30‏/1‏/2015

تأملات في بيت العنكبوت

تأملات في بيت العنكبوت
تأبى الذاكرة مدّي بالتفاصيل المخزونة في زواياها. تأبى نفض غبار التناسي من على أدراجها، وتأبى خرق بيت العنكبوت. تأبى نبش الأسمنت المسلّح المزروع في أرجائها الضيقة. تأبى الاعتراف... لقد تخلّت عني الذاكرة.
لم أضع في أي زحام. لم أتبخّر كحبّة ماء في ليلة قيض. لم يأسرني نخاس ما. لم تأخذني يد المنون على حين غفلة. ولم أنسني معلّقا على جدار. ولكنني حين بزغت شمس هذا النهار لم أجدني..
تغيّرت. لم يلحظ الأمر أحد سواي.. لا أدرك كيف تمّ ذلك بالتحديد. فأنا لم أعاين بدايات التغيّر. لم أشعر بخطواته الهادئة. المتوجّسة. محبوسة الأنفاس وهي تحوم حولي. ثم وهي تقترب مني.. ثم وهو يتسرّب خلسة مع أنفاسي. يسري في داخلي. يتغلغل في كياني. يجثم على صدري. يخرج من مسام بدني. يرتسم على صوري. يستولي عليّ. أو على ما بقي مني... لم ألحظ من ذلك شيئا. أو لعلني لا أذكر. لم أعد أذكر..
أبصرته أمامي. هذا الذي صار أنا. ماثلا في مواجهتي. كائنا مكتملا. غريبا عني. لا يشبهني.. لا أعرفه. كائنا قريبا مني. وكأنه منبثق عني. يلبسني كجلدي. لا أشبهه. ويكاد يشبهني.. كان وجها آخر ذاك الذي انعكس على زجاج المرآة المصقول. لم أره من قبل. أو لعلني لا أذكر.. لم أعد أذكر شيئا.. سكن الارتباك ذاتي.. غرز النسيان فيّ أنيابه.  
أراني من بعيد أمدّ أصابع متوجّسة. تتلمّس كأعمى أصابه الذهول وجها غير مألوف. لا الأصابع كانت أصابعي. و لا الوجه كان لي.. مشهد غريب ذاك الذي انعكس على برودة الزجاج المصقول. مشهد نادر الحدوث. غير متوقّع. مثير في لا واقعيته.. أكاد أشعر بارتعاش الأصابع المدهوشة فوق تضاريس الوجه الذي أزاح وجهي بعيدا وحلّ مكانه.. أرتجف تحت وطأة إحساس صعب التحديد مستعص على التسمية.
أنظر إليّ من بعيد. أنظر إليّ بعينين بعيدتين. تخترقان جسمي الماثل أمامي من كلّ اتجاه. بعينين لا أستطيع تحديد موقعهما. بعينين شاهدتين على إمكانية ولادتي الأخيرة.
كان ذلك آخر الفتق.. ذلك الذي سيعيدني إلى رصيف الوجود منهكا. ممزقا. مشققا. مقسوما. ملفقا. مشظى. مسحوقا . غريب الوجود.. كائنا بلا كيان. مغموسا في الإعياء. متضمخا بالحيرة.. كائنا يحمل في داخله الإعياء.. إعياء من ضني بسفر طويل.. سفر البحث عن البدايات.. سفر البحث عني عبر السطور الشحيحة..
أسدلت الستارة الشفافة. أغلقت الباب. تأملتني مرة أخيرة مرتسما على صفحة الزجاج. وبدأت البحث. كلّ ما في الغرفة مألوف لديّ. سريري الصغير محاذاة الخزانة. شراشفي المتهرئة. وسادتي الملقاة جانبا. حذائي القديم يطلّ من بين الفوضى. ثياب متسخة تتكوّم عند الزاوية. إطارات فارغة معلقة على الجدار. بعضها مائل قليلا. علب ثقاب هنا وهناك. منفضة مكوّمة بأعقاب السجائر. كتب في كلّ الزوايا عليها يتراكم الغبار. وراق صحف مدعوكة. أقلام مستهلكة. وعلى الطاولة مجموعة كبيرة من الدفاتر. كلّ شيء مألوف لديّ. كما لو أنني أعايشه منذ الأبد. وحدي كنت العنصر غير المألوف. العنصر الإضافي.. الحلقة المفقودة بين الأشياء.
أجلس إلى الطاولة. أحسّ بأنني مراقب. أجول بنظري بحثا عن العيون التي ترصدني. أتأمّل أصابعي التي لم أتعوّدها. أشعل سيجارة أولى. أمسك أوّل دفتر يصادفني. أفتحه كيفما اتفق.
شظايا، الفصل الثاني  روضة السالمي