30‏/11‏/2015

سحابة عابرة في مربّع من الزرقة

سحابة عابرة في مربّع من الزرقة

روضة السالمي – تونس - 30 نوفمبر 2015

ما من أحد توقّع ما فعلته بيّة ذلك اليوم.
بدأ النهار عاديا. انسكبت أشعة الشمس عمودية على بلاط الصحن. فعكست الأرضية انكسار الأشعة على الجدران التي عشّشت فيها الرطوبة.

لعقت إحدى القطط يديها ونظّفت وجهها مرارا. في حين تمسّح القط برتقالي اللون، بصوته الذكوري الصاخب على لوح الباب الأزرق.
ظهرت غيمة ثم ابتعدت مسرعة واختفت وسط اللون السماوي.

ربّما حدث ذلك في الحادية عشرة صباحا.
وكانت بيّة، اذا استثنيا قططها الخمسة أو الستة وعشرات الجرذان وساكن العليّة وابنها حوسين، بمفردها في البيت.
لم تفح من المطبخ رائحة الطعام. فالعروسي لم يعد بعد، ولم يكن في البيت ما يؤكل، كما أن بيّة لم تكن تحبّ الطبخ.

وكان الزقاق هادئا.
أغلب السكان كانوا إما يغطون في النوم في انتظار الموت الذي يبطئ في القدوم، أو يغطون في النوم بعد السهر الطويل، أو يغطون في النوم لأنه المتعة الوحيدة المتاحة.

"روبافييييكيا.... روبافييييكيا..."
اخترق الصوت المشهد الصامت.

حرّكت القطة السمينة التي كانت تلعق يديها وتنظف وجهها أذنيها القصيرتين في اتجاه مصدر الصوت. رفع القط ذي اللون البرتقالي رأسه وحكّ بقائمته الخلفية براغيثا عشّشت في جسمه. ومن الغرفة الوحيدة اندفعت قطّتان صغيرتان وسط الفناء المبلّط تتنازعان كيسا بلاستيكيا أسود.
ربّما اندفعت في تلك اللحظة، وبسبب ذلك الصوت الممطوط لبائع الروبافيكيا المشبع بالتبغ والخمر وسوء التغذية، فكرة ما إلى عقل بيّة، أو ما تبقى من عقلها.

جميعنا كان يطلق عليها اسم المهبولة.
وقليلون كانوا يعرفون أن اسمها الحقيقي هو البيّة.
وحفنة من الأشخاص يعرفون أنها كانت في الثالثة عشرة عندما تزوجت العروسي. زواجا لإنقاذ سمعة العائلة. فقد كانت بيّة ذات الثلاثة عشرة سنة حاملا بابنها الأوّل الحطّاب من العروسي الذي يفوقها بعشرين عاما.
كان العروسي عربيدا وزير نساء وعاطلا عن العمل، ولسبب ما وافق على زواج التسوية. ولم تكن البيّة التي أيقظها اليوم صوت بائع الروبافيكيا، وهي في تلك السنّ مميّزة جميلة أو تنحدر من أسرة ميسورة. ولسبب مجهول استمر زواجهما إلى أكثر من ثلاثين عاما.

حملت بيّة ذات العينين الزرقاوين والأنف الأفطس والساقين المعوجّتين والشعر الشائك، خلال سنوات زواجها عديد المرات، ولم يعش من أبنائها سوى خمسة.

أكبر أبناء البيّة هو الحطّاب، في الثلاثين من عمره، وهو يحترف تقليد الرسوم المشهورة، وتغطي وجهه لحية صهباء لم يشذّبها قط، وعلى جبينه دائرة داكنة اللون بفعل السجود. ورث عن أمه عينيها الضيقتين الزرقاوين وعن أبيه لونه المائل إلى الزرقة. وكان على الحطاب أن يذهب مرتين يوميا إلى مركز الأمن بالحفصية ليثب وجوده، فقد كان تحت المراقبة الإدارية.

مراد شُهر "جرادة" هو الابن الثاني، وله من العمر خمسة وعشرين عاما، إذ أجهضت البيّة عديد المرات منذ حملها الأوّل، كما أنها وضعت بنتا توفيّت بعد أشهر من ولادتها. وقد استحقّ جرادة لقبه بسبب نحافته و طول ساقيه في غير اتساق مع جذعه، وسرعته في الركض والقفز بعد كلّ عملية نشل يقوم بها. وهو مختص في سرقة أحذية المصلّين وبيعها في سوق باب سيدي عبد السلام.

الابن الثالث لهذه العائلة هو شدولة، وهو في الرابعة والعشرين، نحيف الجسم مخطوف اللون، على وجهه آثار بثور وعلى ساعديه آثار تقطيع بالموسى. وهو رسام مثل شقيقه، كما أنه مصاب بربو مزمن. وقد أصرّت البيّة على إطلاق هذا الاسم عليه بعد أن حلمت بأن بلحسن الشاذلي زارها في المنام وطلب منها بعد أن أعطاها دفترا ممزقا أن تسمي ابنها على اسمه.

أما الحوسين أو الحوسي، ذي الثالثة والعشرين من عمره، فهو أوّل شيء تراه لو دفعت باب الدار ودلفت السقيفة. كما أنه أوّل رائحة تشمّها، قبل رائحة الزبالة، والسمك المقلي، وبراز القطط، والمرحاض.
 فقد كان الحوسي يتبوّل ويتغوّط في ثيابه وفي مكانه. والوحيد الذي كان يهتم بنظافته هو الحطّاب، الذي كان يحرص على تحميمه مرّة كلّ أسبوع قبل أن يعانقه.
وكان الحوسين مصابا بمرض نفسي يجعله يقرفص أرضا صيفا وشتاء ويسند حائط السقيفة بجسمه المهزوز إلى الأمام والخلف بلا انقطاع. ولا يتكلّم أو يستمع لأحد. ومن حين لآخر يصاب بنوبة هسيترية من الضحك غير المبرّر. وقد تحدّث البعض عن ضربات شديدة ومتكرّرة تلقاها على رأسه جعلته يفقد الصواب.

أما آخر العنقود فهي خدجدج، ذات العشرين عاما، وهي رغم ساقيها المقوستين وأسنانها البارزة فقد كانت على قدر معقول من الملاحة بفضل عينيها الزرقاوين. وكانت خدجدج وهو تصغير لاسم خديجة تسكن في بيت الجيران لأنها لم تجد في بيت أهلها مكانا تغيّر فيه ملابسها.

"روبافييييكيا.... روبافييييكيا..."
توغّل صوت البائع المتجوّل داخل الأزقة. وبقي بعض صدى صوته ليصل متشعّبا عبر الجدران التي لم تفلح أشعة الشمس في تدفئتها.

وفجأة دبّت الحركة في جسم البيّة. وتملّكتها حماسة كبيرة. فراحت تتنقّل جيئة وذهابا داخل حجرة النوم. ثم فتحت الباب وخرجت مسرعة.

لم يتسنى لأحد رؤيتها في تلك اللحظات. ولا حتى القطط التي تحرّكت على مضض مفسحة لها المجال لكي تمرّ. فقد مرّت كسحابة عابرة.
في السقيفة كان الحوسي، بجسمه النحيف العاري إلا من بعض الأسمال، يهتزّ إلى الأمام والخلف في وضعه المقرفص الأبدي. ربما يكون هو الوحيد الذي شاهد بيّة وهي تخرج حاملة تحت إبطها كيسا أسودا كبيرا.

بعد نحو ساعة عادت بيّة.
شعرت القطط بعودتها فابتعدت عن طريقها في غير عجلة.

جلست بيّة على البلاط وفتحت الكيس الذي كانت تحمله وأخرجت حذاء رجاليا لامعا، أبيض وأسود، من النوع الذي كان منتشرا في الأفلام الراقصة التي تصوّر فترة الخمسينات. أزاحت بضربة من ساقيها المعوجتين الخفّ الممزقّ الذي كانت ترتديه، فاستقرّا قرب الباب اللوحي الأزرق حيث كان القط يحكّ ظهره، وارتدت بسعادة واضحة زوج الحذاء.
تمشّت في الفناء المبلّط مثل عارضات الأزياء فأصدر الحذاء عند كلّ خطوة صوتا مقزقزا. وبخفّة الفرشات تحرّكت بيّة بخطوات راقصة، ثم انحنت على الكيس وأخرجت مطرية. كانت مطرية زرقاء اللون وبها نقاط بيضاء مثل غيوم شاردة في الفضاء.

نظرت بيّة أوّلا إلى مربّع السماء الذي يغطي الفناء، ثّم أمعنت النظر إلى النافذة الوحيدة لغرفة العليّة وبعد ذلك فردت المطرية وتبخترت بها بين أرجاء الفناء. وهي تغطي بها رأسها تارة وتسندها إلى كتفها تارة أخرى، وكأنها تقلّد ممثلة سينمائية.

مال الظلّ على الحائط الغربي قبالة نافذة العليّة. ربما تكون بعض عصافير الدوري قد زقزقت بكسل ثم انكفأت على نفسها تفلي أجنحتها بصمت فاتر. عاد التلاميذ من مدارسهم، في تلك الفترة من النهار، وبدؤوا لعب الكرة. وهكذا دبّت بعض الحياة في الزقاق.

عاد العروسي نحو الثانية بعد الزوال. فقد كان يشتغل حمّالا في سوق السمك. تعلّقت به القطط التي قضت صباحها متمدّدة في الشمس الربيعية الدافئة.
كان البيت تقريبا فارغا، إذا استثنينا البيّة والحوسي والقطط ومجموعة الفئران وساكن العلّية. دخل العروسي إلى المطبخ وسلق بعض المحمّص مع الماء والزيت والسكر. فقد كان ذلك هو الأكل الوحيد الذي يتناوله الحوسين مرّة في اليوم وفي بعض الأحيان في اليومين إذا حدث ونسي العروسي أمره، وكثيرا ما كان ذلك يحدث. ثم أخذ يقلي كيلو السردين التي سيتناوله مع قارورة اسبريتو.

كان الحطّاب يقبع منذ أسبوعين في الإيقاف في مركز الأمن بالحفصية بسبب منشورات ضبطوه وقد سرّبها داخل أطر لوحاته الزيتية المقلّدة. أما جرادة فربما يعود أواخر العشيّة ليأكل ما يجده ويغيّر ملابسه قبل أن يخرج من جديد. ومنذ ليلة أمس يقبع الشاذلي المصاب بالربو في مستشفى عزيزة عثمانة، إثر إصابته بنوبة سعال حادة صاحبها القيء. حدث له ذلك إثر شربه قارورة اسبريتو كاملة مع بعض الأقراص المخدرة من دون تناول أيّ طعام. وبالطبع كانت خديجة التي لا تجد مكانا تغيّر فيه ملابسها في هذا البيت المتآكل الأطراف تقيم مع صاحبها الجديد.

دخلت البيّة حجرة النوم ولم تخرج منها إلا بعد أن بدأت تشتّم مثل القطط رائحة السمك الصغير الأزرق المقلي في زيت قديم.

وعندما وقفت في الفناء، بدا وجهها المكرمش بأنفها الأفطس، وعينيها الزرقاوين الضيقتين، كغطاء الطاولة المبقّع بآثار الصلصة والقهوة وأصفر البيض. وبدا أنها طلت وجهها بما يشبه مساحيق التجميل.

وكما تفعل ممثلات السينما، أخذت البيّة تذهب وتجيء بخيلاء في الفناء المشمس وهي تطرق بحذائها الرجالي البلاط وقد فردت المطرية الزرقاء تحت أنظار ثلاثة أو أربعة قطط كانت تلتهم رؤوس السردينة التي كان يلقيها العروسي بين الفينة والأخرى من شباك المطبخ الذي يفتح على الفناء.

وعندما رفع العروسي رأسه ونظر من النافذة، وكان قد جرع ربع زجاجة الأسبريتو والتهم خمسة أو ستة سردينات، رأى البيّة في الفناء تتباهى بالحذاء والمطرية، حينها صرخ عاليا مغمغما سيلا من الشتائم وألقى عليها المقلاة بما فيها من بقايا الزيت الأسود المغلي.

لم تصب البيّة بأذى، فقد نطّت بخفّة قطّ وبقيت تهزّ مطريتها وتدور بها غير مبالية، فيما تفرّقت القطط وكادت إحداها تنزلق في الزيت الحار.
خرج العروسي من المطبخ مسرعا ودخل إلى حجرة النوم. وهناك بدأ سيل السباب الذي تردّد خلاله اسم الربّ كثيرا.

وكان النائمون في الزقاق وقد أيقضهم صوت السباب وركلات تلاميذ المدارس على الجدران الآيلة للسقوط، قد انقلبوا على جنبهم الآخر وأعادوا تغطية رؤوسهم بحثا عن النوم في انتظار شيء أهمّ.

كانت البيّة تواصل اللعب بمطريتها الجديدة، عندما خرج العروسي من حجرة النوم وقد طار مفعول الاسبريتو من عقله.
كان برأسه الأصلع ووجهه المتغضّن الذي يغطّيه زغب رمادي صلب، وجسمه الذي يميل إلى القصر أشبه بمصارع في حلبة. في البداية رجحت كفّة الصراع إلى صالحه بعد أن أمسكها من رقبتها يحاول خنقها. إلا أنها أعملت في وجهه أظافرها وضربته على بطنه بالحذاء الجديد وعضّته من إصبعه كادت تقطعه.
سقطت المطرية بعيدا فتفاداها القط البرتقالي ونطّ هاربا.

ومثلما تهدأ العاصفة مثلما تبدأ فجأة، جلس العروسي على البلاط منتحبا متسائلا من دون أن ينتظر الإجابة "أين أخذت كلّ ثيابي، لماذا لم تتركي لي حتى معطفا؟"

كانت القطط قد استولت على بقية السمك.

دخلت البيّة إلى المطبخ وجلبت بقية زجاجة الأسبريتو، ثم جلست إلى جانب العروسي على البلاط المغطى بالزيت. شربت جرعة وأعطته الزجاجة ليحتسي بدوره.

في ذلك المربع من الزرقة الذي استطاع رؤيته عبر ثقب في نافذة العليّة مرت سحابة عابرة. لم يكن بإمكانه الخروج الآن، فقد كان العروسي وبيّة يتعانقان على البلاط أمام القطط وتحت أنظار السماء. ويصدران أصواتا شبيهة بمواء متوحّش. كانا يعيشان بمفردهما في هذا العالم. وكلّ منهما له عالم خاص به. كيف استمرّت علاقتهما، وكيف لم يقتلا بعضهما البعض فتلك من الأشياء التي لا يمكن تفسيرها. كما أنه لم يعد يسكن في العليّة فقد انتقل بالسكنى إلى بيت آخر في حيّ أكثر رقيّا وهدوءا من الحفصية.

لقد انتقل إلى الصبّاغين.