سمّه في أناملنا الخشنة التي أصابها الخدر.
كما أنها كانت قادرة على البكاء دون توقف، وهي موهبة كلّفتها حياتها. أما موهبتها الغبية الأخرى فكانت قدرتها على قصّ نفس الحكاية أكثر من مرّة مع تغيير بعض التفاصيل والادعاء بأنها حكاية جديدة. يا لراما المسكينة، كم كانت تفتقر إلى الخيال، لقد كان من الجيّد التخلّص منها.
أما ريماس فيكفي أنني تحدثت مسبقا عن ساقي العنزة اللتان تحملانها أينما ذهبت. وكثيرا ما تساءلت عن مقاييس اختياره لنا، كلّما أحسست بالتفاف ساقيها على كتفي وهي تجبرني على حملها والطواف بها سبع مرات في أرجاء الغرفة حتى تتمكّن من النوم. وكم خشيت أن تأكلني مثلما فعلت مع شخصيات حكاياتها السقيمة، ولكنها كانت تكتفي بترديد بعض الجمل غير المفهومة في طوافها على كتفي، بصوت هادئ خفيض، يتحوّل تدريجيا، حسب نسق تنفّسها، إلى فحيح هامس أو عويل صارخ، ثم تنام مثل غيمة شاردة في سماء.
كما ترون، ما من شيء كان يجمعنا، نحن النساء الصغيرات في علبتنا المعتمة سوى إجادتنا لأعمال الحياكة، وقدرتنا على السرد المتواصل ليل نهار، رغم ضعف لغتنا وركاكة تركيبنا وسقم حبكتنا وافتقارنا إلى الخيال. كنّا قد مررنا، من دون أن ندري أو نبصر بعضنا البعض، تحت جسر حديدي صدئ ركد فوقه الماء، عندما جرفتنا أطنان من حديد وماء آسن إلى حفرة انكشفت تحتنا فجأة. وفي سقوطنا الجارف نحو الظلام لم نر شعاعا من نور، وإنما كان رأسه الشيطاني الأصهب هو آخر ما حملناه معنا من رؤيا.
وقبل أن أنسى، سأخبركم ما كنت أفعله قبل لقائي بالأصهب والنساء اللواتي أصابهن الذعر. أذكر أني كنت أجلس قرب شجرة جرداء جفّت فروعها في فناء بيت مهجور سدّ مدخله بجدار، ولعلّني أطلت السباحة في الضوء فخرج برعم من عيني اليمنى، وأطلّ برأسه غصن الصفصاف من أذني، وتحوّلت أصابع يدي إلى زهور زرقاء غضّة طافت حولها الفراشات كما لو كانت تؤدي منسكها الأبدي. ولم يمض قرص الشمس مثل سفينة يؤرجحها طوفان من النور نحو الغرب، إلا بعد أن تحوّلت كلّ نبضة من خفقات قلبي إلى ورقة خضراء تهفهف وتحكي أشياء قد تكون حدثت منذ عهود بعيدة.
توقّعت - وقد أصبحت صفصافة - أن تهدل الحمائم على أغصان يدي وهي تبني أعشاشها، غير أنني لم استهو سوى بومة رمادية حطّت كطير جارح على غصني، ورافقتها أفعى رقطاء تكوّرت عند جذعي. ثم ابتلعني الظلام العازل وجرفتني مياه راكدة، وأخرج ضفدع أخضر لسانه الدبق والتقط قلبي الخافق المرتعش.
وفي علبتنا محكمة الإغلاق، وقد نفذ زادنا، وصمت نباح كلبنا، لم نجد سوى شعرنا نجدله وأصواتنا الهامسة وبكائنا. إلى أن باغتنا حضوره حين أطلّ علينا من كوّة فتحت فجأة في الظلام، ولعلّه كان بابا أو ثقبا في جدار، وأمرنا بصوته العميق أن نسرع في صنع الحبال قبل أن يباغته طوفان الحمم ولمّا ينته من صنع السفينة بعد. فقد كان عليه أن يأخذ معه كلّ التفاصيل بما في ذلك النور والظلّ، والسيل والجفاف، والقبح والجمال، والصمت والكلام، والتراب والهواء، والحضور والغياب.
توقّف لولب زمننا عن الدوران. وغرقنا في غبار وهمي، حتى استحالت أفكارنا أمواجا من صرخات تتلاطم، وأطياف لخفافيش تلتحف ظلّ الكلمات دون مفردات. حاولنا الهرب أكثر من مرّة. كانت يارا التي تحمل على كتفيها رأسي أختيها ميارا ولارا تحاول شغل أذنيه المتلصصتين على صمتنا بإلقاء شعر يحاول بسذاجة بغيضة أن يكون سرياليا، فيما كانت وجد التي تستطيع لفّ رأسها بالكامل مثل البومة تتحسّس بحراشفها الجدار علّها تعثر على فتحة ما أو تتمكّن من تفتيت الحجارة. ولكنه كان الأسرع، فقد نفخ من فمه الموبوء ندفا من الثلج، فتجمّدت يدها وتساقطت أصابعها الواحد تلو الآخر، وتيبّست أعضاؤها، واتخذ جسمها وضعية راقصة هندية تؤدي حركات صلاتها المقدّسة. وبقيت معلّقة في السقف بعض الوقت قبل أن تلفّ حولها عنكبوت سكنت الزاوية حبالها وتعلّقها مثل مصباح في السقف فيما تطاير ريشها الرمادي في كلّ مكان.
