29‏/1‏/2016

حبل الغسيل




كان يوما مناسبا لنشر الغسيل.
بعد أيام من الضباب الذي أطبق على أهداب زهور اللوز المضمومة، وبعد آلاف الأميال من الغيوم الرمادية المتراكمة والمتراصة، والتي شكّلت سدّا منيعا أمام خيوط الشمس المرتعشة بردا، صفت السماء بغتة، وكأن يدا ضغطت على زر جهاز التحكّم عن بعد، فبدت حديقتي الخلفية مثل أنثى وقد نضّت عنها ثوبا من الخيش وارتدت تنوّرة شفافة تغطي الجسم دون أن تستره، بل تركته ينعم بالدفء، وتتلاعب على انحناءاته الظلال.
عندما رأيت من النافذة الوحيدة، التي تطلّ على الحديقة، شجرة اللوز الوحيدة ترتعش فرحا، ولمحت ابتسامة أزهارها التي توشك أن تتفتّح، وسمعت عصفورا يزقزق جذلا، خطر لي بأن اليوم كان مناسبا فعلا لنشر الغسيل.
تأمّلت السماء مليّا بحثا عن وعد بألا يعود الغيم قبل أن أنتهي، ثمّ وضعت الكرسي الخشبي الصغير تماما في وسط الغرفة، بحيث يمكنني أن أرى الزرقة الصافية. تفقّدت الحبل، إذ أنّ أحدا لم يستعمله منذ مدة طويلة. كان حبلا بلاستيكيا متينا أحمر اللون، يحتمل ثقل الغسيل الذي ينتظر منذ وقت بعيد.
نزعت فستاني الرمادي، فقد أصبحت ياقته تزعجني بالضغط على رقبتي عند كلّ حركة، ونزعت جواربي الصوفية المثقوبة التي أرتديها منذ نحو ثلاثة أسابيع، ونزعت تباني الذي تلوّث منذ آخر دورة الشهرية. نظرت إلى كومة ملابسي العفنة، وتساءلت كيف احتملت ارتدائها كلّ هذا الوقت.
كلّ ما فكّرت به عندما ربطت الحبل هو السعادة التي يحسّها الثوب المعلّق وهو يرفرف ملاعبا الريح. وعندما أبعدت الكرسي من مكانه، كان آخر شيء رأيته هو ارتعاش زهور اللوز وهي تحرّك أهدابها تتأمّل الزرقة الصافية.
فعلا كان اليوم مناسبا لنشر الغسيل.
روضة السالمي
29 جانفي 2016

4‏/1‏/2016

عصفور يطلّ من النافذة - روضة السالمي


لمحت ظلاّ من النافذة.
كنت أنظر إلى السقف، أحاول تذكّر أغنية قديمة كانت تردّدها أمي، عندما تنتهي من أشغالها المنزلية وتتفرّغ للاعتناء بي. فتغنيها بصوتها الهامس وكأنه هسهسة الزبد يعانق الرمال، يهدهدها برقّة، ويهمس لها بالألحان العذاب، ويحنو عليها حتى تنام.
تسرّبت بعض كلمات الأغنية إلى ذاكرتي في إيقاعها الخفيف والمرح.
كنت أنظر إلى السقف، أتذكّر الأغنية عندما لمحت ظلاّ يتحرّك خلف زجاج النافذة، وسمعت نقرات خفيفة على لوح البلور الذي يفصل غرفتي عن الشارع.
أمعنت النظر إلى حيث مصدر الصوت، فبدا لي وكأن ذبابة كبيرة كانت تريد أنت تدخل. كان صغير الجسم، لا يتجاوز حجم كفي، صدره أحمر، ويميل رأسه وظهره وذيله إلى اللون البني، أما بطنه فبيضاء بلون الحليب.
وددت لو استطعت الوقوف أمام النافذة ورسمت بأنفاسي الحارقة أشكالا على الزجاج البارد الشفاف. لو كنت وقفت أمام النافذة لمددت أصابعي مثل كفيف يقرأ السطور، ومرّرت على جسمه الصغير بأناملي العطشى لأتحسّس دفء ريشه الناعم.
وددت لو فتحت له النافذة ودعوته ليحلّق في سقف غرفتي، وليحطّ على وسادتي.
وددت لو أتركته ينقر فتات الخبز فوق مائدتي.
فقط لو كان لي خبز، وبقي منه بعض الفتات.
لو كان لي مائدة أضع فوقها خبزي وبعض الزاد، أو وسادة عليها أضع رأسي وأزرع الأحلام. لو كان لي غرفة بنافذة، ولو كان للغرفة سقف وجدران.
لو كان لي أصابع ولو كان لي قدمان لو كان لي شعر مسدل على كتفي، لاستقبلته بكلّ شوق وفرح.
يتبع