23‏/2‏/2015

لأنك دائما تنسى



حدثتني صديقتي وهي تعمل ممرضة في مستشفى حكومي، عن عجوز مريض ناداها يوما وأعطاها خفية وبيد مرتعشة كتابا طلب منها أن تحتفظ به لنفسها، وأن تقرأه ولا تنساه. وبما أنّ صديقتي كانت غير مغرمة بالأدب والمطالعة فقد أعطتني إياه دون أن تفتحه.
كان يوما ربيعيا جميلا، تفتحت أزهاره ونشرت في الجو عبيرا لطيفا، فاخترت لنفسي مكانا جميلا في مقهى راق في البحيرة، وأخرجت الكتاب، كان لدي فضول لقراءته، وخامرني شعور بأن حكاية ما تكمن خلف وصوله إليّ، فصديقتي تلك لم أكن قد رأيتها منذ سنوات عندما كانت جارتي في السكن الجامعي، قبل أن تنقطع عن دراستها وتتعلّم التمريض في مؤسسة تعليمية خاصة في حين واصلت أنا دراستي، وها أنا بفضل الانتحالات العلمية على وشك الانتهاء من رسالة البحث. عندما التقيت بها صدفة قرب مركز كارفور التجاري وبعد أن احتسينا القهوة بلذة وتحدثنا عن حياتنا، نجاحاتنا، وإخفاقاتنا، وعن السرعة التي تمضي بها الأيام، سألتني إن كنت مازلت أقرض الشعر في أوقات فراغي، فأجبتها أنني طلّقت الشعر من دون رجعة في حين ما زلت وفيّة للمطالعة، فأخرجت من حقيبتها هذا الكتاب وأعطتني إياه. لمحت حركة يدها المرتعشة وتلفتها يمنة ويسرة وهي تعطيني إياه غير أنني في حينها لم أتوقّف كثيرا عن هذه المسألة وسريعا ما طردتها عن ذهني، فقد كان اللقاء جميلا وممتعا.
طلبت قهوة كابوتشينو، وأغلقت هاتفي الجوال حتى لا تشغلني طلبات هاتفية غير منتظرة وتفاجئني رنة "بانغ بانغ حبيبي أطلق النار علي" لنانسي سيناترا، ثم أخرجت هذا الكتاب وعندما تصفحته، وجدت إهداء لطيفا على الصفحة الأولى، ورسالة في الصفحة الأخيرة، كتبت بخط مرتعش وصغير. قرأت الإهداء على عجل. كان غريبا بعض الشيء ولكن منذ متى يحكم الإهداء على محتوى عمل ما؟ أما الرسالة الخطية التي أضيفت إلى الكتاب فقد دفعني فضولي لأقرأها أولا.
هذه الحكاية تردّدت كثيرا في كتابتها، ولكن كان يجب أن أخبر أحدا بها، علّ ذلك يخفّف عني هول ما ستأتي به أيامي القليلة الباقية.
كنت أجلس في الحديقة، أتأمل زرقة السماء الصافية بعد أشهر من الغيم والعتمة. أخرجت شطيرة من حقيبتي، وأمسكت كتابا اصطحبني منذ أكثر من سنة، من دون أن أجد الوقت والعزيمة الكافيان للانتهاء منه.
لم يكن كتابا مملا. بل على العكس، كان مزيجا من الخيال العلمي والفنتازيا عن مسألة تناسخ الأرواح. وكان مكتوبا بأسلوب جميل، كلماته مفهومة، وأوصافه معتدلة، لا هي طويلة ومعقّدة، ولا هي مقتضبة وسطحية. ولكنني وإحقاقا للحق كنت شديد النفور من المواضع التي تتعلّق بما وراء الطبيعة، كما أنني لا أومن بمثل هذه الخرافات الهندية ولا باللعنات أو بالرواح الشريرة.
ابتسمت وأنا أمدّ يدي إلى الفنجان. كان يجلس قبالتي مع أمه طفل جميل في الخامسة أو السادسة من العمر، كانت الأم منشغلة في مكالمة هاتفية، في حين كان الولد يرسم خطوطا وأشكالا على كرّاس صغيرة مستعملا الألوان اللبدية، غير عابئ بكأس العصير ولا بقطعة المرطبات الشهية التي أمامه، وفي لحظة خاطفة التقيت أعيننا، فبدا لي وكأن وجهه مألوف لدي، طردت هذا الشعور مسرعة، فقد كنت واثقة من أنني لم ألتق به مسبقا، أخذت رشفة سريعة من الكابوتشينو التي بدأت تبرد، ثم عدت إلى النصّ الذي بين يدي.
