23‏/2‏/2015

لأنك دائما تنسى



حدثتني صديقتي وهي تعمل ممرضة في مستشفى حكومي، عن عجوز مريض ناداها يوما وأعطاها خفية وبيد مرتعشة كتابا طلب منها أن تحتفظ به لنفسها، وأن تقرأه ولا تنساه. وبما أنّ صديقتي كانت غير مغرمة بالأدب والمطالعة فقد أعطتني إياه دون أن تفتحه.
كان يوما ربيعيا جميلا، تفتحت أزهاره ونشرت في الجو عبيرا لطيفا، فاخترت لنفسي مكانا جميلا في مقهى راق في البحيرة، وأخرجت الكتاب، كان لدي فضول لقراءته، وخامرني شعور بأن حكاية ما تكمن خلف وصوله إليّ، فصديقتي تلك لم أكن قد رأيتها منذ سنوات عندما كانت جارتي في السكن الجامعي، قبل أن تنقطع عن دراستها وتتعلّم التمريض في مؤسسة تعليمية خاصة في حين واصلت أنا دراستي، وها أنا بفضل الانتحالات العلمية على وشك الانتهاء من رسالة البحث. عندما التقيت بها صدفة قرب مركز كارفور التجاري وبعد أن احتسينا القهوة بلذة وتحدثنا عن حياتنا، نجاحاتنا، وإخفاقاتنا، وعن السرعة التي تمضي بها الأيام، سألتني إن كنت مازلت أقرض الشعر في أوقات فراغي، فأجبتها أنني طلّقت الشعر من دون رجعة في حين ما زلت وفيّة للمطالعة، فأخرجت من حقيبتها هذا الكتاب وأعطتني إياه. لمحت حركة يدها المرتعشة وتلفتها يمنة ويسرة وهي تعطيني إياه غير أنني في حينها لم أتوقّف كثيرا عن هذه المسألة وسريعا ما طردتها عن ذهني، فقد كان اللقاء جميلا وممتعا.
طلبت قهوة كابوتشينو، وأغلقت هاتفي الجوال حتى لا تشغلني طلبات هاتفية غير منتظرة وتفاجئني رنة "بانغ بانغ حبيبي أطلق النار علي" لنانسي سيناترا، ثم أخرجت هذا الكتاب وعندما تصفحته، وجدت إهداء لطيفا على الصفحة الأولى، ورسالة في الصفحة الأخيرة، كتبت بخط مرتعش وصغير. قرأت الإهداء على عجل. كان غريبا بعض الشيء ولكن منذ متى يحكم الإهداء على محتوى عمل ما؟ أما الرسالة الخطية التي أضيفت إلى الكتاب فقد دفعني فضولي لأقرأها أولا.
هذه الحكاية تردّدت كثيرا في كتابتها، ولكن كان يجب أن أخبر أحدا بها، علّ ذلك يخفّف عني هول ما ستأتي به أيامي القليلة الباقية.
كنت أجلس في الحديقة، أتأمل زرقة السماء الصافية بعد أشهر من الغيم والعتمة. أخرجت شطيرة من حقيبتي، وأمسكت كتابا اصطحبني منذ أكثر من سنة، من دون أن أجد الوقت والعزيمة الكافيان للانتهاء منه.
لم يكن كتابا مملا. بل على العكس، كان مزيجا من الخيال العلمي والفنتازيا عن مسألة تناسخ الأرواح. وكان مكتوبا بأسلوب جميل، كلماته مفهومة، وأوصافه معتدلة، لا هي طويلة ومعقّدة، ولا هي مقتضبة وسطحية. ولكنني وإحقاقا للحق كنت شديد النفور من المواضع التي تتعلّق بما وراء الطبيعة، كما أنني لا أومن بمثل هذه الخرافات الهندية ولا باللعنات أو بالرواح الشريرة.
ابتسمت وأنا أمدّ يدي إلى الفنجان. كان يجلس قبالتي مع أمه طفل جميل في الخامسة أو السادسة من العمر، كانت الأم منشغلة في مكالمة هاتفية، في حين كان الولد يرسم خطوطا وأشكالا على كرّاس صغيرة مستعملا الألوان اللبدية، غير عابئ بكأس العصير ولا بقطعة المرطبات الشهية التي أمامه، وفي لحظة خاطفة التقيت أعيننا، فبدا لي وكأن وجهه مألوف لدي، طردت هذا الشعور مسرعة، فقد كنت واثقة من أنني لم ألتق به مسبقا، أخذت رشفة سريعة من الكابوتشينو التي بدأت تبرد، ثم عدت إلى النصّ الذي بين يدي.
كما أنّ لهذا الكتاب قصّة، فقد أهداه إلي صديق قديم اسمه جابر التقيت به صدفة أمام مدخل مقهى اليمامة، عندما كنت - كبعض المتقاعدين مثلي - عاطلا من أي اهتمام سوى ملاحقة الشمس في طريق شارع الحبيب بورقيبة المخضّر دوما بأشجاره الغنّاء.
وبما أنني كنت غير مشغول، فقد قبلت دعوته على فنجان من القهوة، وبعد أن أخذنا الحديث بعيدا عمّن بقي من رفاقنا من الأحياء ومن مات منهم، أبى إلا أن يترك لي هذا الكتاب. بل أصرّ أن يكتب عليه الإهداء التالي "لأنك دائما تنسى.. احرص على ألاّ تنساني..".
رشفت قهوتي، ونظرت حولي، ثم عدت إلى الرسالة أقرؤها بنهم.
في الحقيقة لم أفرح كثيرا بالكتاب ولا بالإهداء. لسببين: أولا لأنني ببساطة لم أكن صديقا حميما له، ولا حتى صديق، كلّ ما في الأمر أننا كنا زملاء دراسة، سافر هو إلى حيث لا أعلم وجمع مبلغا محترما من المال، في حين اشتغلت أنا في وكالة أسفار حيث أفنيت عمري، والسبب الثاني أنه ما من سبب لديّ لأذكره؟.
اكتفيت حينها بوضع الكتاب في حقيبتي. ومن يومها وكلما وجدت متسعا من ضوء الشمس وصحو السماء إلا جلست على مقعد عمومي وأخرجته من مخبأه. فتصفّحته في غير رغبة حينا، وبشغف حينا آخر.
حين وصلت إلى هذه الفقرة من الرسالة، عقدت العزم على أن أقرأ الكتاب من دون تكاسل. واسترقت النظر إلى الطفل أمامي، فألفيته يكتب بكلّ تركيز وقد لمعت حبيبات من العرق على جبينه الغضّ.
في الوقع أصبح هذا الكتاب جزءا من محتويات حقيبتي الجلدية المهلهلة التي رافقتني منذ أكثر من عشرين عاما، إلى جانب علبة أقراص الضغط، وبعض الأوراق والأقلام، وجريدة صفراء قديمة، ورد فيها خبر وفاة صديقي الذي أهداني الكتاب في حادث غرق. ولا أدري على وجه التحديد لماذا احتفظت بها، ربما لأنني اعتقدت أنها تكمّل القصة. قصّة الكتاب، واللقاء العابر في مقهى اليمام في شارع الحبيب بورقيبة ذات يوم مشمس من خريف السنة الماضية، حين كان محمد الموجي يملأ خلفية المقهى بعبق الشاي مع السجائر ما بين العصر والمغرب.
بعد أن أخرجت شطيرتي من الحقيبة، وكنت قد أعددتها كعادتي - منذ أن توفيت زوجتي منذ ثلاث سنوات بسبب صعق كهربائي - على طريقتي المفضّلة، ووضعت فيها ورقة خس واحدة، مع عجّة البيض المخفوق مع زيت الزيتون والبصل، ثم أمسكت الكتاب، جلست بجواري أمّ شابة محمّلة بأكياس المشتريات - فقد كنا في موسم التخفيضات - وكان يرافقها ابنها ذي الخمس سنوات.
أعجبتني وصفة العجوز فقرّرت أن أصنع شطيرة مثلها حالما أعود إلى البيت، وحزّ في نفسي هذا الشيخ المسنّ العجوز الوحيد من دون رفقة تؤنسه أو أولاد يسألون عنه. وقرّرت أن أسأل صديقتي عن أخباره، حالما أنتهي من قراءة رسالته. هكذا حدّثت نفسي وأنا أرتشف القهوة التي أصبحت باردة تماما، وأرقب بطرف عيني الطفل أمامي وكأن المقهى خلت إلا منه ومن والدته. كان في نفس سنّ الطفل الذي يتحدّث عنه المسنّ في رسالته، وقدّرت أنه كان يبرطم أغنية عن حروف الهجاء "ألف أرنب يجري يلعب.. يأكل جزرا كي لا يتعب.." في حين كانت والدته تواصلها حوارها الهاتفي وهي تعبث بشعره البني الناعم. عدت إلى القراءة مجدّدا، رغم أنني بدأت أفقد تركيزي.
أفسحت لهما مجالا على المقعد الخشبي الأخضر المدهون حديثا، وهممت بقضم شطيرتي، حين أخذ الطفل في التذمر. فقد كان يريد أن تشتري له أمه مثلجات. وكانت هي تريد أن تستريح قليلا. ولما أصرّ وانتابته أزمة بكاء حادة وصراخ مزعج، نهضت الأم على مضض، وتردّدت قبل أن تطلب مني أن أحرس أكياس المشتريات إلى حين عودتها، ولم يكن محلّ المثلجات بعيدا.
نظرت إلى فنجان قهوتي الذي برد، وطلبت شطيرة بالجبن وقرّرت أن أتناول بعدها كأسا كبيرة من المثلجات، ولتذهب الحمية إلى الجحيم. ناديت النادل، فأقبل مسرعا، دوّن طلبي وهو يحدّق في الكتاب. ثم ذهب وعدت أنا إلى متابعة نص الرسالة.
كدت أن أقول لها بأنني موافق لولا أن ابنها أخبرها أنه لن يأتي معها وانه سيحرس هو المشتريات بنفسه.
ابتسمت في سري من نباهته. ذهبت الأمّ إلى محلّ المثلجات، فلم يكن بعيدا عن مقعدنا الخشبي. وما إن ابتعدت بضع خطوات وبدأت أنا بقضم شطيرتي حتى سألني:
-                    ها.. إلى أين وصلت؟
فأجبته مستنكرا مستغربا:
-                    في ماذا؟
فأجابني وهو ينظر إلى الكتاب:
-                    أرى أنك لم تنه قراءته بعد.  
عدت لشطيرتي وأجبته غير مهتم:
-                    لقد بدأته بالأمس.
فأمسك يدي التي فيها الشطيرة، مسكة كادت تقسم معصمي، وقال بصوت وكأنه خارج من حفرة عميقة:
-                    ولكنك أخذته منذ أكثر من سنة.
في تلك اللحظة لم أكن أدري هل تمكنت من ازدراد ريقي أم أنه سال على ذقني في خيط دافئ قسم لحيتي البيضاء نصفين متعادلين.
عاد النادل بالشطيرة، فشكرته بابتسامة وبحثت ببصري عن الطفل، وكان ما يزال يحدّق بي، ولا أدري من أين جاءني يقين بأنه يريد أن يقول لي شيئا، حتى أنه بدا لي بأن كلمات أغنيته تحمل رسالة ما، ربّما كان يقول "أركض، أهرب، أنت الأرنب، أركض وستتعب" اقشعرّ جسمي، وتملكني خوف مفاجئ، غير أنني نفضت رأسي بشدّة وكأنني أحاول إبعاد الأرواح الشريرة التي سكنت أفكاري. فانا أيضا مثل الرجل المسنّ طريح الفراش في المستشفى لا أميل إلى تصديق خزعبلات تناسخ الأرواح، ولا الرسائل المشفرة التي تبعثها كائنات خفية تريد أن تحتلّ الأرض. أنا في تونس، ولست في أمريكا. وهذه الحرب ما بين المجرات والكواكب لا تعنيني. وعدت بكلّ عزم إلى النص الذي بدأ يستحوذ على انتباهي.
تمالكت نفسي - مستعيذا بالله في سري – وسألته متظاهرا برباطة الجأش:
-                    وما أدراك متى أخذته؟
ترك يدي بنفس الطريقة المباغتة التي أمسكها بها، وقال بنفس الصوت المتهدّج وكأنه خارج من قبر:
-                    لأنك دائما تنسى...
فأجبته وأنا أحاول التفكّه معه مداريا خوفي المتنامي داخلي:
-                    هل تعتقد أن كلّ المتقدمين في السن مثلي ينسون؟
فنهض من مكانه على المقعد وواجهني بقامته القصيرة وعينيه البريئتين موجها سبابته نحوي وقال:
-                    تعرف تماما عمّا أتكلّم، أنظر إلى ما كتب في الإهداء.
ما إن نطق ذلك الطفل ذي السنوات الخمس تلك الجملة المشئومة حتى سقطت الشطيرة من يد، وسقط الكتاب من اليد الأخرى.
بدت لي الأرض وكأنها كانت تدور بسرعة قصوى ثم ضغطت فجأة مكابحها فارتطم كلّ من عليها واختلط الحابل مع النابل. وأحسست وكأن خرقا حدث في الزمن وأن الجسيمات الضئيلة التي تكوّن المادة أخذت تدور عكس اتجاهها.
أسرعت برفع رأسي عن الكتاب، فلمحت الطفل مغادرا المقهى مع أمه. ولا أدري كيف أدرك أنني ألاحقه ببصري فأدار رأسه الصغير ذي الشعر البني الناعم نحوي، وأشار إليّ بإبهامه وسبابته على شكل مسدّس مردّدا مع نانسي سيناترا "بانغ بانغ... حبيبي أطلق عليّ الرصاص". أحسست حينها وكأن الرصاصة فعلا اخترقت صدري.
توقّف كلّ شيء حولي، فتنفّست مليا، وأنا أردّد في داخلي بأنّ الحياة هي سلسلة من الصدف، ويجب عدم تحميل الأمور فوق طاقتها، ولا يعدو أن يكون الأمر مجرّد حجر نرد أطلق فوق طاولة لعب عملاقة، وأن إمكانية حدوث هذه الأشياء تبلغ صفر فاصل واحد من مليار، وأن ما أعيشه الآن هو تحقّق تلك النسبة الضئيلة، لذلك يجب أن أشعر بالغبطة كوني أعايش أشياء لا يعيشها إلا سبعة أشخاص في العالم إذا ما استثنينا الأموات. وقد أكون أتوهم بسبب التصاقي المتزايد مع النص. وقد تكون الخاتمة سعيدة. من يدري. ثم عدت إلى نصي وأنا أبتسم لتفكيري العقلاني.
لم أنتبه إلى أمّه التي عادت ومعها قرن مثلجات، غير أن صوتها كان حبل نجاة ألقي لغريق يائس.
-                    واضح أنه أزعجك، هذا الطفل المشاغب.
قالت بصوتها المرح وكأنه قادم من كوكب لا ينتمي إلى النظام الشمسي.
أمسك الطفل قرن المثلجات. وككلّ طفل لعقه بشراهة واستمتاع. فيما واصلت الأم حديثها وهي تجمع أكياس مشترياتها:
-                    آمل ألا يكون قد أزعجك بقصّته الغريبة.
فسألتها وقد عاد لي بعض توازني:
-                    أيّ قصة؟
فأجابتني، فيما كنت أحدجه بنظري محاولا اختراق جسمه الضئيل بعيني، علني أفهم من أين له القوّة ليمسك بيدي فيكاد يقسمها، وكيف له أن يعرف ما كتب في الإهداء، ومن يكون داخل هذا الجسم الصغير، هل هي روح صديقي الذي مات، أم هو مخلوق فضائي، أم مارد من جان؟.
-                    إنه يقول لكل من يريد أن يسمعه بأن اسمه الحقيقي هو جابر الزواوي، وأنه كان عميلا للمخابرات وتمت تصفيته بإغراقه في البحر.
كانت الأم قد انتهت من جمع أشيائها، فيما كان جسدي وفكري يتبعثران كأوراق أشجار شارع الحبيب بورقيبة التي بدت لي فجأة صفراء باهتة وحزينة. استجمعت ما بقي لي من أشلاء صوت خرج متحدرجا من حنجرتي وسألتها:
-                    وماذا أخبرك أيضا؟
فقالت مبتسمة:
-                    يا لك من رجل طيب.. آنت الوحيد الذي أصغى إلى هذا الهراء.. حتى الطبيب النفسي الذي استشرناه لم يجد في حكايته ما يفيد.
فقاطعتها مستعجلا، فيما كان هو يقرمش قرن المثلجات بلذة ويرمقني بنظرة ثاقبة:
-                    رجاء أكملي لي حكايته... ثم أضفت لأبرّر شدّة اهتمامي "إنها تصلح لأن تكون قصّة".
فأجابتني:
-                    شكرا على اهتمامك، إنه يقول بأنه التقى بأحد أصدقائه أمام مقهى حين كان يحاول التخفي من عصابة كانت تلاحقه، وسلّمه كتابا فيه رسالة مشفّرة لكي يتمكّن من إنقاذه وإنقاذ نفسه..
"إنقاذه وإنقاذ نفسه.." كنت أعيد هذه الكلمات غير مستوعب للمشهد السريالي الذي اعيشه، فيما كانت هي تتحدّث عن مخاطر مشاهدة الأطفال لنشرة الأخبار والأفلام البوليسية، وإلا فمن أين لابنها مثل هذه العبارات العجيبة والغريبة.
ابتعدت مسرعة بعد أن حيتني. وكان آخر ما رأيته رأسه الصغير الذي أداره نحوي، وإشارته بالإبهام والسبابة على شكل مسدّس وهو يغني مع نانسي سيناترا " بانغ بانغ... حبيبي أطلق عليّ الرصاص".
أضحكني هذا الموقف صراحة، يعني الرجل العجوز المريض كتب على حاشية الكتاب نصا أكاد أجزم أنه أجمل نصّ قرأته في حياتي عن مشاعر الخوف والوحدة والرهاب، كما أنني بصراحة أحبّ أغنية ابنة المغني والممثل فرانك سِيناترا، فهي المفضّلة لدي، فقد وضعتها رنة مميّزة في هاتفي الجوال. وتملكني شعور من يحسّ بأنه قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء من مشاهدة فيلم رعب إلى الآخر، ويعدّ نفسه بقرب ظهور شارة النهاية، نظرت حولي أستمتع بالمقهى الهادئ، والبحر المطلّ من الشرفة، ثم عدت إلى الرسالة الغامضة أواصل التهام أسطرها الأخيرة التي ألفت تعرّجاتها وانحناءاتها.
عندما فتحت عيني أخبرني الطبيب ببدلته الخضراء بأنني كنت ملقى على الأرض أصارع نوبة قلبية حادة. ثم أضاف اللعين ضاحكا:
-                    ما تزال لديك طلقة أخيرة.. أقصد أزمة أخيرة قبل تنتهي..
ثم استدار قبل أن يغادر الغرفة وسألني وهو يغمز بعينه ويشير بسبابته وإبهامه على شكل مسدّس:
-                    ها.. إلى أين وصلت؟ هل انتهيت؟
عندما وصلت إلى هذه النقطة الأخيرة من الرسالة، أصابني خمول أشبه ببلادة فكرية تجعلك عاجزا عن القيام بأية حركة. غابت عني مشاعر الانبساط والتفكّه التي رافقت قراءتي للرسالة، وحلّ محلّها شعور بالامتعاض والمرارة.
رحل فكري بعيدا مع الكتاب الذي يجب أن أقرأه بتركيز ومع شخصياته والطريقة الغريبة التي وصل بها إليّ. عاودت قراءة الإهداء مرّات ومرّات. وعاودت النظر في الرسالة التي وضعها العجوز المريض. فعلا يجب أن أقرأ الكتاب علني أجد فيه رسائل خفية لي. من يدري؟
وكاد الأمر أن يتوقّف عن هذا الحدّ لولا أن فضولي دفعني للاتصال بصديقتي الممرضة لأطمئن من خلالها على صحة المريض الذي سلّمها الكتاب. غير أنّ أحدا في المستشفى – ربما يكون عامل موزّع الهاتف – أخبرني أنّ جليلة، وهذا هو اسمها، ترقد منذ أسبوع في غرفة العناية الفائقة بعد أن تعثّرت وسقطت في السلّم وأصيبت بارتجاج في المخّ وشلل رباعي. فاجأني الخبر ونزل عليّ نزول الصاعقة. وكدت أسأله عن الرجل المريض العجوز غير أنني أحجمت فلم أفعل، فقد كنت أجهل اسمه.
قرّرت مغادرة المكان. لم يعد يحلو لي الربيع في تجليه السندسي البديع، لا البحر الأزرق الملتحم في خط أفقي مع السماء الناصعة الزرقة. وسدّت حواسي أمام رائحة الأزهار الفواحة وصوت الطيور الشادية، وضحكات الأطفال وهمسات العشاق، وأغنية أم كلثوم التي تملأ الفضاء وهي تغني "بعيد عنك حياتي عذاب".
وقفت بصعوبة وأنا أمسك الكتاب، فاقترب مني النادل ليمسح الطاولة، وأعطاني فاتورة ما تناولته ومعها ورقة مطوية. تركت عشرة دنانير على الطاولة، وخرجت مسرعة لا ألوي على شيء.
وعندما بلغت أوّل زقاق، وتأكدت من أن لا أحد يتبعني، فتحت الورقة بيد مرتعشة وقلب يكاد يهرب من قفصه الصدري، كان مكتوبا عليها، بخط متعثّر بعدّة ألوان لبدية ومع رسوم طفولية "باء بوم تحوم .. لام لصّة قرأت قصّة... " لم أكن قد أنهيت قراءة الرسالة عندما سمعت مكابح دراجة نارية تقف فجأة قربي، ثمّ لم أعد أرى شيئا.


روضة السالمي
23 فيفري 2015

20‏/2‏/2015

قرف

كان يجلس على عتبة باب المسجد التي هرمت و تآكلت أطرافها مئذنته, يمدّ رجله العرجاء أمامه كسيف ثلمت ذؤابته, يداعب خشب العكّاز الذي اسود لونه بيده اليمنى, بينما ترقد يده الأخرى ذات الأصابع المتشنجة على حجره و يظلّ ينظر إلى مناطق آهلة بعيدة ذات اتجاهات ممكنة.
لا أحد يعرف من أين جاء و لا إلى أين يأوي حين تبدأ خيوط النور العنكبوتية الشفافة في التلاشي.. حاولت مرات تتبّعه خلسة, لكنني لم أكن لأجرأ على أكثر من الرغبة كنت أخشى أن تلتقي عيناه بنظراتي المتسربة عبر النافذة فيترصّدني.. كنت أخشاه و أتحرّق فضولا, وحين أمرّ بجانبه أشتهي أن أسأله, لكنّ نظراته كانت تخيفني..

كان أزرق الملامح, مرّ التقاسيم, وفي عينيه يتوهّج مكر غريب, يرتدي شتــــاء و صيفا –كدرونا- رماديا مهترءا وحذاء عسكريا باليا, في طريقي إلى المعهد كنت أراه يبحلق في المارّين بإصرار مقيت, فأستعيذ باللّه منه و أقرأ المعوّذتين وأسرع الخطو.

صباحا يخرج الناس من بيوتهم كالنمل[ يعجبني التشبيه, فأتخيّلهم نملا بستـة أرجل و قرنين] يركضون من مكان لآخر, يتزاحمون في (حانوت) ’’الهادي الجربي’’, يشترون الخبز و الحليب, ويشتري المترفّهون أشياء أخرى, يتزاحمون في الشوارع و في المقاهي و في المراحيض العمومية و في المحطات الرديئة و في الحافلات التي لا تحفل بأحد.

الحافلة رقم ثمانية و عشرين تزعجني, تغصّ بجحافل النمل. من خلال الزجاج الذي تراكم عليه الغبار و بخار الأنفاس الخانقة لا أستطيع أن أرى سوى أشباح منازل هزيلة و أشجار شاحبة و بغيضة, تقف قربي نملة بيضاء ترتدي فستانا ضيقا أحمر وتضع أحمر شفاه أحمر و طلاء أظافر أحمر وشعرا مستعارا أحمرا وحذاء.. أخضر, كرهت اللون رغم براءته, كرهت الرجل النملة الذي لم يخجل حين أدرك أنني أترصّد حوافره التي تتلمس ردفها بلذّة باردة مقرفة.

كنت في الحافلة رقم ثمانية وعشرين. كنت في صندوق نمل محارب. نظرت إلى ساعة يدي الرخيصة, كانت السابعة و النصف بقيت أمامي ساعة على الأقلّ قبل ابتداء الدرس.

تمشيت في الشارع الغارق في صباح خريفي بارد و كئيب. رأيت رجلا يعرج فتذكرت أعرج الحيّ.. سرت على الجادّة [لم يكن السير سهلا لأنّه كان عليّ أن أقفز من حين لآخر – تماما كالضفدع- كي أتفادى الوقوع في الحفر المليئة ماء أسودا و التي تركها عمّال البلديّة المواضبين جدّا تخليدا لذكرى مرورهم], قررت أن عليّ أن أشغل ذهني الخامل بالتفكير, اخترت اسما للأعرج, كان اسما قبيحا, يناسبه, سأدعوه ’’الخضري الميزوري’’.

لم أنتبه إلى حجر ناتئ, تعثرت و تمزّق الحذاء. لعنت الصباح المقرف و ’’الخضري الميزوري’’ القميء. و انحنيت أتفقد الحذاء, لامس شعري الطويل جدّا و الجميل جدّا و المزعج إلى حدّ الغثيان بركة صغيرة من المياه الآسنة, قال أحدهم كلاما نابيا وهو يتعمد أن يتعثّر بي فتلامس يده عجيزتي الهزيلة التفت لأسبّه, لكنه كان قد ابتعد وبردت رغبتي في الشجار.

نهضت, نفضت التراب عن يدي و الماء عن شعري.. و اجتزت الطريق, عادة لا أحبّ أن أرى أحدا في الصباح, حين أخرج من البيت أظلّ أدعو الإله كي لا ألتقي صديقا أو صديقة… في الصباح لا أحبّ أن أتكلّم, أكتفي بالنظر, أنظر إلى كلّ ما يدور حولي بصمت بارد.

كان الصباح باردا و كئيبا, ينذر بيوم رمادي له لون ورائحة و مذاق متعفّن, حذائي يسرّب الرطوبة و البرودة و الحصى- كلّ الظروف تآمرت لجعلي أشعر بالكآبة- أحسّ أنّ شيئا باردا و لزجا و مقرفا سيحصل.

… لماذا ينظرون إليّ بكلّ هذا الإصرار ؟ هل أنا قبيحة جدّا ؟ هل بقي بعض من المخاط على أرنبة أنفي الكبير ؟ هل يوحي شحوب وجهي و هزالي عن إصابتي بالسيدا ؟ هل أنا مختلفة ؟…

مددت يدي إلى حقيبتي أبحث عن نصف المرآة, عينان غائمتان تحيطهما هالة زرقاء, عينان مقرفتان بلون أخضر غبيّ. أكره هذا اللون أتافه, نفس اللون المعاد لأوراق أشجار تافهة تنام بميوعة على الجادّة المبللة بمطر حزين و بول كلب أجرب.

وصلت إلى آخر الشارع العريض. تنتظرني نصف ساعة أخرى من التسكّع, سأحاول أن أدخل الصفّ بعد الجميع, لو وصلت باكرا فسينظرون إليّ, تلتقي عيوننا في لمحة خاطفة فيبصرون نظرتي الـ . .. و يهزون رؤوسهم الثقيلة في تحية الصباح, حينها عليّ أن أفتح فمي, أدخل الهواء عميقا في رئتيّ, ألفظه بطيئا مع حروف تتلاصق في قرف و عندها سيعرفون.

هذه الأيام لا رغبة لي في الحديث, الكلام يزعجني, مجرّد التفكير في عملية النطق يصيبني بالغثيان, ربط المعاني و الحروف يسبب لي ألما غريبا, نزيفا في الأفكـار و الذكريات التعيسة.. لا أحبّ أن ينظر إليّ احد ... أعتقد أنني سأعود للبيت.

أمي في المطبخ تريدني أن أساعدها, تصلني تذمّراتها ممزوجــة برائحة البصل و موادّ التنظيف أقترب منها, أحاول ألا أقترب كثيرا, أشتهي أن أقبلها. أخشى أن تطلب مني تهريس الثوم أو غسل الأواني, أخشى أن تسألني عن سبب عودتي المبكرة, حينها سأضطرّ إلى الكذب. لا يزعجني أن أكذب, ما يزعجني حقّا هو أنني سأضطرّ إلى فتح فمي. تقول أمي إن الأعرج يضايقها بتلصّصه المفضوح, أجيبها بأنّه "الخضري الميزوري" فلا تدرك العلاقة.

سريري كما تركته في الصباح و كما كان أمس و أوّل أمس و منذ شهر ربما-منذ متى لم أغيّر لحاف السرير-.. نزعت الحذاء الممزّق فبرزت الجوارب الرّطبة المهترئة, نزعتها, نظرت إلـــى أصابــع أقدامي القذرة, تكاسلت عن غسلها و أدخلتها بنزق تحت الشراشف. لم أنم, ضجيج الشارع يكاد يخرجني عن الصواب. أتساءل عن الفرق بين النوم في غرفة و النوم في وسط الشارع.

أرضية الغرفة اكتسحتها أوراق أختي, أوراق كثيرة- أغلبها أخذته خلسة من عندي- عليها خربشات مهووسة مزعجة, أرقام غبيّة لا نهائية أغنية "موعود" لعبد الحليم حافظ, و أشياء أخرى… أحمل بصري في قرف إلى السقف. عنكبوت صبور ينسج بيته ما بين خيط الكهرباء و الزاوية. أتململ في الفراش أمسك دفتري, أحاول أن أكتب شيئا, لا يسطّر القلم غير سطر محشرج طويل. أغلق الدفتر أعيده إلى الحقيبة. أمسك نصف المرآة لأنظر في وجهي.

أراني أخرج من الغرفة, أتلصص من النافذة, أبصر "الخضري الميزوري" لا يتعب من التجسس العلني, تمرّ نسوة يرتدين (السفساري) يتبعهنّ بعض الصبية الوسخين كالخنانيص, يتعثّر خنّوص سمين, يقع ينهض باكيا و يلحق البقية, تلاحق القطيع نظرة السيد المحترم "الخضري الميزوري" الثقيلة و الباردة.

أرتدي ثيابي على عجل, أقبّل أمي و أخرج, إلى أين يمكنني الذهاب في هذا اليوم البغيض. أريــــد أن أرى شيئا مغايرا. ليس لي أصدقاء, فقدت البعض و انسحب البعض الآخر, ولا أريد رؤية أحد.

قادتني خطواتي العجلى إلى المدينة العتيقة, قطط مقرفة تحتفل حول كومة زبالة, يشاركها مرحها البغيض كلب أعور و الكثير من الذباب, أستغرب هذه الألفة الغريبة, سائح يرتدي تبّانا فضفاضا و حذاء رياضيا, كان قليل شعر الرأس, تلتمع جلدته المصهودة بالشمس في زقاق معتم, كان يقبّل سائحة سمينة ترتدي شبه ملابس.

مرّ بجانبي عجوز, وجهه حفنة تجاعيد عجنت بشعيرات بيضاء كالإبر, وفي عينيه قذى, يرتدي جبّة سمراء و "بلغة" صفراء و يحمل في يده المعروقة جريدة مطوية, قال لي وهو يجهد في بسط تعاريج الزمن على وجهه: "آه يا كبدي لو كان نرجع صغير", بصقت عليه في سرّي, أحاول أحيانا أن أنسى أنني أنثى. إلا أن هنالك دائما من يجد متعة دائمة في تذكيري بذلك.

