9‏/3‏/2015

يوم امرأة في عيد المرأة



تلقيت دعوة مميّزة من رئيسة جمعية فنية نسائية لحضور افتتاح معرض فني بعنوان " ... Artistes jusqu'aux bouts des ongles " احتفالا باليوم العالمي للمرأة، وذلك بداية من الرابعة والنصف مساء، ودعوة مماثلة من الجمعية التونسية للنساء الفوتوغرافيات التي تفتتح نشاطها بأول معرض صور فوتوغرافية تحت عنوان "هي" وذلك بداية من الساعة الثالثة مساء. أمضيت كامل الأسبوع أهيئ نفسي للتمتع بهذه الأحداث الفنية بمناسبة عيد المرأة وما أدراك ما عيد المرأة. فتحت الموضوع مع زوجي يوم الأربعاء، وأعدت الحديث معه يوم الخميس، وبعد مناقشات ورسم خريطة للنادي الثقافي الطاهر حداد بنهج التربونال وغاليري لودامييه بميتوال فيل ، ووضع خطة لتنقلاتي للنادي الفوتوغرافي أولا ثم افتتاح معرض الرسم، وتقديم تنازلات من الجانبين اتفقنا أخيرا في يوم الجمعة على أن يأخذ هو معه الأولاد إلى مقر عمله، وأذهب أنا إلى رحاب الإبداع الفني النسوي وينابيع الإلهام الأنثوي الذي لا ينضب.
الجمعة قبل انتهاء الدوام، تبجحت أمام زميلاتي في العمل بأنني تلقيت دعوات لحضور معارض فنية، فما كان من إحداهن إلا أن عكست الهجوم وسألتني بالخبث الأنثوي الصميم ماذا سأرتدي، وإن كنت سأذهب إلى مصفّفة الشعر لأبدو في أجمل حلّة كما يفترض بي. وأضافت لعينة أخرى (كانت تعرف مدى عدم اهتمامي بالإنفاق على مظهري) بأنّه على المرأة في مثل هذه المناسبات أن تكون غاية في الأناقة.
تواصل المطر طوال ليلة الجمعة. أمضيت طوال الليل أفكّر في ماذا سأرتدي. أبعدت فكرة أو فكرتين تصلحان لكتابة قصّة. وعدت أفكّر في ماذا سأرتدي ومتى أذهب إلى صالون الحلاقة. كان زوجي يشخر. في الحقيقة كنت أفضّل عدم تصفيف شعري. كنت سأكتفي بغسله وتركه منسدلا ببساطة، ولكن كان من الضروري أن أغسله أوّلا في صالون الحلاقة، فالماء الساخن لا يعمل، لأن زوجي لم يستقدم طوال الأسبوع من يصلح السخان. فغضبت منه. ثم عدت إلى التفكير في مراجعة بعض القصص التي بدأتها ولم أنته منها. وغضبت من نفسي. أمضيت كامل الليل أصغي إلى هطول المطر، ومواء القطة، وشخير زوجي وكلّ الأفكار السوداء والملوّنة.
استيقظت صباح السبت 7 مارس منهكة، أخبرت ابنتي أنني سأذهب إلى معرض فني بمناسبة عيد المرأة. فرحت ابنتي، وقالت إنه عيدي أنا أيضا. فأجابها أخوها "أنت لست امرأة أنت بنت صغيرة". غضبت ابنتي وحاولت ضربه، فقمت بفضّ الاشتباك.
أعددت فطور الصباح. وعدت للتفكير في الأمور المهمّة من قبيل ارتداء حذائي الأسود ذي الكعب العالي، لكن المشكلة أن معطفي الذي يحميني من البرد كان بني اللون. ثم إن الذهاب إلى نهج التربونال في تونس المدينة في طقس ممطر وحذاء بكعب عال غير مريح بالمرة، ومن غير الوارد إيجاد سيارة أجرة تقلّني من نهج التريبونال إلى ميتوال فيل. ثمّ حزمت أمري واتخذت قراري.
السبت هو يوم عطلتي الأسبوعية، والعطلة تعني البقاء في البيت، سماع مواء القطة المتواصل، العناية بالأبناء، طبخ، جلي، كنس، الغسيل مع كل متطلباته من قبيل وضع الثياب المتسخة في الغسّالة الكهربائية، ثم إخراجها، ونشرها، ثم إعادة جمعها بسبب الأمطار المتواصلة، وإعادة تدويرها لعصرها، ثم إعادة نشرها مجددا في مكان مسقّف.