كما أنّ لهذا الكتاب قصّة، فقد أهداه إلي صديق قديم اسمه جابر التقيت به صدفة أمام مدخل مقهى اليمامة، عندما كنت - كبعض المتقاعدين مثلي - عاطلا من أي اهتمام سوى ملاحقة الشمس في طريق شارع الحبيب بورقيبة المخضّر دوما بأشجاره الغنّاء.
وبما أنني كنت غير مشغول، فقد قبلت دعوته على فنجان من القهوة، وبعد أن أخذنا الحديث بعيدا عمّن بقي من رفاقنا من الأحياء ومن مات منهم، أبى إلا أن يترك لي هذا الكتاب. بل أصرّ أن يكتب عليه الإهداء التالي "لأنك دائما تنسى.. احرص على ألاّ تنساني..".
رشفت قهوتي، ونظرت حولي، ثم عدت إلى الرسالة أقرؤها بنهم.
في الحقيقة لم أفرح كثيرا بالكتاب ولا بالإهداء. لسببين: أولا لأنني ببساطة لم أكن صديقا حميما له، ولا حتى صديق، كلّ ما في الأمر أننا كنا زملاء دراسة، سافر هو إلى حيث لا أعلم وجمع مبلغا محترما من المال، في حين اشتغلت أنا في وكالة أسفار حيث أفنيت عمري، والسبب الثاني أنه ما من سبب لديّ لأذكره؟.
اكتفيت حينها بوضع الكتاب في حقيبتي. ومن يومها وكلما وجدت متسعا من ضوء الشمس وصحو السماء إلا جلست على مقعد عمومي وأخرجته من مخبأه. فتصفّحته في غير رغبة حينا، وبشغف حينا آخر.
حين وصلت إلى هذه الفقرة من الرسالة، عقدت العزم على أن أقرأ الكتاب من دون تكاسل. واسترقت النظر إلى الطفل أمامي، فألفيته يكتب بكلّ تركيز وقد لمعت حبيبات من العرق على جبينه الغضّ.
في الوقع أصبح هذا الكتاب جزءا من محتويات حقيبتي الجلدية المهلهلة التي رافقتني منذ أكثر من عشرين عاما، إلى جانب علبة أقراص الضغط، وبعض الأوراق والأقلام، وجريدة صفراء قديمة، ورد فيها خبر وفاة صديقي الذي أهداني الكتاب في حادث غرق. ولا أدري على وجه التحديد لماذا احتفظت بها، ربما لأنني اعتقدت أنها تكمّل القصة. قصّة الكتاب، واللقاء العابر في مقهى اليمام في شارع الحبيب بورقيبة ذات يوم مشمس من خريف السنة الماضية، حين كان محمد الموجي يملأ خلفية المقهى بعبق الشاي مع السجائر ما بين العصر والمغرب.
بعد أن أخرجت شطيرتي من الحقيبة، وكنت قد أعددتها كعادتي - منذ أن توفيت زوجتي منذ ثلاث سنوات بسبب صعق كهربائي - على طريقتي المفضّلة، ووضعت فيها ورقة خس واحدة، مع عجّة البيض المخفوق مع زيت الزيتون والبصل، ثم أمسكت الكتاب، جلست بجواري أمّ شابة محمّلة بأكياس المشتريات - فقد كنا في موسم التخفيضات - وكان يرافقها ابنها ذي الخمس سنوات.
أعجبتني وصفة العجوز فقرّرت أن أصنع شطيرة مثلها حالما أعود إلى البيت، وحزّ في نفسي هذا الشيخ المسنّ العجوز الوحيد من دون رفقة تؤنسه أو أولاد يسألون عنه. وقرّرت أن أسأل صديقتي عن أخباره، حالما أنتهي من قراءة رسالته. هكذا حدّثت نفسي وأنا أرتشف القهوة التي أصبحت باردة تماما، وأرقب بطرف عيني الطفل أمامي وكأن المقهى خلت إلا منه ومن والدته. كان في نفس سنّ الطفل الذي يتحدّث عنه المسنّ في رسالته، وقدّرت أنه كان يبرطم أغنية عن حروف الهجاء "ألف أرنب يجري يلعب.. يأكل جزرا كي لا يتعب.." في حين كانت والدته تواصلها حوارها الهاتفي وهي تعبث بشعره البني الناعم. عدت إلى القراءة مجدّدا، رغم أنني بدأت أفقد تركيزي.
أفسحت لهما مجالا على المقعد الخشبي الأخضر المدهون حديثا، وهممت بقضم شطيرتي، حين أخذ الطفل في التذمر. فقد كان يريد أن تشتري له أمه مثلجات. وكانت هي تريد أن تستريح قليلا. ولما أصرّ وانتابته أزمة بكاء حادة وصراخ مزعج، نهضت الأم على مضض، وتردّدت قبل أن تطلب مني أن أحرس أكياس المشتريات إلى حين عودتها، ولم يكن محلّ المثلجات بعيدا.
نظرت إلى فنجان قهوتي الذي برد، وطلبت شطيرة بالجبن وقرّرت أن أتناول بعدها كأسا كبيرة من المثلجات، ولتذهب الحمية إلى الجحيم. ناديت النادل، فأقبل مسرعا، دوّن طلبي وهو يحدّق في الكتاب. ثم ذهب وعدت أنا إلى متابعة نص الرسالة.
كدت أن أقول لها بأنني موافق لولا أن ابنها أخبرها أنه لن يأتي معها وانه سيحرس هو المشتريات بنفسه.
ابتسمت في سري من نباهته. ذهبت الأمّ إلى محلّ المثلجات، فلم يكن بعيدا عن مقعدنا الخشبي. وما إن ابتعدت بضع خطوات وبدأت أنا بقضم شطيرتي حتى سألني:
-                    ها.. إلى أين وصلت؟
فأجبته مستنكرا مستغربا:
-                    في ماذا؟
فأجابني وهو ينظر إلى الكتاب:
-                    أرى أنك لم تنه قراءته بعد.  
عدت لشطيرتي وأجبته غير مهتم:
-                    لقد بدأته بالأمس.
فأمسك يدي التي فيها الشطيرة، مسكة كادت تقسم معصمي، وقال بصوت وكأنه خارج من حفرة عميقة:
-                    ولكنك أخذته منذ أكثر من سنة.
في تلك اللحظة لم أكن أدري هل تمكنت من ازدراد ريقي أم أنه سال على ذقني في خيط دافئ قسم لحيتي البيضاء نصفين متعادلين.
عاد النادل بالشطيرة، فشكرته بابتسامة وبحثت ببصري عن الطفل، وكان ما يزال يحدّق بي، ولا أدري من أين جاءني يقين بأنه يريد أن يقول لي شيئا، حتى أنه بدا لي بأن كلمات أغنيته تحمل رسالة ما، ربّما كان يقول "أركض، أهرب، أنت الأرنب، أركض وستتعب" اقشعرّ جسمي، وتملكني خوف مفاجئ، غير أنني نفضت رأسي بشدّة وكأنني أحاول إبعاد الأرواح الشريرة التي سكنت أفكاري. فانا أيضا مثل الرجل المسنّ طريح الفراش في المستشفى لا أميل إلى تصديق خزعبلات تناسخ الأرواح، ولا الرسائل المشفرة التي تبعثها كائنات خفية تريد أن تحتلّ الأرض. أنا في تونس، ولست في أمريكا. وهذه الحرب ما بين المجرات والكواكب لا تعنيني. وعدت بكلّ عزم إلى النص الذي بدأ يستحوذ على انتباهي.
تمالكت نفسي - مستعيذا بالله في سري – وسألته متظاهرا برباطة الجأش:
-                    وما أدراك متى أخذته؟
ترك يدي بنفس الطريقة المباغتة التي أمسكها بها، وقال بنفس الصوت المتهدّج وكأنه خارج من قبر:
-                    لأنك دائما تنسى...
فأجبته وأنا أحاول التفكّه معه مداريا خوفي المتنامي داخلي:
-                    هل تعتقد أن كلّ المتقدمين في السن مثلي ينسون؟
فنهض من مكانه على المقعد وواجهني بقامته القصيرة وعينيه البريئتين موجها سبابته نحوي وقال:
-                    تعرف تماما عمّا أتكلّم، أنظر إلى ما كتب في الإهداء.
ما إن نطق ذلك الطفل ذي السنوات الخمس تلك الجملة المشئومة حتى سقطت الشطيرة من يد، وسقط الكتاب من اليد الأخرى.
بدت لي الأرض وكأنها كانت تدور بسرعة قصوى ثم ضغطت فجأة مكابحها فارتطم كلّ من عليها واختلط الحابل مع النابل. وأحسست وكأن خرقا حدث في الزمن وأن الجسيمات الضئيلة التي تكوّن المادة أخذت تدور عكس اتجاهها.
أسرعت برفع رأسي عن الكتاب، فلمحت الطفل مغادرا المقهى مع أمه. ولا أدري كيف أدرك أنني ألاحقه ببصري فأدار رأسه الصغير ذي الشعر البني الناعم نحوي، وأشار إليّ بإبهامه وسبابته على شكل مسدّس مردّدا مع نانسي سيناترا "بانغ بانغ... حبيبي أطلق عليّ الرصاص". أحسست حينها وكأن الرصاصة فعلا اخترقت صدري.
توقّف كلّ شيء حولي، فتنفّست مليا، وأنا أردّد في داخلي بأنّ الحياة هي سلسلة من الصدف، ويجب عدم تحميل الأمور فوق طاقتها، ولا يعدو أن يكون الأمر مجرّد حجر نرد أطلق فوق طاولة لعب عملاقة، وأن إمكانية حدوث هذه الأشياء تبلغ صفر فاصل واحد من مليار، وأن ما أعيشه الآن هو تحقّق تلك النسبة الضئيلة، لذلك يجب أن أشعر بالغبطة كوني أعايش أشياء لا يعيشها إلا سبعة أشخاص في العالم إذا ما استثنينا الأموات. وقد أكون أتوهم بسبب التصاقي المتزايد مع النص. وقد تكون الخاتمة سعيدة. من يدري. ثم عدت إلى نصي وأنا أبتسم لتفكيري العقلاني.
لم أنتبه إلى أمّه التي عادت ومعها قرن مثلجات، غير أن صوتها كان حبل نجاة ألقي لغريق يائس.
-                    واضح أنه أزعجك، هذا الطفل المشاغب.
قالت بصوتها المرح وكأنه قادم من كوكب لا ينتمي إلى النظام الشمسي.
أمسك الطفل قرن المثلجات. وككلّ طفل لعقه بشراهة واستمتاع. فيما واصلت الأم حديثها وهي تجمع أكياس مشترياتها:
-                    آمل ألا يكون قد أزعجك بقصّته الغريبة.
فسألتها وقد عاد لي بعض توازني:
-                    أيّ قصة؟
فأجابتني، فيما كنت أحدجه بنظري محاولا اختراق جسمه الضئيل بعيني، علني أفهم من أين له القوّة ليمسك بيدي فيكاد يقسمها، وكيف له أن يعرف ما كتب في الإهداء، ومن يكون داخل هذا الجسم الصغير، هل هي روح صديقي الذي مات، أم هو مخلوق فضائي، أم مارد من جان؟.
-                    إنه يقول لكل من يريد أن يسمعه بأن اسمه الحقيقي هو جابر الزواوي، وأنه كان عميلا للمخابرات وتمت تصفيته بإغراقه في البحر.
كانت الأم قد انتهت من جمع أشيائها، فيما كان جسدي وفكري يتبعثران كأوراق أشجار شارع الحبيب بورقيبة التي بدت لي فجأة صفراء باهتة وحزينة. استجمعت ما بقي لي من أشلاء صوت خرج متحدرجا من حنجرتي وسألتها:
-                    وماذا أخبرك أيضا؟
فقالت مبتسمة:
-                    يا لك من رجل طيب.. آنت الوحيد الذي أصغى إلى هذا الهراء.. حتى الطبيب النفسي الذي استشرناه لم يجد في حكايته ما يفيد.
فقاطعتها مستعجلا، فيما كان هو يقرمش قرن المثلجات بلذة ويرمقني بنظرة ثاقبة:
-                    رجاء أكملي لي حكايته... ثم أضفت لأبرّر شدّة اهتمامي "إنها تصلح لأن تكون قصّة".
فأجابتني:
-                    شكرا على اهتمامك، إنه يقول بأنه التقى بأحد أصدقائه أمام مقهى حين كان يحاول التخفي من عصابة كانت تلاحقه، وسلّمه كتابا فيه رسالة مشفّرة لكي يتمكّن من إنقاذه وإنقاذ نفسه..
"إنقاذه وإنقاذ نفسه.." كنت أعيد هذه الكلمات غير مستوعب للمشهد السريالي الذي اعيشه، فيما كانت هي تتحدّث عن مخاطر مشاهدة الأطفال لنشرة الأخبار والأفلام البوليسية، وإلا فمن أين لابنها مثل هذه العبارات العجيبة والغريبة.
