10‏/4‏/2015

ظلّ على الجسر

عندما رفعت بصرها إلى السماء المتدلّية، بدت لها الشمس كرة ضخمة من الزبدة المائعة وهي توشك أن تذوب.
ودّت لو أنّ لديها متسعا من حياة لتتعلّم رقصة التانغو أو لغة جديدة، لعلّها تحظى برقصة أخيرة مع غريب يعترضها عند الجسر، قبل أن تتحوّل إلى كائن رخو يختفي بميوعة عند خطّ الأفق الدامي، حيث يتقاطع الظلّ مع ظلّه، ويشهق القطار على السكّة الحديدية كامرأة تنتحب.
ودّت لو أنّ لديها متّسعا من لغة لتوجد كلمات تحدّث بها ذلك الغريب الذي يلتحف بظلّ شجرة من دون مفردات.
تمعنّت في الأشعّة التي تغطي السماء متموّجة كخصلات قشّ. وفكّرت بأن الأوان قد فات قبل أن يولد العشق، أو توجد البهجة.
ومن دون حزن، تهيّأت للقائه بما يستحقّه من حفاوة. فقد أخبرها - صادقا - بأنه سيأتي إلى الجسر، في موعده تماما، وحين تلتقي نظراتهما لن تكون سعيدة. فهو لا يأتي عادة بالخلاص. وإنما، بعد أن تنظر إليه، ستختفي عينها اليمنى في حفرة عميقة، وعندما تمعن النظر إليه بعينها الأخرى يكون الموت قد ابتلعها كليا ليحيلها إلى طين وعجين قديم.
قبل أن تغادر في اتجاه الجسر، تركت النافذة مفتوحة وأوصت ظلّها بألا يبكي عليها لأنها ستتدبّر أمرها بمفردها - لطالما فعلت ذلك وبرعت فيه - وهي التي تعلّمت أن تفقد الأشياء تباعا.
خلعت كلّ ما غلّفها من ضوء ولون واحتفظت فقط بالأصفر. ولم تنس أن تدهن مفاصل البوابة كي لا تصدر صريرا.
ثم خرجت إلى موعدها.
في الحديقة توقّفت هنيهة لتستند على جذع الرجل الشجرة. ذاك الغريب الذي حدّثها دون كلمات، وراقصها خارج الإيقاع، واصطاد من أجلها سمك البهجة بزورقه الصغير، قبل أن تسكن الفراشات جسمه النحيل. داعبت أغصانه التي كانت يدا تجيد استعمال الزبدة لصنع كعكة البهجة في مطبخ الرغبة، وشفة تبرع في نطق القبل بلا كلمات. قبّلت ثآليل الغصون وحلمات البراعم، وداعبت أورام الجذع المتعفّن، وارتشفت كأسا أخيرة من القيح الأصفر اللزج كجزء من طقوس الوداع. ثم تأمّلت للحظات رؤوس زهرة عبّاد الشمس وهي تصطاد فراشات اللون بهدوء خاشع.
رمت المشهد برمّته ورائها، فارتطم بسماء متغضّنة تقطر زيتا ودهونا.
ثم اتجهت صوب الجسر، يسبقها لون الشجر العالي وهو يمتد ويطول ممتصّا رحيق الإسفلت الملبّد بالتراب والحصى. ومع آخر شجرة شهقت على الطريق، ذاب الظلّ تماما وسال قطرات دامية على الغروب.
رأتهما من بعيد، كانا يمشيان في الطريق الطويل بمحاذاة السكّة الحديدية، عندما مرّ قربهما القطار، وقد عكس الضوء الدامي أشباح المسافرين على زجاج نوافذه الموصدة. وتابعت للحظات مشهد تقدّمهما بخطوات منهكة قبل أن يستندا على حافة الجسر. بدا لها بأنّ أحدهما على وشك الصراخ، فيما كانت موجات دائرية بلون الغروب الدامي ترسم غضونا على وجه الآخر. كان المشهد مألوفا بالنسبة إليها، أو لعلّها عاشته في حياة سابقة. لذلك واصلت طريقها بما يليق بها من هدوء، طرق سمعها صدى بعض من حكايتهما الهامسة. كانت تعرفها. وكانت عن صرخة وقطار وأشلاء.
وعندما رفعت رأسها نحو السماء كانت الشمس قد ذابت تماما وتشابكت مع ألوان الغسق.
وصلت إلى آخر نقطة في الجسر حيث كان ينتظرها هناك.
توقّعت أن تجده معلقا من قدميه إلى سقف ما. تصوّرت أن يكون له جناحان مثل خفاّش، وأن يكون له وجه قرد بارز الأنياب، وأن يتدلى لسانه مثل أفعى مكسوة بالريش. خمّنت أن يكون جسمه الأسود مرقطا بالأبيض ويكسوه الزغب. وأن يخرج الثلج من مؤخرته المكشوفة كلّما حرّك ذيله الطويل، فقد قرأت ذلك في مكان ما.
لكنّ شكله كان مّألوفا لديها.
كان أكثر من مألوف.
كان ظلّها ذاك الذي تركته خلفها قبل أن تهرع إلى طقسها الأخير.
خانها ظلّها.
تبادلا النظرات، وقبل أن تلوم، أو تعاتب، أو تحتجّ، نفّذ وعده. تماما مثلما أخبرها سابقا.
اختفت عينها اليمنى داخل حفرة عميقة من طين لزج. وعندما همّت بالنظر إليه بعينها الأخرى، كانت قد هوت على السكّة الحديد التي يتقاطع ظلّها مع ظلّها.
وقبل أن يرسم الضوء دائرة من دماء، كانت صرختها تدوي من قاع حفرة من عجين قديم.
روضة السالمي
تونس، أفريل 2015
مجموعة قصصية نساء صغيرات مذعورات