21‏/10‏/2015

نساء صغيرات مذعورات

"هل قلت أنني أكره النساء الصغيرات المذعورات النائحات الباكيات. تذكّرن كلامي هذا جيّدا. فلن أكرّره. توقّفن عن النواح والنباح والصياح، وعجّلن في برم حبال للسفينة من شعركن. يجب أن تكون جاهزة غدا قبل أن تسقط أوّل قطرة من حمم الغياب. فالطوفان على الأبواب وأمامي سفر طويل وأمامكن وقت قصير."
ذاك ما قاله حرفيّا. فقد سمعته أنا وريماس. ورأيناه وهو يلوي عنق المسكينة راما، ثم وهو يغلق الباب بسخط بعد أن تركها تتخبّط قرب الجدار.
وفي الظلام الحالك الذي ألفته عيناي أبصرت ريماس تنظر إلى الزبد المتخثّر، وهو يقطر من فم راما، ثمّ قالت شاخصة النظرات ودون أن تحرّك شفتيها: "وهكذا نشأ درب التبانة.. من التحام ظلّ راقص في الغابة السرمدية مع مجموعة من تلك الفراشات الليلية التي غطّت الجدار".
فهمت كلّ شيء. فبعد قضائنا كلّ هذه الأيام بلياليها في هذه النقطة المترجرجة من الزمن، أصبحت أفهم تماما ما قصدته بكلماتها. لقد قرّرت الرحيل.
وبالفعل. فبعد أن أنهت جملتها تلك، وقفت بعزم على قوائمها الخلفية التي يغطيها شعر أسود كثيف، وطارت بخفّة مفاجئة نحو الجدار الذي تكسوه آلاف الفراشات الليلية. كانت الفراشات السوداء ملتحمة تحيك ظلمة الجدار، حين ارتطمت بها ريماس بقوة غير متوقعة فصنعت حفرة بيضاء جعلت الفراشات تتطاير وهي توشوش وتصفق بأجنحتها، ثم عادت فابتلعتها بنشوة وجعلتها جزءا من مستنقعها العمودي المعلّق.
وهكذا بقيت وحدي.
كنت قد عايشت جميع الأحداث خلال إقامتي الجبرية في هذا الحجز اللغوي والمعنوي. وشهدت كيف قضت الساردات الناسجات نحبهن، باستثنائي، لذلك لم أندهش من الحركة الانتحارية الأخيرة فقد سبقتها إلى الاختفاء في غياهب الغياب السرمدي نساء صغيرات مذعورات أخريات، أطلقت عليهنّ في سري أسماء واخترعت لهنّ وجوها.
وفي الحقيقة كنت أتوقّع لراما مثل هذه النهاية، فقد فعل بعنقها مثل ما فعلت هي بعنق السرد. وبما أنني آخر الناجيات حسب ما تسمح لي به الرؤية في هذه الحجرة المعتمة، فيتعيّن عليّ، من باب اللياقة، أن أستهلّ الحكاية من البداية.
يمكنكم تسميتي مايا. أعتقد أنني أصغرهن حجما، وأقلّهن كلاما. وربما كان ذلك سببا في سلامتي. كنّا ثلاثة وأنا رابعتهن. وكنّا قبل ذلك أربعة وأنا خامستهن. ولعلنا كنّا أكثر من ذلك، ففي الظلمة الحالكة، تتشابه الأصوات وتتشابك الأنامل المتخشّبة وهي تفتل من الشعر حبالا تتلوى.
كانت راما، التي دقّ عنقها للتوّ، مثلما أتخيلها، جميلة سمراء في لون القرنفل والقرفة، تزّين جبينها بنقطة من خرز أحمر. ولطالما تخيّلت، طيلة أسرنا المشترك، أنه من الوارد جدا أنّ مجموعة من الأيادي والأعين تطلّ برأسها من ذلك الثقب الأحمر العميق فوق جبينها، أو أن لسانا مثل لسان الأفعى يخرج خلسة فيتلمّس وجوهنا في ظلمة الغرفة، ويبصق سمّه في أناملنا الخشنة التي أصابها الخدر.
كما أنها كانت قادرة على البكاء دون توقف، وهي موهبة كلّفتها حياتها. أما موهبتها الغبية الأخرى فكانت قدرتها على قصّ نفس الحكاية أكثر من مرّة مع تغيير بعض التفاصيل والادعاء بأنها حكاية جديدة. يا لراما المسكينة، كم كانت تفتقر إلى الخيال، لقد كان من الجيّد التخلّص منها.
