11‏/11‏/2015

مواسم المشمش

مواسم المشمش - روضة السالمي - تونس 10 نوفمبر 2015 – من مجموعة "سميرة وأخواتها"

سنة 1978 كانت تدرس بالسنة الثانية ابتدائي في مدرسة نهج كتاب الوزير. كانت صغيرة، تحيط وجهها المستدير ضفيرتان قصيرتان من الشعر الكستنائي. وكانت سعيدة بسقوط أسنانها اللبنية الواحدة تلوى الأخرى، فقد كان ذلك يشعرها بأنها بدأت تكبر.
وكان محسن، الصبي ذي الثمانية أعوام، والذي يجلس بقربها في المقعد الأول من الصف الثاني، جارها. فقد كان يسكن مع جدته لوالده في البيت المجاور لبيتهم من الجهة الخلفية. وكانت تخجل من جلوسها بقربه. فلطالما أوصتها أمّها الأرملة بتجنّب اللعب مع الصبيان أو محادثتهم.
كان يكبرها بسنة واحدة، إذ كان يعيد السنة الثانية.
وكانت في سرّها تستغرب كيف يسقط أحدهم في الامتحانات، ليس لأنها ذكية أو متفوّقة. وإنما لأنها كانت تعتقد أن الامتحانات هي الفرصة الوحيدة للإجابة عن الأسئلة دون الشعور بالخجل والتلعثم الذي تسبّبه النظرات المصوّبة من كلّ جانب.
وفي أحد أيام سبتمبر من تلك السنة وخلال حصّة الرياضيات، وفيما كان المعلّم يتجوّل بين الصفوف، لكزها محسن بلطف بمرفقه وهمس لها بأنه يريد أن يطلعها على سرّ.
صحيح أنها كانت تتجنّب الحديث معه، ولكنها لم تكن لتقاطعه حين يكلّمها. ولذلك حين همس لها ذلك اليوم بأن لديه شيئا ما ليخبرها به، توقّفت برهة عن التنفّس، حتى تستمع جيدا إلى ما يريد أن يطلعها عليه. وفيما كان المعلّم يواصل جولته في آخر الفصل، قال لها محسن وهو يفتح سحاب سرواله "انظري" وهو يشير إلى شيء منتفخ في مثل حجم حبة المشمش تحت تبانه الداخلي ذي اللون الأحمر.
أشاحت وجهها عنه بسرعة. ورغم ذلك فقد انطبعت الصورة في رأسها إلى الأبد.

سنة 1987، كانت تدرس في السنة الخامسة من التعليم الثانوي شعبة آداب. وكانت ما تزال قصيرة القامة، تربط شعرها الكستنائي الطويل في شكل ذيل حصان، وتضع مقوّم أسنان.
في أحد أيام شهر جانفي من تلك السنة، كانت في المكتبة العمومية تعدّ ملفا عن العباس بن الأحنف، وبينما كانت مستغرقة في الاستمتاع بالبيت الذي يقول فيه "أَيا فَوزُ لَو أَبصَرتِني ما عَرَفتِني...لِطولِ شُجوني بَعدَكُم وَشُحوبي...وَأَنتِ مِنَ الدُنيا نَصيبي فَإِن أَمُت...فَلَيتَكِ مِن حورِ الجِنانِ نَصيبي"، وبينما كانت تتلذّذ بنطق اسم محبوبة الشاعر فوز القريب من اسمها فائزة، وضع أحدهم يده على كتفها.
التفتت فوجدته يقف خلفها. كان طويل القامة بالنسبة إلى شخص في الثامنة عشرة من عمره. ابتسم لها فغطّت ابتسامته الجميلة على الزغب الخفيف الذي نبت على وجهه ولم يفلح في إخفاء البثور المتقيّحة.
ردّت عليه بابتسامة مرتبكة. فقد أطلت عليها ذكرى حبّة المشمش المغلّفة في اللون الأحمر. لم تكن قد رأته منذ سنوات طويلة، إذ كان قد انتقل إلى العيش مع أمه جهة ابن عروس فيما بقيت هي في نهج جامع الغربال، لتواصل دراستها في المعهد العلوي بعد أن سقط سقف معهد الصباغين على رؤوس التلاميذ وتحوّل فيما بعد إلى مركز للشرطة.
جلس بقربها وثرثرا لبرهة بصوت خفيض، فعرفت أنه يدرس بالمعهد النموذجي في السنة الخامسة شعبة تقنية، وأنه جاء إلى المكتبة العمومية لينجز بحثا في علوم الأرض عوضا عن صديقته التي كانت تشارك في مباراة كرة سلّة بين المعاهد.
لم تجد ما تخبره به عنها أكثر من أنها توجّهت إلى شعبة آداب لأنها تكره الرياضيات. ولا تدري لماذا شعرت بالحرارة تذيب خديها عندما تذكرت واقعة المشمش، فتوقفت عن الحديث.
تلكّأ بعض الوقت ثم ودّعها. فعادت إلى عباس بن الأحنف وهي تحاول طرد الصورة من ذهنها.