فكّرت في تلك المرحلة، كم سيكون الأمر مبهجا لو كان في هذه العلبة خزانة، لكنت اختبأت في داخلها وتلوت تعويذة جدتي. لكنّ الأوان كان قد فات فعلا قبل أن تولد السكينة أو تعود الذكريات. وبنظرة من عينه الحمراء والأخرى الصفراء طعن ظلّ الشاعرات فحوّلهن إلى طحلب على الجدار استهوى الفراشات التي صفقت وهي تحوم حولها بشكل دائري قبل أن تنقضّ عليها مثل طير كاسر.
وبعد ذلك بوقت غير معلوم، وعندما دخل الأصهب، ليستلم لفائف الحبال، توقّعت ريناد أن تكون أسرع منه، وكانت دائما تنسى بأنه سيد اللعنات والقادر على كلّ شيء في عزلتنا تلك، فحاولت أن تخرج من الكوّة في الجدار بعد أن نبتت لها أجنحة، غير أنه تمكّن بحركة سريعة من يده أن يخرج أمعائها ويلفّها في الفضاء سبع مرّات قبل أن يلقيها عبر كوّة الجدار إلى الفراغ الموحش، وكان ظلّها ذاك الذي تركته خلفها، هو آخر ما رأيناه منها قبل أن تهلك في طقس موتها الأخير.
ولا أدري كيف استجمعت لمار صوتها، بعد أيام طويلة من الغزل المقيت وقد شحّت مواردنا من الشعر بموت الأخريات، لتغني عن بوم عادت تحوم ولوحة في جدار دار، ومطرية مبلّلة لم تبرح مكانها. فلم تشعر إلا وأنفاسه الملتهبة تلمس خدّها، وتجعل جسمها يرقص بارتعاش فينزلق على الأرضية الصلبة محدثا ارتطاما تطايرت له الفراشات مبتهجة.
كان قد أبلغنا في وقت سابق بقرب فراغه من تشييد السفينة، وطلب منا العمل في صمت. وفهمت أن لمار تعمّدت الغناء لترتاح من جحيم الصوت الذي يخترق رأسها مثل قطار يهدر فوق سكّة لا تنتهي. وبعد أن خرج الأصهب - مثلما كنت قد رسمته في خيالي الصامت - كانت مبعثرة، تحدّق عيناها العسليتان بدهشة في السقف، فيما ارتخت شفتاها، وتسلّل خيط من الرغوة المائلة للحمرة من جانب فمها. ورسمت دمائها التي فارت من رأسها ممتزجة بخليط غليظ من الدماغ شمسا مائعة ودبقة.
ذكّرني موت لمار بهنوف المسكينة التي كانت تحبّ الأغاني الخفيفة، فقد أزعجه غناؤها المتواصل لملء فراغ الوقت، وصوتها المخنوق مثل بومة في ليلة عاصفة، فلفّ على عنقها حبلا كانت تجدله من شعرها الكثّ المجعّد، ثم نفض يديه وقال أن عنكبوتا صغيرا كان كافيا للتخلّص منها، غير أنه يحب العمل المتقن ويحبّذ التأكد من كلّ التفاصيل. قال ذلك وهو يبتسم فانسلّت من فمه أفعى مرقطة وتكوّرت قرب الأشلاء تحرسها.
وهكذا بقيت وحدي مع الموتى وأشباح خوفهم وظلالهم المتجمّدة، أطارد النعاس بالأمنيات، كأن يطرق الريح بابي، أو أمدّ يدي فأجد رأسي المنسي خلف الخزانة، أو أعثر على تفاحة وبقايا وصية مهملة. وعندما بدأ العالم بالارتعاش عند قدميّ، أدركت أن وقت انطلاق السفينة فوق مدّ الحمم قد بدأ فعلا.
قدّرت أنه تركني ربما لأنني كنت الأصغر حجما والأقلّ كلاما، أو لعلّه يحتاج إلى رفقة في طريقه سرمدي البارد. وعندما دخل أخيرا ليعلن انطلاق الرحلة، بدا لي وجهه، بعينيه المحدّقتان في الفراغ، شاحبا أكثر من المعتاد، تأملت شعره الأصهب بحزن، وعندما فتح فمه، ظننت - لوهلة - أنه سيصرخ بي، ولكنه طلب مني بنبرة منهكة إعادة سرد الحكاية للمرة المائة منذ أن التقينا، لعله يفهم تماما ما حدث.
وبما أنني لا أميل بطبعي إلى الدراما، فقد اختصرت له الحكاية، وأخبرته عن رجل رحل وترك خلفه زوجة وبنات، وأوصاهنّ ألا يفتحن الباب لأحد، ولمزيد من الأمان، أمانه الشخصي طبعا، بنا جدارا أمام الباب والنوافذ وربط كلبا إلى جذع شجرة. وعندما طال الغياب ونفذ الزاد، ماتت النسوة واحدة تلو أخرى. ولم يبق من وجودهن سوى آثار بيت قديم وشجرة جرداء تأوي إليها البوم والأفاعي وبعض السحالي.
روضة السالمي
تونس، ماي 2015