أما ريماس فيكفي أنني تحدثت مسبقا عن ساقي العنزة اللتان تحملانها أينما ذهبت. وكثيرا ما تساءلت عن مقاييس اختياره لنا، كلّما أحسست بالتفاف ساقيها على كتفي وهي تجبرني على حملها والطواف بها سبع مرات في أرجاء الغرفة حتى تتمكّن من النوم. وكم خشيت أن تأكلني مثلما فعلت مع شخصيات حكاياتها السقيمة، ولكنها كانت تكتفي بترديد بعض الجمل غير المفهومة في طوافها على كتفي، بصوت هادئ خفيض، يتحوّل تدريجيا، حسب نسق تنفّسها، إلى فحيح هامس أو عويل صارخ، ثم تنام مثل غيمة شاردة في سماء.
كما ترون، ما من شيء كان يجمعنا، نحن النساء الصغيرات في علبتنا المعتمة سوى إجادتنا لأعمال الحياكة، وقدرتنا على السرد المتواصل ليل نهار، رغم ضعف لغتنا وركاكة تركيبنا وسقم حبكتنا وافتقارنا إلى الخيال. كنّا قد مررنا، من دون أن ندري أو نبصر بعضنا البعض، تحت جسر حديدي صدئ ركد فوقه الماء، عندما جرفتنا أطنان من حديد وماء آسن إلى حفرة انكشفت تحتنا فجأة. وفي سقوطنا الجارف نحو الظلام لم نر شعاعا من نور، وإنما كان رأسه الشيطاني الأصهب هو آخر ما حملناه معنا من رؤيا.
وقبل أن أنسى، سأخبركم ما كنت أفعله قبل لقائي بالأصهب والنساء اللواتي أصابهن الذعر. أذكر أني كنت أجلس قرب شجرة جرداء جفّت فروعها في فناء بيت مهجور سدّ مدخله بجدار، ولعلّني أطلت السباحة في الضوء فخرج برعم من عيني اليمنى، وأطلّ برأسه غصن الصفصاف من أذني، وتحوّلت أصابع يدي إلى زهور زرقاء غضّة طافت حولها الفراشات كما لو كانت تؤدي منسكها الأبدي. ولم يمض قرص الشمس مثل سفينة يؤرجحها طوفان من النور نحو الغرب، إلا بعد أن تحوّلت كلّ نبضة من خفقات قلبي إلى ورقة خضراء تهفهف وتحكي أشياء قد تكون حدثت منذ عهود بعيدة.
توقّعت - وقد أصبحت صفصافة - أن تهدل الحمائم على أغصان يدي وهي تبني أعشاشها، غير أنني لم استهو سوى بومة رمادية حطّت كطير جارح على غصني، ورافقتها أفعى رقطاء تكوّرت عند جذعي. ثم ابتلعني الظلام العازل وجرفتني مياه راكدة، وأخرج ضفدع أخضر لسانه الدبق والتقط قلبي الخافق المرتعش.
وفي علبتنا محكمة الإغلاق، وقد نفذ زادنا، وصمت نباح كلبنا، لم نجد سوى شعرنا نجدله وأصواتنا الهامسة وبكائنا. إلى أن باغتنا حضوره حين أطلّ علينا من كوّة فتحت فجأة في الظلام، ولعلّه كان بابا أو ثقبا في جدار، وأمرنا بصوته العميق أن نسرع في صنع الحبال قبل أن يباغته طوفان الحمم ولمّا ينته من صنع السفينة بعد. فقد كان عليه أن يأخذ معه كلّ التفاصيل بما في ذلك النور والظلّ، والسيل والجفاف، والقبح والجمال، والصمت والكلام، والتراب والهواء، والحضور والغياب.
توقّف لولب زمننا عن الدوران. وغرقنا في غبار وهمي، حتى استحالت أفكارنا أمواجا من صرخات تتلاطم، وأطياف لخفافيش تلتحف ظلّ الكلمات دون مفردات. حاولنا الهرب أكثر من مرّة. كانت يارا التي تحمل على كتفيها رأسي أختيها ميارا ولارا تحاول شغل أذنيه المتلصصتين على صمتنا بإلقاء شعر يحاول بسذاجة بغيضة أن يكون سرياليا، فيما كانت وجد التي تستطيع لفّ رأسها بالكامل مثل البومة تتحسّس بحراشفها الجدار علّها تعثر على فتحة ما أو تتمكّن من تفتيت الحجارة. ولكنه كان الأسرع، فقد نفخ من فمه الموبوء ندفا من الثلج، فتجمّدت يدها وتساقطت أصابعها الواحد تلو الآخر، وتيبّست أعضاؤها، واتخذ جسمها وضعية راقصة هندية تؤدي حركات صلاتها المقدّسة. وبقيت معلّقة في السقف بعض الوقت قبل أن تلفّ حولها عنكبوت سكنت الزاوية حبالها وتعلّقها مثل مصباح في السقف فيما تطاير ريشها الرمادي في كلّ مكان.