سنة 2001، كانت في نحو الثلاثين من عمرها، تخرّجت منذ سبع سنوات، وتنتظر إعلان نتائج الكاباس حتى تبدأ حياتها العملية في مهنة التدريس. وفي انتظار ذلك كانت تشتغل سكرتيرة لدى طبيب نساء وتوليد منذ أربع سنوات.
في مساء أحد أيام الربيع من تلك السنة، وبينما كانت قد خرجت لتوّها من عيادة طبيب الأسنان حيث تخلّصت من ضرس سبّبت لها التهابا وألما فضيعا في فكّها. سمعت صوتا يكاد يكون مألوفا يناديها، التفتت فرأته يشير إليها من نافذة سيارته الفولسفاكن القديمة أن تصعد قبل أن يشتعل الضوء الأخضر.
لم تعرف كيف وجدت نفسها تجلس بقربه في سيارته القديمة التي تخرج كمية هائلة من الدخان وهي تتحرك، ابتسم في وجهها بفرح، وانطلق بالسيارة التي أحدثت صوت اصطدام معدني عندما مرّت فوق الحفر والنتوءات التي تملأ الطريق. "ما رأيك لو نتناول شيئا معا" سألها وانطلق في الطريق المؤدية إلى سيدي بوسعيد دون أن ينتظر الإجابة، ودون أن يتوقّف عن الحديث ملخّصا العشر سنوات الماضية من حياته، ومعلّقا بين الحين والآخر على حالة سيارته الميئوس منها.
وطوال الوقت الذي كان إما يتحدّث فيه عن مهنته في الهندسة الميكانيكية أو يبتسم لها بأسنانه الجميلة أو ينظر بسعادة أمامه، كانت صامتة تكتفي بهزة من رأسها أو ابتسامة مجاملة وهي تختلس النظر إلى وجهه الذي زالت عنه البثور تاركة ندوبا امتلأت بالرؤوس السوداء.
كانت لا تستطيع منع لسانها من تحسّس موضع الضرس المخلوع، أو شدّ حنكها حتى تتأكّد من زوال البنج. وفي الواقع تحمّست إلى الذهاب معه لأنها كانت وحيدة.
لم يكن أحد ينتظرها في البيت، فقد توفيت والدتها منذ سنتين تاركة لها بيتا يوشك أن يتهدّم، مكوّن من غرفة واحدة تفتح على صالة ومطبخ وحمام. ورغم عملها الدؤوب فهي لم تتمكّن من ترميمه أو تحسينه، واكتفت بتركه على حاله محاولة ألا يؤول إلى السقوط قبل أن تلتحق بالتدريس. فقد كان لديها أمل رومانسي في أن ترسلها وزارة التربية إلى التدريس في إحدى مناطق الريف، علّها تبدأ حياتها من جديد في أحضان الطبيعة.
عندما وصلا إلى سيدي بوسعيد، ركن السيارة في الموقف وترجلا. بدا عملاقا بقربها فيما كانت هي تخفي نحافتها بملابس فضفاضة، وقد أحاطت كتلة من الشعر الكستنائي  المتموّج بوجهها الدائري.
اختارا طاولة قبالة المرفأ. وكانت طيور النورس تحوم في السماء تحشو الفراغ بصوتها المرح. وعندما هبّ بعض النسيم الربيعي، تحرّكت أشرعة الزوارق بوهن دون أن تتحرّك هياكلها الراسية.   
 لم تكن تعرف كيف تتصرّف. صحيح أنها في الثلاثين، وأنها تعرّفت على بعض الشبان حين كانت في الجامعة، وعاشت بعض القصص قصيرة المدى. لكنها في الحقيقة لم تعرف كيف تتصرّف مع محسن. ربما لأنها تتأرجح بين كونها تعرفه منذ الطفولة وإحساسها بأنها لا تعرفه.
وحالما انصرف النادل بعد أن سجّل طلبهما، أقبل نحوهما بائع الورد، همّ بأن يشتري لها وردة حمراء، إلا أنها رفضت بأدب. فسألها محسن وهو يبتسم إن كانت مخطوبة أو مرتبطة.
لم تفكّر في الإجابة، وإنما سمعت نفسها تجيب بأنها تعيش قصة حب مع طبيب شاب هو صديق رئيسها في العمل. وكانت تتحسّس مكان الضرس الذي أصبح أحمر وناتئا مثل حبّة مشمش.

في سنة 2011، وبالتحديد مساء يوم الاثنين 19 ديسمبر، كانت عائدة عبر الزقاق المؤدي إلى نهج جامع الغربال حيث ما تزال تسكن في بيتها القديم، عندما لمحته يسير مع مجموعة من السوّاح. تمنّت في سرّها ألا يراها، لكنه كان قد رآها بالفعل. فتوقّف هنيهة وقد رسم على فمه نفس الابتسامة الحلوة وتقدّم نحوها مسرعا ودون أن تتوقّع أخذها في أحضانه، وسط ضحكات أصحابه وحتى أن أحدهم التقط صورة.
تأرجحت في تلك اللحظة بين أن تحبّه أو أن تكرهه. غير أنها كانت لحظة عابرة بسرعة الضوء، ما أن تبادرت إلى ذهنها حتى انصرفت عنه.
كانت في الأربعين، امرأة ناضجة، تميل إلى البدانة والاستدارة، لم تفلح قصة شعرها القصيرة ونظارتها الطبية في جعلها تبدو مختلفة عمّا كانت عليه قبل عشر سنوات أو أكثر. وكانت قد حقّقت حلمها بتدريس اللغة العربية، في معهد مونفلوري بالعاصمة.
سألته وسط سيل كلامه الجارف وتحت أنظار أصحابه الفضولية "كيف عرفتني؟" فأجابها "ببساطة لأنني كثيرا ما أفكّر بك." صمتت محرجة، فأردف "كنت في الحقيقة سأدعوهم إلى بيت جدتي، ولكن بما أنك هنا فربما تستضيفيننا". فوافقت بعد تردّد.
عرّفها على رفاقه، مونيك صاحبة آلة التصوير، فرنسية وهي مصوّرة محترفة، تقوم بتحقيق صحفي عن تونس، وأشار نحو رجل أبيض بدين أسماه برونو وهو كاتب ايطالي مستشرق ثم قال "يمكن أن تصبحا أصدقاء، لم أنس حبّك لعبّاس بن الأحنف" قالها ضاحكا ثم أضاف "أرأيت أعرف عنك كلّ شيء"، وقدّم إليها في الأخير نتالي المستشرقة السويسرية التي قال عنها الكثير ولكنها لم تستوعب مما قاله سوى أنها زوجته.
دعتهم إلى الدخول، فسارعوا إلى تلبية الدعوة.
كان بيتها الصغير المؤلّف من غرفة وصالة في حالة مزرية. غير أنها اجتهدت في تأثيثه بذوق فبدا مثل عشّ صغير لطيف متعلّق بأهداب غصن تؤرجحه الريح. تأمّل الجدران والأركان والسقف وكلّ الزوايا وكأنه في متحف، توقّف مطوّلا عند صورة أمها التي تتوسّط الجدار ثم سألها على نحو مباغت "أين ناصر؟".
فاجأها سؤاله. أنساها مجموعة الغرباء الذين يتنافسون في التعليق بمرح على الأثاث التقليدي الذي يزيّن فوضى بيتها الصغير.
"تطلّقنا منذ ثلاث سنوات" أجابته دون أن تبتسم، وواصلت وضع قطرات ماء الزهر في فنجان القهوة. ثم قالت بحياد تام "كنت عاقرا. وكان هو مدرّس لغة انجليزية." ولم تسأله كيف عرف اسم زوجها، فللجدران آذان مثلما يقال.

في شهر سبتمبر من سنة 2017، وعندما كانت في السابعة والأربعين من عمرها. كانت قد انتزعت منذ ثلاثة أشهر ورما حميدا بحجم حبّة المشمش من ثديها الأيسر. وفي مساء ذالك اليوم كانت تعدّ درسا عن رواية "حدّث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي، لتقدّمه في السنة الدراسية الجديدة. عندما سمعت طرقا على الباب. نهضت بتثاقل، فقلّما يزورها أحد.
كان محسن، يسدّ الفراغ  بقامته الطويلة وبجسمه الممتلئ. أخفت دهشتها. وتصرّفت كما لو أنها كانت تتوقّع مجيئه. عانقها مطوّلا عند العتبة وكأنه قريب غاب طويلا ثم عاد. أدخلته البيت الذي اجتهدت في حمايته من السقوط، وغيّرت أثاثه ليبدو أكثر ملائمة للموضة الجديدة في التأثيث.
"كم أحب هذا اللون الذي طليت به الجدار" قال بمرح لطيف، ثم أضاف "هل المشمش هو فاكهتك المفضّلة؟" فأجابته "كلا طلاء الجدران ليس بلون المشمش، فتلك الفاكهة لونها أحمر" فأجابها مستنكرا بلطف "ولكن المشمش ليس أحمر، الجميع يعرف ذلك".
من تحت خصلات الشعر المتفرّق الذي نجا بأعجوبة من السقوط بفعل الدواء، توهّج خداها المتهدّلان وأصبحا في لون المشمش.
"لماذا جئت؟" سألته لأوّل مرة في حياتها بشكل مباشر. فأجابها "كنت أتفقّد بيت جدتي الذي ورثته عنها كما تعرفين." ثم واصل "لم أشأ أن أعرض عليك الأمر عبر الهاتف، قلت في نفسي إنها فرصة كي أراك." صمت برهة ينتظر ردّ فعل منها، ثم واصل "أريد بيع هذا العقار، وفكّرت أنك ربما تريدين شرائه."
بعد ثلاثة أشهر كانت قد رهنت بيتها الصغير وتحصّلت على قرض من البنك، وتمكّنت من دمج البيتين معا، محقّقة أمنيتها الصغيرة بامتلاك حديقة.

عندما بلغت التاسعة والخمسين، أي سنة 2029، كانت تجلس قرب شجرة المشمش ترتشف فنجانا من الشاي، تستمع إلى تسجيل حفل أم كلثوم بتونس يوم 3 جوان 1963، وكان الوقت بين العصر والمغرب لأحد أيام شهر ماي الدافئة، وكانت أم كلثوم تصدح " اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه...عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ...أنت عمري اللي ابتدى بنورك صباحه...يا حبيبي تعالى وكفاية اللي فاتنا...هو اللي فاتنا يا حبيب الروح شوية...اللي شفته قبل ما تشوفك عنيا " عندما رنّ جرس الهاتف، نهضت بتثاقل، كان محسن على الطرف الثاني، يدعوها إلى العشاء.
كان يحتفل بإحالته على التقاعد، بعد سنوات عديدة قضاها مهندسا ميكانيكيا في شركة الملاحة والمواني. وكان قد انفصل منذ سنوات عن زوجته المستشرقة السويسرية التي أنجب منها في أواخر سنة 2011 بنتا أطلق عليها اسم صوفيا وتدرس حاليا البيولوجيا في زوريخ مسقط رأس أمها.
انتظرها عند الساعة السابعة في موقف السيارات قرب ساحة الحكومة. مرّت في طريقها بالأنهج التي شهدت طفولتها وصباها، وجلّ مراحل حياتها. كانت تطأ البلاط الذي رصفته على امتداد مئات السنين أقدام المارة.
ولمحته من بعيد، تفرّست فيه في غفلة عنه فلطالما أحست بشيء من الحرج نحوه. كان على الرغم من سنواته الستين ما يزال طويل القامة رغم الصلع الذي أصابه وترهّل جسمه وبروز بطنه. أما هي فما تزال قصيرة القامة يبدو عليها السقام بعد أن خسرت الكثير من وزنها، كما خفّ شعرها بسبب العلاج بالأشعة، وترتدي بلوزة واسعة تخفي بها تورماً في الذراع سبّبه استئصال العقد اللمفاوية.

رآها قادمة فقطع الطريق في اتجاهها مركزا كامل انتباهه عليها، غير أن شاحنة كانت قادمة من شارع 2 مارس 1934 في اتجاه شارع باب البنات صدمته. كانت محمّلة بصناديق الفاكهة. ولم يكن من بينها المشمش.