قبّلني زوجي وذهب إلى عمله وترك لي الأبناء. كانت تلك إشارة أولى في الإخلال بالاتفاق المبرم. كنت أريد أن أكون صاحبة القرار. فغضبت.
ومضى الصباح على النحو التالي: حللت الصراعات بين الأبناء، قمت بفضّ النزاعات بالحسنى، تجاهلت مواء القطة، تدخلت بالحسنى مجدّدا، التهديد، الوعيد، الصياح، الصياح بصوت أكثر ارتفاعا، الصمت، المقاطعة، إطعام الأبناء، جلي الصحون، إعداد قالب مرطبات. وفي الأثناء أزعجني مواء القطة فغضبت من زوجي. ثم قمت بإعداد قهوة، وحاولت فضّ النزاعات التي قامت مجدّدا، أغلقت التلفاز، فتعالى الصياح، قمت بإعادة تشغيل التلفاز، أطلقت تهديدات بتسليط عقوبات قصوى ولم أكن أقصدها. أطبق صمت لم يدم سوى دقائق. فيما  تواصل مواء القطة، عدت إلى المطبخ، وضعت مجموعة جديدة من الثياب المتسخة في آلة الغسيل، وجدت أن رقبة قميص زوجي متسخة جدا فغضبت منه مجدّدا، نظرت من النافذة، المطر غزير، أصابع يدي حمراء منتفخة، لم يأتي السباك لتصليح سخان المياه سبب أكثر من كاف لأغضب من زوجي.
نسيت ارتداء جوارب، أقدامي متجمّدة، مازلت غاضبة من زوجي.
صنعت ماسك من القهوة وأصفر البيض وكربونات الصودا والكركم والحليب والقرفة والكمون، وكلّ ما وقعت عليه يدي في خزانة المؤن في المطبخ. أصبح مواء القطة جزءا من المناخ العام، وضعت ماسك على وجه الأولاد أولا، ثم على وجهي، ضحكنا، وصراخنا على بعضنا البعض واستمتعنا.
مازلت غاضبة من زوجي، طلبت من الأولاد ترتيب غرفة الجلوس، وجدنا فأرا صغيرا يبدو أنه تتسلّل من الحديقة. أزعجنا ذلك. سمعنا مواء القطة. فغضبنا من وجودها.
أجل غضبنا من القطّة وليس الفأر. تلك القطة اللعينة هي قطة الجيران، وقد تعوّدت على أطعمة القطط المعلّبة ولا تأكل الفأران. اشتريت لها في البداية ومن باب الشفقة عدّة علب كانايشا، وقوالب السالامي المعدّة للقط، لكن اللعينة كانت تختار أنواعا معينة فتأكلها في حين تعاف البقية، وتسلّل قطط الجيران، فأصبحت الحديقة مرتعا لتلك الكائنات البغيضة لتتسافد فيها، وتنبش أحواض النعناع لتضع فيها برازها. أذكر أن ابنتي رأت القط البرتقالي البغيض ذي الوجه الإجرامي وهو يعض رقبة قطة الجيران- التي اقتحمت البيت واختارته من دون غيره لتعتبره ملكا لها-، فقالت لي بأن القط الشرير يضرب القطة المسكينة ويعضها من عنقها، أخبرتها أننا نحن المساكين، وأن تلك الكائنات المغطاة بالفرو أخبث مما تتصوّرين وأنه لا يعضها بالمعنى المتعارف عليه وإنما هما زوجان يتخاصمان.
لنعد إلى الفار لا شيء مما تقدّم أثار غضبي وحنقي قدر رؤية الفأر وهو يخترق غرفة الجلوس في حين القطة اللعينة الحامل تموء طلبا للكانيشا الذي عودها عليه أهلها قبل أن يغادروا ويتركوها تواجه مصيرها. فلتمت جوعا وبردا. غضبت مجددا على زوجي لأنه لم يأخذها بعيدا كما وعد. أنا لا يهمني من أمرها شيئا، بالأمس سلقت لها البيض فلم تتناوله، وفي اليوم الذي قبله أعطيتها الحليب لكنها لم تشربه، وقبل ذلك فتحت لها علب السردين والتونة فعافتها نفسها. فلتذهب إلى الجحيم إذن، لم أربطها ولم أمنع عليها الخروج فلماذا تتمسّك بفناء بيتي، لماذا لا تخرج لتأكل القمامة مثل غيرها من القطط. طول عمري وأنا أعاني من هذه الكائنات. كم سفحت من دموع في طفولتي كلما ماتت قطة دهسا تحت السيارات. الآن تغيّر الأمر مادام طعامها يكلفني مثلما تكلّفني لمجة الأولاد لا أريد أن أسمع عنها مطلقا، كل القطط التي حاولت تربيتها نزولا عند رغبة أولادي ماتت بسبب تلبّك معوي لأنني ببساطة أعطيتها من الطعام الذي نتناوله وهو نباتي بالأساس، وهنالك قطة أجهضت وماتت بسبب اكتئاب نفسي وقطة أخرى دهستها سيارة أمام الباب وبقيت جثتها يوما كاملا حتى وضعها عامل النظافة في عربته.
فكّرنا في طرق جهنمية للقبض على الفأر. غضبت من زوجي ولا أذكر السبب.
غسلت وجهي على عجل بالماء البارد. لم أتناول شيئا على الغذاء سوى القهوة وعدة أكواب من عصير الليموناظة التي أجيد صنعها. لطالما فكّرت أنني لو خرجت من عملي فسأفتح محللا لبيع الليموناظة.
ثم فكّرت أنني أحبّ إعادة التدوير. مسحت وجه الأولاد بمنشفة مبلّلة وطلبت منهما جلب المقصات. كان ذلك كافيا لنشعر بالحماسة جميعا. كانت الساعة الثانية والنصف بعد الظهر. اتجهنا إلى خزانة الملابس. فتحت مغارة علي بابا وفتحنا حقائب ثياب الصيف. نثرتها على الأرضية وبدأ الهجوم. أمسكت المقصّ في يد وقميص زوجي الصيفي في اليد الأخرى. ثم جرت الأمور بسرعة وانسيابية. قصصت القميص الأول، ثم أخذت بعض الثياب الأخرى. أخذ ابني المقصّ وسألني مترددا إن كان بإمكانه فعل ذلك حقا فأجبته بالموافقة على أن لا يلمس ملابس والده، فقد اكتفيت بالقميص الذي كانت ياقته مهترئة بعض الشيء.
أخذت ثلاثة فساتين صيفية، صنعت منها غطاء للوسائد، وصنعت من قمصان القطن غطاء للكراسي الصغيرة. وصنعت ابنتي من قماش مزركش لقميص لم أعد أرتديه ثوبا لدميتها، في حين قام ابني بقصّ مجموعة من الشرائط الملوّنة. كانت صيحات إعجاب الأولاد بما أفعله وحماستهم أفضل شيء في اليوم الماطر. رغم مواء القطّة المتواصل، ووجود الفار.
هاتفت زوجي في العمل، صالحته بكلمات رقيقة. لم أعد غاضبة. وفي الحقيقة لا يوجد سبب للغضب. كانت الساعة الثالثة والنصف بعد الزوال، انتهى الموعد الأوّل، واتخذت الكراسي المكسوّة الجديدة مكانها في غرفة الجلوس. في الواقع أشعر بالفخر لذلك.
أعددت لمجة للأولاد وهم يشاهدون التلفاز. عدت لأكوام الثياب. انتقيت بعضها الذي ينفع لأستعمله في المطبخ، أعدت البقية إلى الحقيبة، وضعت ما تناثر من أثواب ممزقة في كيس المهملات. رتبت غرفة النوم. نظرت إلى انعكاس وجهي في المرآة. يبدو أنني نسيت أجزاء من ماسك القهوة في وجهي. كنت أشبه بالمهرجة في سيرك عائلي.
نظّفت وجهي بالقطن، غيّرت ملابسي. ارتديت جوارب قطنية صوفية. رتّبت شعري الأشعث، وحملت غطاء ووسادة من تلك التي غلّفتها حديثا بفستان أخضر بأزهار بنفسجية ووردية صغير. كان الأطفال قد انتهوا من تناول لمجتهم. أخذت الأطباق واتجهت لغسلها قبل أن تتكوّم مجدّدا. لم أكن قد تناولت شيئا، فأخذت كأسا من الليموناظة. شربتها بينما أنا أغسل الصحون، وأسمع صوت القطّة وأفكّر في طريقة للتخلّص منها. تعالى صياح الأولاد للمرة المائة. حاولت فضّ النزاعات عن بعد من أمام مجلى الأطباق، هدّدت بإغلاق التلفاز، فتعالى الصياح، أطلقت تهديدات جديدة بتسليط عقوبات لا تخطر على بال الشيطان أثرت ضحكهم. هدّدتهم بنزع أنوفهم وتركيبها مكان أذانهم، وصبغ جلدهم بالأزرق والأخضر وزرع عيون تحت آباطهم، وتركيب ذيول في كوعهم. فانفجروا ضاحكين.
مضى موعد افتتاح معرض فني بعنوان " ... Artistes jusqu'aux bouts des ongles "، كانت الخامسة إلا الربع، نظرت إلى أظافري، يجب أن أتعلّم كيف أضع طلاء الأظافر من دون أن ألوّن كامل الإصبع، وهي من الأشياء التي فشلت في تنفيذها إلى جانب تزجيج حاجبي بطريقة صحيحة، والحصول على رخصة القيادة، والنشر الورقي لثلاثة مجموعات قصصية ورواية وديوان شعر، وإقامة معرض للصور الفوتوغرافية التي ترقد في ذاكرة حاسوبي، وطرد القطة من منزلي، وقتل الفار، والمشي بالكعب العالي، وتقديم عرض مهني باللغة الانجليزية التي أفهمها ولا أجيد التحدّث بها لأكثر من جملتين أو ثلاثة.
توجهت إلى غرفة الجلوس، أخذت جهاز التحكّم عن بعد وجلست على العرش بعد أن وضعت الوسادة المغلّفة حديثا بما كان فستانا سابقا، وتلحفت بالغطاء الصوفي، وأعلنتها عاليا "الآن أنا من سأشاهد برامج التلفزة حسب ذوقه". تنافس ابني وابنتي في الجلوس قربي أو بالأحرى في حضني، واشتدت المنافسة وأنا لم أستوي في جلستي بعد.
رنّ الهاتف. كان زوجي حبيبي يسألني وبراءة العالم في صوته "هل ألتحق بك في المعرض الآن لأعيدك إلى البيت أم أنتظر بعض الوقت؟". توقّف ذهني للحظات ليفكّك الشفرة. معرض؟. أيّ معرض أيها الأبله؟ (كلمة أبله كانت على الموضة هذه الأيام) فأجابني بكلّ تهذيب "المعرض الفني الذي تقيمه الجمعية الفنية النسائية احتفالا باليوم العالمي للمرأة والذي صدعت به رأسي طوال الأسبوع". فأجبته "حبيبي اجلب الحليب والخبز وبعض الفواكه الجافة لدى عودتك، فأنا لم أضع قدمي خارج فناء المنزل". وعدت مع أولادي لنشاهد برامج ام بي سي بوليوود مع فيلم لشاروخان. سألتني ابنتي "ماما لماذا تحبين أفلام الهنود" فأجبتها "لأنها ساذجة وسطحية ومليئة بالرقص والألوان وتريح البال". ثم سألني ولدي "ماما متى موعد عيد الرجال؟" فأجبته "كلّ يوم يا حبيبي هو عيدكم".
في الخامسة والنصف عاد زوجي من العمل. كان البيت هادئا ومرتبا بعد أن انقضت كلّ العواصف. فسألني وهو يقبلني قبلة العودة، "هل ارتحت يا عزيزتي في يوم عطلتك؟" فأجبته "طبعا يا عمري لقد تعبت من الراحة وأنهكني الخمول، فهل انهض لأعدّ لك العشاء؟" فأجابني "أجل أرجوك... من الجيد أنكّ لم تذهبي إلى المعرض، الطقس بارد لا يشجّع على الخروج" فأجبته بابتسامة عريضة "أجل يا عزيزي.. معك حقّ.. لا شيء يشجّع على الخروج." نهضت لأعدّ له العشاء فيما كانت القطّة تستميت في المواء.

روضة السالمي، 9 مارس 2015، تونس، من مجموعة سميرة وأخواتها.