فكّرت في تلك المرحلة، كم سيكون الأمر مبهجا لو كان في هذه العلبة خزانة، لكنت اختبأت في داخلها وتلوت تعويذة جدتي. لكنّ الأوان كان قد فات فعلا قبل أن تولد السكينة أو تعود الذكريات. وبنظرة من عينه الحمراء والأخرى الصفراء طعن ظلّ الشاعرات فحوّلهن إلى طحلب على الجدار استهوى الفراشات التي صفقت وهي تحوم حولها بشكل دائري قبل أن تنقضّ عليها مثل طير كاسر.
وبعد ذلك بوقت غير معلوم، وعندما دخل الأصهب، ليستلم لفائف الحبال، توقّعت ريناد أن تكون أسرع منه، وكانت دائما تنسى بأنه سيد اللعنات والقادر على كلّ شيء في عزلتنا تلك، فحاولت أن تخرج من الكوّة في الجدار بعد أن نبتت لها أجنحة، غير أنه تمكّن بحركة سريعة من يده أن يخرج أمعائها ويلفّها في الفضاء سبع مرّات قبل أن يلقيها عبر كوّة الجدار إلى الفراغ الموحش، وكان ظلّها ذاك الذي تركته خلفها، هو آخر ما رأيناه منها قبل أن تهلك في طقس موتها الأخير.
ولا أدري كيف استجمعت لمار صوتها، بعد أيام طويلة من الغزل المقيت وقد شحّت مواردنا من الشعر بموت الأخريات، لتغني عن بوم عادت تحوم ولوحة في جدار دار، ومطرية مبلّلة لم تبرح مكانها. فلم تشعر إلا وأنفاسه الملتهبة تلمس خدّها، وتجعل جسمها يرقص بارتعاش فينزلق على الأرضية الصلبة محدثا ارتطاما تطايرت له الفراشات مبتهجة.
كان قد أبلغنا في وقت سابق بقرب فراغه من تشييد السفينة، وطلب منا العمل في صمت. وفهمت أن لمار تعمّدت الغناء لترتاح من جحيم الصوت الذي يخترق رأسها مثل قطار يهدر فوق سكّة لا تنتهي. وبعد أن خرج الأصهب - مثلما كنت قد رسمته في خيالي الصامت - كانت مبعثرة، تحدّق عيناها العسليتان بدهشة في السقف، فيما ارتخت شفتاها، وتسلّل خيط من الرغوة المائلة للحمرة من جانب فمها. ورسمت دمائها التي فارت من رأسها ممتزجة بخليط غليظ من الدماغ شمسا مائعة ودبقة.
ذكّرني موت لمار بهنوف المسكينة التي كانت تحبّ الأغاني الخفيفة، فقد أزعجه غناؤها المتواصل لملء فراغ الوقت، وصوتها المخنوق مثل بومة في ليلة عاصفة، فلفّ على عنقها حبلا كانت تجدله من شعرها الكثّ المجعّد، ثم نفض يديه وقال أن عنكبوتا صغيرا كان كافيا للتخلّص منها، غير أنه يحب العمل المتقن ويحبّذ التأكد من كلّ التفاصيل. قال ذلك وهو يبتسم فانسلّت من فمه أفعى مرقطة وتكوّرت قرب الأشلاء تحرسها.
وهكذا بقيت وحدي مع الموتى وأشباح خوفهم وظلالهم المتجمّدة، أطارد النعاس بالأمنيات، كأن يطرق الريح بابي، أو أمدّ يدي فأجد رأسي المنسي خلف الخزانة، أو أعثر على تفاحة وبقايا وصية مهملة. وعندما بدأ العالم بالارتعاش عند قدميّ، أدركت أن وقت انطلاق السفينة فوق مدّ الحمم قد بدأ فعلا.
قدّرت أنه تركني ربما لأنني كنت الأصغر حجما والأقلّ كلاما، أو لعلّه يحتاج إلى رفقة في طريقه سرمدي البارد. وعندما دخل أخيرا ليعلن انطلاق الرحلة، بدا لي وجهه، بعينيه المحدّقتان في الفراغ، شاحبا أكثر من المعتاد، تأملت شعره الأصهب بحزن، وعندما فتح فمه، ظننت - لوهلة - أنه سيصرخ بي، ولكنه طلب مني بنبرة منهكة إعادة سرد الحكاية للمرة المائة منذ أن التقينا، لعله يفهم تماما ما حدث.
وبما أنني لا أميل بطبعي إلى الدراما، فقد اختصرت له الحكاية، وأخبرته عن رجل رحل وترك خلفه زوجة وبنات، وأوصاهنّ ألا يفتحن الباب لأحد، ولمزيد من الأمان، أمانه الشخصي طبعا، بنا جدارا أمام الباب والنوافذ وربط كلبا إلى جذع شجرة. وعندما طال الغياب ونفذ الزاد، ماتت النسوة واحدة تلو أخرى. ولم يبق من وجودهن سوى آثار بيت قديم وشجرة جرداء تأوي إليها البوم والأفاعي وبعض السحالي.
روضة السالمي
تونس، ماي 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق