10‏/3‏/2015

قد يكذب الظل وتخطئ المرايا


قد يكذب الظل وتخطئ المرايا – روضة السالمي
أغفيت قليلا. أغفيت إنهاكا. لم أتعوّد بعد هذا القناع البديل. لم تخنّي الذاكرة تماما. فقط مدّت لي خيطا شفّافا رفيعا لأتمسّك به.. أن أستغرب وجهي المنعكس على المرآة معناه أنني كنت أنتظر شيئا مألوفا. لا يخرج عن نطاق ما تعوّدته. عن إطار النموذج الذي أحمله في داخلي عني.. ما دمت أحمل ذلك التصوّر معناه أنني أمسك بجزء ضئيل من الإجابة.. يعني أنني لم أنس شكلي تماما. أو أنني لا أذكره في تفاصيله وجزئياته. ما دمت موقنا أن الذي انعكس على الزجاج ليس لي. لا أذكره. لا أعرفه.. ربما كان ظلي.. لكن هل يكذب الظل إلى هذا الحدّ؟.
بعضي ينكر بعضي.. أعجز عن الفهم. عن استيعاب ما وجدته ملقى على هامش الورق.. وقد تخطئ المرايا.
أغفيت قليلا. وكمن يستفيق من إغماءة اجتاحني الإحساس بالدوار والغثيان. مازال المشهد قائما أمامي. أحسه وكأنه واقع. وكأنه حقيقتي التي عشتها منذ الأزل. وكأن الحلم اختصر لي الزمن.
.. كان الجميع هناك. من أعرفهم. ومن لا أعرفهم. مكدّسين في المشهد المصبوغ بلون التراب.. مدير المؤسسة يرتدي جوارب خضراء تستر عريه. يدخن عقب سيجارته ويشكّل في الفضاء سطورا لا مرئية يذيّلها بتوقيعه. بائع صغير يحمل يقطينة مغروزة بالياسمين. يدور بين الموجودين يحاول أن يفتّك ابتسامتهم الباهتة ليشكل بها عقدا يطوّق هزاله. حارس البناية يستحم في حوض فارغ. يرتدي قبعة العمل الزرقاء ويرسم حوله إطارا بأصابعه المبللة. امرأة ضريرة بوجه أبيض بليد وكأنه مصبوب من الجص. تجلس فوق الحصى تحيك من أوراق الخريف كنزة لشتائها الطويل. والدي يرقّص كرشه الضخمة في قهقهة خرساء. فوق كرشه الملساء تجمعت قطعان من الذباب تلتقط فقاقيع الصابون الخارج من السرّة..
كانوا هناك جميعا.. كل واحد منهم يحمل إصبع طباشير يحاول أن يرسم حدود إطاره الخاص في الفضاء المعتم..
رأيتني في طرف الحديقة المغروسة بالحصى. ممددا على ظهري أنظر إلى النجوم. يفيض جسدي على المشهد وكنت عند رأسي أتأملني. ألمس في خيالي التفاصيل المثيرة. ثم أمسكت الرأس فصلته عن الرقبة. وضعته في سلة دهان. بقيت عيناي تنظران إلى النجوم. لم يكن في السماء نجوم. فصلت باقي الجسم. أفرغت محتوى البطن من أمعاء ثم ملأته بالحصى. ربطت باقي الأطراف بشريط طويل ثم علقتها كعرجون على غصن شجرة كان يمرّ من هناك.
امرأة تجرّ رضيعا خلفها. مربوطا من عنقه بحبل. توقف قرب صفحة جريدة قديمة تشممها ثم تبوّل عليها.. جذبته بشدة من حبله فعوى وتبعها. السكرتيرة تشرب زجاجة عطر وترسم بأحمر شفاه دوائر صغيرة. دائرة للقدمين. إطارا لليدين. دائرة صغيرة للرأس. ودائرة أخرى لبقية الجسم. وبقيت خارج الدوائر. لم يكن صديقي يرسم دوائره. كان يجلس مقرفصا يخفي رأسه بيديه. وبقي ينتظر بقية الحفل. ربما ليرسم إطاره في هدوء. عشيقان يتعانقان فوق الحصى المعفّر. يخدشان بعضهما البعض بالأظافر. يتعاضّان. يتراشقان بالحجارة. يتعانقان. يتناهشان بالأنياب يخنق أحدهما الآخر. ويعودان من جديد.
رأيتني متكأ على جنبي أرسم على الحصى كقارئ الرمل خطوطا ما لها أول ولا آخر. وحين هبت ريح شرقية تحمل في طياتها الغبار وأوراق الشجر وزبالة مختلفة أخفيت رأسي في بئر مهملة ثم عدت في خفة أراقص خطوطي.
المرأة التي تشبه عصا المكنسة تحتضن صعلوكا أحمر الشعر.. طويلا بشكل مذهل وبينهما كانت تنام دمية من البلاستيك الأزرق. كانا يحضنانها. يداعبان جسمها الفارغ. يتجاذبان أطرافها ثم يأخذان في العراك. يحاول كل منهما سحب جزء إليه. ينفلق بينهما الجسم الفارغ. تخرج الأمعاء فيغرقان في دم غير مرئي. ينظفان عريهما بخرقة شفافة. يجرجرانها من أشلائها ويمضيان. وعلى جسميهما كانت ترتسم دوائر فارغة.
تثور ضجة الموسيقى الصاخبة. هجينة الألحان. ثم تصمت فجأة لتعود من جديد. لا أحد ينتبه إلى ذلك. كل يمضي لشأنه. لا أحد أكل من الوليمة التي نصبت على نخب الحفل. فقط كانوا يتراشقون بالصحون وقطع اللحم ويسكبون على بعضهم المرق. كنت تحت الطاولة أتأمل خريطة بالمقلوب وقد تبللت بالشراب وبالمرق.
وحين دقت الساعة خمسة عشرة دقة أخذوا يرقصون ودخلوا المرآة.. حاولت أن ألج الزجاج الشفاف فلم أستطع. بقيت أبحث عن المفتاح تحت الحصى الأزرق. نفذ المشهد كله فتطايرت الرؤوس والشظايا وتعالت القهقهات.
حاصرني الصوت فاستفقت. عدت راكضا إلى دفاتري. علني أنفض بقايا المشهد. علني أجد سر المرايا.
روضة السالي، تونس 1999، من رواية شظايا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق