13‏/1‏/2015

فنجان قهوة مع جارة وسيجارة - روضة السالمي

فنجان قهوة مع جارة وسيجارة
سمعت طرقا على بابي. كانت الساعة السابعة صباحا. لم يتبق لدي سوى نصف ساعة يتيمة قبل أن أوقّع ورقة الحضور في مقرّ عملي. وكنت أغلق النوافذ بيد وأمسك حقيبتي باليد الأخرى عندما سمعت الطرق. فتحت بعصبية مردّدا بصوت خفيض شتائم وتعاويذ. غير أنها ابتسمت لي، فبردت أطرافي، واشتدت دقات قلبي، وتشنجت أصابعي يدي القابضة على الحقيبة.
رددت على ابتسامتها بأفضل منها، وقد تطلّب رسمها على وجهي حربا نفسية ضروسا كي أبدو إنسانا متحضّرا يحترم حق الجوار. ويبدو أن جارتي العزيزة تشجّعت بابتسامتي فدخلت الشقة دون استئذان – ولماذا تستأذن وأنا قد فتحت لها الباب- وتوجهت رأسا إلى المطبخ بعد أن علّقت بجمل قصيرة على لون الستائر الذي لم يعجبها، وضرورة تغيير مكان بعض الأثاث. وكالأبله كنت أتبعها تدخل شقتي وكأنني أنا الضيف لا هي. دخلت المطبخ فأبدت تبرّمها من الأواني التي لم تغسل منذ أمس، وفتات الخبز على الطاولة، وبررت لها كالأحمق تلك الفوضى بانشغالي. ولكن جارتي صمّت أذنيها عن تعليقي وتعقيبي وتوضيحي وتبريري، فأزاحتني بمرفقها بلطف زائد وبدأت في تنظيف المواعين.
رميت الحقيبة أرضا وانتزعت من يدها الصحون فلا يعقل أن تقوم جارتي بخدمتي. وسألتها عن سبب تشريفها بهذه الزيارة الصباحية، فابتسمت برقة وقالت بكل الصراحة الموجودة في العالم أنها استثقلت المشوار من شقتها إلى الدكان فقرّرت أن تقترض مني بعض السكر. فأجبتها بأن طلبها هين، وأنه يمكنها حتى أن تحتسي قهوتها هنا برفقتي مادمت قد قررت عدم الذهاب إلى العمل. فوافقت جارتي وتركت كلّ ما كان في يدها وجلست إلى الطاولة ترقبني فيما أعدّ القهوة، ثم سحبت سيجارة من علبة سجائري التي كانت موجودة هناك.
وفيما كانت القهوة تنضج على مهل، بدأت جارتي رياضتها الصباحية المفضّلة وهي الثرثرة. ولا أدري كيف وصلت بحديثها إلى سيرة جارة أخرى  - لم أتعرف عليها بعد – وحدثتني عن تردّدها على شقة شاب أعزب – يا للمصادفة - مرتدية ثيابا غير لائقة تبرز مفاتنها، وأكدت لي جارتي بأنّ حسها الإنساني ورفعة أخلاقها تمنعها من الحديث عن سيرة الآخرين أو إطلاق الأحكام عليهم، ولكن هذه الجارة بالذات – محور حديثها - مشكوك في سيرتها وسيرة أهلها وذويها.
وكادت جارتي العزيزة - التي لا تهتم بشؤون الآخرين مطلقا - أن تسترسل في هذا العرض الطويل لأعراض الآخرين، لولا أنني قلت لها مع بعض المؤثرات الإضافية من ورع وتقوى ورشة نبل وأخلاق حميدة، بأن الواجب يحتم علينا هدايتها إلى الطريق السوي ونصحها.
وأردت أن أسترسل في التفسير والتحليل ما دام يوم العمل قد ضاع من بين أصابعي مأسوفا عليه. غير أنها قاطعتني بابتسامة مقنعة ونظرة الملمّ بكل الخبايا، وبيّنت لي بالأدلة القاطعة والبراهين أن جارتها -العزيزة على قلبها والتي تتمنى لها كل الخير - إنما هي في الأصل ابنة غير شرعية وقد أنجبتها أمها من شاب تخلى عنها في بداية الحمل، فاستترت في بيت أهلها بعد أن حاولت عدة مرات إسقاط الجنين المشئوم ثم زوجوها من رجل يكبرها بخمسين عاما، وأنجبت ابنتها بعد ستة أشهر من الزواج، وهذه الابنة كبرت وأصبحت اليوم تعيد سيرة أمها.
كنت أحرّك القهوة في الركوة التي أوشكت أن تفور، عندما اتخذت قرارا بالاكتفاء بوضع ملعقتين من سمّ القوارض في فنجانها، فلم أكن أريدها أن تموت فورا على طاولتي، إنما يجب أن تصل إلى بيتها أولا، وأن تحسّ بالأوجاع في أحشائها، قبل أن تختلج أطرافها ثم يتخشّب جسمها، فيما يخرج زبد أبيض من فمها مختلطا مع خيط من القيء.
روضة السالمي 27 جويلية 1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق