10‏/3‏/2015

خمرية ابن الفارض

خمرية ابن الفارض-البحر: الطويل (فعولن مفاعيلن)
شَـرِبْنَا عـلى ذكْـرِ الحبيبِ مُدامَةً***سـكِرْنَا  بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
لـها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا***هـلالٌ وكـم يـبدو إذا مُزِجَتْ نَجم
ولـولا  شـذَاها مـا اهتدَيتُ لِحانِها***ولـولا سَـناها مـا تصَوّرها الوَهْمُ
ولـم يُـبْقِ منها الدّهْرُ غيرَ حُشاشَةٍ***كـأنّ خَـفاها في صُدور النُّهى كتْم
فـإن ذُكـرَتْ في الحَيّ أصبحَ أهلُهُ***نَـشاوى  ولا عـارٌ عـليهمْ ولا إثم
ومِـنْ بـينِ أحشاء الدّنانِ تصاعدتْ***ولـم يَـبْقَ منها في الحقيقة إلاّ اسمُ
وإن  خَطَرَتْ يوماً على خاطرِ امرئِ***أقـامتْ بـه الأفـراحُ وارتحلَ الهمّ
ولـو نَـظَرَ الـنُّدْمَانُ خَـتمَ إنائِها***لأسـكَرَهُمْ مـن دونِـها ذلكَ الختم
ولـو نَـضحوا منها ثرَى قبرِ مَيّتٍ***لـعادتْ  اليه الرّوحُ وانتَعَشَ الجسم
ولـو طَرَحُوا في فَيءِ حائطِ كَرْمِها***عـليلاً وقـد أشـفى لـفَارَقَهُ السّقم
ولـو قَـرّبُوا من حانِها مُقْعَداً مشَى***وتـنطِقُ مـن ذِكْـرَى مذاقتِها البُكْم
ولـو عَبِقَتْ في الشرق أنفاسُ طِيبِها***وفـي  الـغربِ مزكومٌ لعادَ لهُ الشَّمُّ
ولـو خُضِبت من كأسِها كفُّ لامسٍ***لـمَا ضَـلّ فـي لَيْلٍ وفي يَدِهِ النجم
ولـو جُـليتْ سِـرّاً على أَكمَهٍ غَدا***بَـصيراً  ومن راووقِها تَسْمَعُ الصّم
ولـو أنّ رَكْـباً يَمّموا تُرْبَ أرْضِهَا***وفـي الرّكبِ ملسوعٌ لمَا ضرّهُ السّمّ
ولو رَسَمَ الرّاقي حُرُوفَ اسمِها على***جَـبينِ مُـصابٍ جُـنّ أبْرَأهُ الرسم
وفـوْقَ لِـواء الجيشِ لو رُقِمَ اسمُها***لأسـكَرَ  مَـنْ تحتَ اللّوا ذلك الرّقْم
تُـهَذّبُ أخـلاقَ الـنّدامى فـيّهْتَدي***بـها لـطريقِ العزمِ مَن لا لهُ عَزْم
ويـكرُمُ مَـن لـم يَعْرِف الجودَ كَفُّه***ويـحلُمُ عـند الـغيظ مَن لا لهُ حِلم
ولـو  نـالَ فَـدْمُ الـقومِ لَثْمَ فِدَامِها***لأكْـسـبَهُ  مَـعنى شـمائِلها الـلّثْم
يـقولونَ لـي صِفْهَا فأنتَ بوَصفها***خـبيرٌ أَجَـلْ عِندي بأوصافها عِلم
صـفاءٌ ولا مـاءٌ ولُـطْفٌ ولا هَواً***ونـورٌ ولا نـارٌ وروحٌ ولا جِـسْمٌ
تَـقَـدّمَ كُــلَّ الـكائناتِ حـديثُها***قـديماً ولا شـكلٌ هـناك ولا رَسم
وقـامت بـها الأشـياءُ ثَـمّ لحكمَةٍ***بـها احتَجَبَتْ عن كلّ من لا له فَهْمُ
وهامتْ بها روحي بحيثُ تمازَجا اتّ***تِـحـاداً  ولا جِـرْمٌ تَـخَلّلَه جِـرْم
فَـخَـمْر ولا كـرْم وآدَمُ لـي أب***وكَـرْم ولا خَـمْر ولـي أُمُّـها أُمّ
ولُـطْفُ الأوانـي في الحقيقة تابع***لِـلُطْفِ الـمعاني والمَعاني بها تَنْمُو
وقـد وَقَـعَ الـتفريقُ والـكُلّ واحد***فـأرواحُنا خَـمْرٌ وأشـباحُنا كَـرْم
ولا قـبلَها قـبل ولا بَـعْدَ بَـعْدَهَا***وقَـبْليُّة الأبْـعادِ فـهْي لـها حَـتْم
وعَصْرُ المَدى من قَبله كان عصرَها***وعـهْدُ أبـينا بَـعدَها ولـها الـيُتم
مـحاسِنُ  تَـهدي المادِحينَ لوَصْفِهَا***فَـيَحْسُنُ  فـيها مـنهُمُ النّثرُ والنّظم
ويَـطْرَبُ مَـن لم يَدْرِهَا عند ذِكْرِهَا***كَـمُشْتَاقِ نُـعْمٍ كـلّما ذُكـرَتْ نُعم
وقـالوا شَـرِبْتَ الإِثـمَ كـلاّ وإنّما***شـرِبْتُ التي في تركِها عنديَ الإِثم
هـنيئاً لأهـلِ الدّيرِ كمْ سكِروا بها***ومـا شـربوا مـنها ولـكِنّهم هَمّوا
وعـنديَ  مـنها نَـشْوَةٌ قبلَ نشأتي***مـعي  أبـداً تـبقى وإنْ بَليَ العَظْم
عـليكَ  بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها***فَـعَدْلُكَ عـن ظَلْم الحبيب هو الظُّلم
فَـدُونَكَهَا فـي الـحانِ واستَجْلها به***عـلى  نَـغَمِ الألـحان فهيَ بها غُنْمُ
فـما سـكنَتْ والـهمَّ يوماً بموضع***كـذلك لـم يـسكُنْ مـع النَّغَم الغَم
وفـي  سـكرةٍ منها ولَوْ عُمْرَ ساعةٍ***تَـرَى  الدَّهْرَ عبداً طائعاً ولك الحُكْم
فلا عَيْشَ في الدُّنْيا لمَن عاشَ صاحياً***ومَـن  لم يَمُتْ سُكْراً بها فاته الحزم
عـلى نـفسه فليَبْكِ مَن ضاع عُمْرُه***ولـيسَ لـهُ فـيها نَصيبٌ ولا سهمُ
ابن الفارض
576 - 632 هـ / 1181 - 1235 م
عُمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، الملقب شرف الدين بن الفارض.
شاعر متصوف، يلقب بسلطان العاشقين، في شعره فلسفة تتصل بما يسمى (وحدة الوجود).
اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري وغيره، إلا أنه ما لبث أن زهد بكل ذلك وتجرد، وسلك طريق التصوف وجعل يأوي إلى المساجد المهجورة وأطراف جبل المقطم، وذهب إلى مكة في غير أشهر الحج ‌‍‍‍‍‍‍‍‍! ‍
وأكثر العزلة في وادٍ بعيد عن مكة.
ثم عاد إلى مصر وقصده الناس بالزيارة حتى أن الملك الكامل كان ينزل لزيارته.
وكان حسن الصحبة والعشرة رقيق الطبع فصيح العبارة، يعشق مطلق الجمال وقد نقل المناوي عن القوصي أنه كانت له جوارٍ بالبهنا يذهب اليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد.

قد يكذب الظل وتخطئ المرايا


قد يكذب الظل وتخطئ المرايا – روضة السالمي
أغفيت قليلا. أغفيت إنهاكا. لم أتعوّد بعد هذا القناع البديل. لم تخنّي الذاكرة تماما. فقط مدّت لي خيطا شفّافا رفيعا لأتمسّك به.. أن أستغرب وجهي المنعكس على المرآة معناه أنني كنت أنتظر شيئا مألوفا. لا يخرج عن نطاق ما تعوّدته. عن إطار النموذج الذي أحمله في داخلي عني.. ما دمت أحمل ذلك التصوّر معناه أنني أمسك بجزء ضئيل من الإجابة.. يعني أنني لم أنس شكلي تماما. أو أنني لا أذكره في تفاصيله وجزئياته. ما دمت موقنا أن الذي انعكس على الزجاج ليس لي. لا أذكره. لا أعرفه.. ربما كان ظلي.. لكن هل يكذب الظل إلى هذا الحدّ؟.
بعضي ينكر بعضي.. أعجز عن الفهم. عن استيعاب ما وجدته ملقى على هامش الورق.. وقد تخطئ المرايا.
أغفيت قليلا. وكمن يستفيق من إغماءة اجتاحني الإحساس بالدوار والغثيان. مازال المشهد قائما أمامي. أحسه وكأنه واقع. وكأنه حقيقتي التي عشتها منذ الأزل. وكأن الحلم اختصر لي الزمن.
.. كان الجميع هناك. من أعرفهم. ومن لا أعرفهم. مكدّسين في المشهد المصبوغ بلون التراب.. مدير المؤسسة يرتدي جوارب خضراء تستر عريه. يدخن عقب سيجارته ويشكّل في الفضاء سطورا لا مرئية يذيّلها بتوقيعه. بائع صغير يحمل يقطينة مغروزة بالياسمين. يدور بين الموجودين يحاول أن يفتّك ابتسامتهم الباهتة ليشكل بها عقدا يطوّق هزاله. حارس البناية يستحم في حوض فارغ. يرتدي قبعة العمل الزرقاء ويرسم حوله إطارا بأصابعه المبللة. امرأة ضريرة بوجه أبيض بليد وكأنه مصبوب من الجص. تجلس فوق الحصى تحيك من أوراق الخريف كنزة لشتائها الطويل. والدي يرقّص كرشه الضخمة في قهقهة خرساء. فوق كرشه الملساء تجمعت قطعان من الذباب تلتقط فقاقيع الصابون الخارج من السرّة..
كانوا هناك جميعا.. كل واحد منهم يحمل إصبع طباشير يحاول أن يرسم حدود إطاره الخاص في الفضاء المعتم..
رأيتني في طرف الحديقة المغروسة بالحصى. ممددا على ظهري أنظر إلى النجوم. يفيض جسدي على المشهد وكنت عند رأسي أتأملني. ألمس في خيالي التفاصيل المثيرة. ثم أمسكت الرأس فصلته عن الرقبة. وضعته في سلة دهان. بقيت عيناي تنظران إلى النجوم. لم يكن في السماء نجوم. فصلت باقي الجسم. أفرغت محتوى البطن من أمعاء ثم ملأته بالحصى. ربطت باقي الأطراف بشريط طويل ثم علقتها كعرجون على غصن شجرة كان يمرّ من هناك.
امرأة تجرّ رضيعا خلفها. مربوطا من عنقه بحبل. توقف قرب صفحة جريدة قديمة تشممها ثم تبوّل عليها.. جذبته بشدة من حبله فعوى وتبعها. السكرتيرة تشرب زجاجة عطر وترسم بأحمر شفاه دوائر صغيرة. دائرة للقدمين. إطارا لليدين. دائرة صغيرة للرأس. ودائرة أخرى لبقية الجسم. وبقيت خارج الدوائر. لم يكن صديقي يرسم دوائره. كان يجلس مقرفصا يخفي رأسه بيديه. وبقي ينتظر بقية الحفل. ربما ليرسم إطاره في هدوء. عشيقان يتعانقان فوق الحصى المعفّر. يخدشان بعضهما البعض بالأظافر. يتعاضّان. يتراشقان بالحجارة. يتعانقان. يتناهشان بالأنياب يخنق أحدهما الآخر. ويعودان من جديد.
رأيتني متكأ على جنبي أرسم على الحصى كقارئ الرمل خطوطا ما لها أول ولا آخر. وحين هبت ريح شرقية تحمل في طياتها الغبار وأوراق الشجر وزبالة مختلفة أخفيت رأسي في بئر مهملة ثم عدت في خفة أراقص خطوطي.
المرأة التي تشبه عصا المكنسة تحتضن صعلوكا أحمر الشعر.. طويلا بشكل مذهل وبينهما كانت تنام دمية من البلاستيك الأزرق. كانا يحضنانها. يداعبان جسمها الفارغ. يتجاذبان أطرافها ثم يأخذان في العراك. يحاول كل منهما سحب جزء إليه. ينفلق بينهما الجسم الفارغ. تخرج الأمعاء فيغرقان في دم غير مرئي. ينظفان عريهما بخرقة شفافة. يجرجرانها من أشلائها ويمضيان. وعلى جسميهما كانت ترتسم دوائر فارغة.
تثور ضجة الموسيقى الصاخبة. هجينة الألحان. ثم تصمت فجأة لتعود من جديد. لا أحد ينتبه إلى ذلك. كل يمضي لشأنه. لا أحد أكل من الوليمة التي نصبت على نخب الحفل. فقط كانوا يتراشقون بالصحون وقطع اللحم ويسكبون على بعضهم المرق. كنت تحت الطاولة أتأمل خريطة بالمقلوب وقد تبللت بالشراب وبالمرق.
وحين دقت الساعة خمسة عشرة دقة أخذوا يرقصون ودخلوا المرآة.. حاولت أن ألج الزجاج الشفاف فلم أستطع. بقيت أبحث عن المفتاح تحت الحصى الأزرق. نفذ المشهد كله فتطايرت الرؤوس والشظايا وتعالت القهقهات.
حاصرني الصوت فاستفقت. عدت راكضا إلى دفاتري. علني أنفض بقايا المشهد. علني أجد سر المرايا.
روضة السالي، تونس 1999، من رواية شظايا