حين مررت قرب المقهى بعث لي رجل يعتمر "شاشية" تآكلت أطرافها و امحى لونها قبلة هوائية تلقيتها بقرف إلى جواره كان يجلس رجل خمسينيّ ذو كرش منبعجة ترقد قرب فنجان قهوة فارغ على الطاولة و كانت أسنانه النّخرة تترك رذاذا من البصاق الخاثر يسيل في خيط متقطّع على صدره و ينحدر على قميصه الأزرق ليستقرّ فوق الكرش العظيمة في حين تغمز لي عينه اليمنى بإصرار فجّ.

إعترضني شابّ عشرينيّ, مرّت عجوز بسرعة صوت إرتطام مزلاج بخشب باب قديم, صياح طفل مواء قطّ حزين. توقّف أمامي, سدّ عليّ النهج الكئيب, كانت سماء الخريف تخفي وجهها الشاحب خلف بعض الغيوم التافهة. فتح السحاب وأخرج شيئا بغيضا وقال كلاما بذيئا. تراجعت قرفا. ركضت في النّهج المظلم.

أحبّ هذه الأنهج المبهمة, تضعني دائما في الاختبار, أغيّر الاتجاه قليلا فأكشف عوالم جديدة يفصلها عن بعضها زقاق أو نهج مظلم, و كأنني السندباد يبحر في أنهج المدينة العتيقة.

فتحت "خياشيمي" أستنشق عبق التاريخ فأدمعت عينيّ راحة بول قديمة, طنّت ذبابة هرمة قرب أذني. لم أفهم ما قالته العجوز. كانت تتلفّع بسفساري رمادي, يتدلّى من يدها سوار فضّة مسودّة, يدها الممدودة سوداء ناحلة, أظافرها سوداء ووجهها أسود. كانت تمدّ لي يدها, كانت تتوسّل أو ذلك ما اعتقدته.

كان وجهها الخنفوسيّ صارما وهي تمسكني بيديها كالأحمق[عليّ أن أقول كالحمقاء إذ لا بأس من التذكير بأنني أنثى, فلو كنت شيئا آخر رجلا مثلا لما استطاعت المرأة الخنفوس اختطافي].كلّ ما أذكره عن الطريق كان قطّا هزيلا ينتظر الموت بقرف عند جدار تاجر و قد أغمض عينيه إعياء.

لم يخطر ببالي أنّ كونا آخر ينتظرني خلف باب جانبي في زقاق مظلم, انتهيت بفضل دليلتي (الخنفساء) إلى فناء ضيّق تنعكس فيه بذبول بقايا شمس خريفية أصابها الرّمد. في الزاوية اليمنى قرب المدخل تجلس امرأة بلا عمر محدد تدخّن سيجارة تحتضر. ماء خلفي قطّ بليد بصوته الممطوط. دفعتني آسرتي إلى غرفة جانبيّة و خرجت. زكمتني رائحة تشبه الموت, كانت الغرفة باردة و معتمة, صدى الصمت يقرع الجدران المهترئــة, صمت مضطرب يوحي ببدء حفلة غير مألوفة, و شيئا فشيئا خفّت العتمة و بدأ النور يوضّح الموجودات.

كنت وسط بلاط مهيب, سجاد قيروانيّ مزركش ينام في دعة على طـول المكان و عرضه, أعمدة من الرخام و المرمر السود تحيط المكان, ستائر حرير و دمقس. طنافس, تحف, صورة مهيبة "للقديسة مادونا" وهي تعمّد النبيّ ذو المكاييل جاكسون بريشة الفنان "دافينشس أنجلو" مقاعد مريحة من أثاث الهناء, قفص فيه طاووس من ذهب و فضّة و زمرّد و عاج و فيروز, مراوح ريش يمسكها صبيان بحلل سندسية و استبرق, نساء حسان و غلمان, و أشخاص تبدو عليهم النعمة.

كنت وسط المجلس المهيب و لم ينتبه أحد لوجودي فتحركت بخفة و حذر حتّى لا يلحظوا وجودي و اتجهت إلى ركن قصيّ حيث أرى دون أن يراني أحد, جلست على وسادة من مخمل أزرق, لم ينتبه لوجودي أحد [يبدو أنني أصبحت بعد الاختطاف كائنا لا مرئيا أو مخلوقا مجهريّا].

يتوسط المجلس شاب عشرينيّ يترقرق النور عليه و قد ارتدى جبّة بيضاء لا يشوبها خيط أسود, و إلى يمينه جلس رجل مهيب الطلعة تزيّن وجهه لحية بيضاء و لا يشينه شيء و لا حتّى رجله العرجاء, و في المجلس أمراء, ورجال دولـة و سفراء و كتبة, و أصحاب دواوين, وجند, ورجال شرطة, و سفـــراء و علماء و شعـراء و قضاة و تجّار و أصحاب حاجات, و رحّالـــــة و أطبّــاء و وجهاء و أثرياء و لصوص و مبشـرون و منــــذرون و فقراء و متسوّلـــــون و قتلة, و فجّار و قوّاد و منظّرون و نقّاد و متكلّمون باسمهم و متكلّمون بإسم غيرهم و متكلمون بإسم الأحزاب, و متكلمون بلا تسمية, و وصوليون, و خبثاء, و مجانين, و عقلاء, [و أنا طبعا] و غيرهم.