ابتعدت مسرعة بعد أن حيتني. وكان آخر ما رأيته رأسه الصغير الذي أداره نحوي، وإشارته بالإبهام والسبابة على شكل مسدّس وهو يغني مع نانسي سيناترا " بانغ بانغ... حبيبي أطلق عليّ الرصاص".
أضحكني هذا الموقف صراحة، يعني الرجل العجوز المريض كتب على حاشية الكتاب نصا أكاد أجزم أنه أجمل نصّ قرأته في حياتي عن مشاعر الخوف والوحدة والرهاب، كما أنني بصراحة أحبّ أغنية ابنة المغني والممثل فرانك سِيناترا، فهي المفضّلة لدي، فقد وضعتها رنة مميّزة في هاتفي الجوال. وتملكني شعور من يحسّ بأنه قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء من مشاهدة فيلم رعب إلى الآخر، ويعدّ نفسه بقرب ظهور شارة النهاية، نظرت حولي أستمتع بالمقهى الهادئ، والبحر المطلّ من الشرفة، ثم عدت إلى الرسالة الغامضة أواصل التهام أسطرها الأخيرة التي ألفت تعرّجاتها وانحناءاتها.
عندما فتحت عيني أخبرني الطبيب ببدلته الخضراء بأنني كنت ملقى على الأرض أصارع نوبة قلبية حادة. ثم أضاف اللعين ضاحكا:
-                    ما تزال لديك طلقة أخيرة.. أقصد أزمة أخيرة قبل تنتهي..
ثم استدار قبل أن يغادر الغرفة وسألني وهو يغمز بعينه ويشير بسبابته وإبهامه على شكل مسدّس:
-                    ها.. إلى أين وصلت؟ هل انتهيت؟
عندما وصلت إلى هذه النقطة الأخيرة من الرسالة، أصابني خمول أشبه ببلادة فكرية تجعلك عاجزا عن القيام بأية حركة. غابت عني مشاعر الانبساط والتفكّه التي رافقت قراءتي للرسالة، وحلّ محلّها شعور بالامتعاض والمرارة.
رحل فكري بعيدا مع الكتاب الذي يجب أن أقرأه بتركيز ومع شخصياته والطريقة الغريبة التي وصل بها إليّ. عاودت قراءة الإهداء مرّات ومرّات. وعاودت النظر في الرسالة التي وضعها العجوز المريض. فعلا يجب أن أقرأ الكتاب علني أجد فيه رسائل خفية لي. من يدري؟
وكاد الأمر أن يتوقّف عن هذا الحدّ لولا أن فضولي دفعني للاتصال بصديقتي الممرضة لأطمئن من خلالها على صحة المريض الذي سلّمها الكتاب. غير أنّ أحدا في المستشفى – ربما يكون عامل موزّع الهاتف – أخبرني أنّ جليلة، وهذا هو اسمها، ترقد منذ أسبوع في غرفة العناية الفائقة بعد أن تعثّرت وسقطت في السلّم وأصيبت بارتجاج في المخّ وشلل رباعي. فاجأني الخبر ونزل عليّ نزول الصاعقة. وكدت أسأله عن الرجل المريض العجوز غير أنني أحجمت فلم أفعل، فقد كنت أجهل اسمه.
قرّرت مغادرة المكان. لم يعد يحلو لي الربيع في تجليه السندسي البديع، لا البحر الأزرق الملتحم في خط أفقي مع السماء الناصعة الزرقة. وسدّت حواسي أمام رائحة الأزهار الفواحة وصوت الطيور الشادية، وضحكات الأطفال وهمسات العشاق، وأغنية أم كلثوم التي تملأ الفضاء وهي تغني "بعيد عنك حياتي عذاب".
وقفت بصعوبة وأنا أمسك الكتاب، فاقترب مني النادل ليمسح الطاولة، وأعطاني فاتورة ما تناولته ومعها ورقة مطوية. تركت عشرة دنانير على الطاولة، وخرجت مسرعة لا ألوي على شيء.
وعندما بلغت أوّل زقاق، وتأكدت من أن لا أحد يتبعني، فتحت الورقة بيد مرتعشة وقلب يكاد يهرب من قفصه الصدري، كان مكتوبا عليها، بخط متعثّر بعدّة ألوان لبدية ومع رسوم طفولية "باء بوم تحوم .. لام لصّة قرأت قصّة... " لم أكن قد أنهيت قراءة الرسالة عندما سمعت مكابح دراجة نارية تقف فجأة قربي، ثمّ لم أعد أرى شيئا.


روضة السالمي
23 فيفري 2015