و كان يقوم على خدمة الجميع فتيات أنيقات جميلات يفحن عطرا و ينضجن سحرا يرتدين ما يستر بمقدار و يكشف بمقادير.

وقف الرجل الأعرج ذو الطّلعة المهيبة و أمر الجميع بالسكوت و الانتباه و خاطبهم قائلا: "بإسم الملك العزيز علينا أدامه الله لنا و للوطن أفتتح أنا الوزير ابن الوزير المكنّى بالخاضريّ بن مازر بن كلامه هذا الحفل البهيج.." و ما إن أتمّ الوزير كلامه حتّى هجم الحاضرون على الجواري, أوقفوهنّ في صفّ طويل و أنتقى كلّ ما طاب له من الإناث, و بدأ الرقص يشتدّ مع ضربات الطبول التي يقرعها الغلمان. و أخذ الجميع في العزف و الرقص و الغناء.

بدأ الملك يعزف على دفّ صغير, ينقر نقرات سريعة متحفزة تتلوها أخرى أشدّ سرعة و أقوى وقعا حتى كأنّ الأعمدة بدأت ترتجّ, ثمّ بدأت الألحان تنبعث من كلّ ركن فأخرج الخاضريّ بن مازر بن كلامه ساكسفونا و صاحب الشرطة مزمارا و الطبيب هارمونيكا و القاضي عودا و الشاعر طبلا و المتشاعر إناء طبخ إتخذه طبلا و الرحالة عودا و بقية الحضور يصفقون و يصفّرون و الكلّ يغني و الجواري بعد أن نزعن كلّ رداء يرقصن رقصة البطن و الأفخاذ, وغرق المكان بالعرق.

و كنت في ركني القصيّ أعاني صداعا مؤلما يشقّ رأسي إلى نصفين, أغمضت عينيّ برهة ثمّ فتحتهما فألفيتني وحدي و قد غاب الجميع و تحولت الجدران إلى مرايا كبيرة و أخرى أصغر منها بكلّ الأشكال فمنها المستطيل و المربّع و المعيّن و شبه المنحرف و السداسي الأضلاع و الثماني و غيرهما من الأشكال المضلّعة, لكنني لم أستطع أن أرى نفسي في المرايا, يطالعني في كلّ مرّة وجه غريب ينظر إليّ تكاد عيناه تشتمني, تبصق عليّ, تنتف شعري و تقتلع عيناي. لماذا كلّ هذا الحقد في العيون, لست مسؤولة عن حبسها في مرايا باردة.

خيّم صمت مقيت على المكان. أطبقت جفوني بشدّة لكن نظرات المرايا الباردة تسرّبت إليّ تحدّق بي من خلال الظلام تسخر من تفاهتي و تقزّمني, نظرات نساء كريهة, عيون بكلّ الألوان تبدو أخّاذة أفكّر أنّها ربّمـا تكــون عدسات لا صقة ورموش مستعارة و كحل و ظلال, عيون باردة خاوية فجّة بلا ذكاء بلا معنى و لا تاريخ.

أفتح عينيّ من جديد فلا تقابلني سوى عينين بلون شجر الطريق و قد سقطت أوراقه على البلاط المبلل برذاذ الخريف تنظر إليّ من خلال نصف مرآة تآكلت فضّتها و وشّتها العتمة المطلّة من خلال الثقوب الدقيقة.

نهضت من السرير و توجهت إلى النافذة, فتحتها فدخلت رائحة المطر اللذيذة تغسل شعوري المنهك و تجدد إحساسي, كان "عم الخضري الميزوري" قاعدا على عتبة الجامع يمدّ رجله العرجاء أمامه و يراقب بعينيه الشبيهتين بثقب آسن امرأة ملتحفة (بسفساري) و لا يظهر منها سوى عين واحدة, كان يراقبها و قد انفرجت شفتاه الزرقاوان عن ابتسامة قبيحة تبرز أسنانا نخرة سوداء, ابتعدت عن النافذة و أنا ألعنه في سرّي, ألن يدعني بسلام أهنأ حتى بأحلامي وكوابيسي ؟.

روضة السالمي  

تونس 6/1996

10‏/2‏/2015

تفاحة خضراء

تفاحة خضراء بقلم روضة السالمي

أشارتْ برأْسها إلى شُرفته هامسة:
 -كيف يستطيعُ ترْك نافذته مفتوحة في هذا الطقس البارد؟..
فأجابتها بهزة مطوّلة من رأسها:
 - أعتقدُ بأنّه رجلٌ غريب الأطْوار حقًّا..
واصلتا ارتشف الشاي الدافئ بلذّة، وهما تنظران من زجاج النافذة.
كانت الساعة تترنح عند الثالثة ظهرا.
والجار الجديد - الذي سكن منذ ثلاثة أيام في الطابق الرابع من العمارة المُقابلة، وخرج منذ السابعة وستة عشر دقيقة صباحا، مرتديا بذلة رمادية وقميصا أزرق من دون ربطة عنق، والذي كان يحمل بيده اليسرى حقيبة قديمة، بينما يضع يمناه في جيب بنطاله، ولم يعد إلى شقته إلى حدّ الآن - إنما هو تفاحة خضراء يحلو قضمُها على مهل في هذا المساء الخريفي الطويل.