19‏/1‏/2018

اسمها صافو

ربّما حان الوقت لأعترف.
لم يكن خيالا محضا.
ليس حقيقة مطلقة.
ربّما هو جنون يشبه العشق.
مجدّدا ولسبب ما توقّفت أمام تلك الفكرة مطوّلا. كان المطر ينهمر خارجا. وكان لدي ما يكفي من الوقت، وكان في المكان ما يكفي من الدفء والضوء. وقرّرت أني لن أسقي أشجار الحديقة اليوم فقد تكفّلت الغيوم بذلك. فقط سأستسلم للنور المطلّ من زرقة داكنة تلوح على الجدار. وأتأمّل تفاصيل لوحة قد تعجّ ألوانها بعد تحقُّقِها بالحبّ والحياة. أو قد تضمّ بين جانبيها الدم والفراق.
طاولة كبيرة. أزواج من العيون. جسم شبه معلّق. نافذة وبعض الغيوم. وموت. تلحّ عليّ هذه الفكرة. وتذكرني بأخرى. كانت هنا في قلبي قبل أن تموت.
لم أقتلها.
لم تمت إذن.
أو لعلّها ماتت.
أخذ المشهد يستفيق من جموده وينمو في داخلي مثل شجرة تمسك جذورها بتلابيب الأرض وتكاد جذوعها تلامس الغيوم.
ربّما خيّل لي ذلك. ربّما لم تمت. ربّما ستعود من جديد. ربّما لم توجد مطلقا. تتردّد في داخلي أفكار غائمة.
أودّ أن أقول لم ينتظرون ما قد يفيض من كلامي أنني لم أعد أذكر شيئا.
أتوقّع في كلّ لحظة أن يكسر صوت ما هذا الصمت الذي يلفني مثل شرنقة.. أو لعلّه حبل مشنقة.. أحاول التركيز قدر ما يسمح به الظرف الراهن.
كلّ ما أذكره من تلك الأيام هو الغيوم، وبعض الرذاذ، وشلال من الحمرة يتدفّق مختزنا دفئ الشمس ولونها وهي تميل نحو الغرب.
تتحرّك بهدوء من اليمين نحو اليسار، ندف بنّية شاحبة، تدفعها إلى الأمام غيوم أكبر حجما، تتدرّج من اللون الرمادي الفاتح إلى الرصاصي المعتم.
أكاد أرى من خلف الزجاج المغطى بالغبار، الريح ترسم خدوشا متموّجة على الرماد السماوي الأزرق. أحسّ بالانقباض. فأقرّر ألا أبكي. ليس اليوم. سأدع ذلك إلى وقت لاحق. ربما يأتي. لا أريد أن أعرف أين أنا بقدر ما أرغب في أن أعرف من أكون.
كمن يشهد خرابا أحدثته عاصفة ما، أراني أقف وسط مرسمي أمام النافذة ذات الإطار الخشبي المطلي بالأزرق، تحيطني الجدران الجيرية الزرقاء التي دهنتها ذات صيف.
هل تراها كانت معي حينها؟ أم تراها كانت فكرة وبعضا من الألوان؟.
هل يكفي التمعّن في زرقة الجدران لتستعيد ذاكرتي ما حدث في الخريف الماضي؟ سواء كان قد حدث بالقوّة أو بالفعل.
الآن وفي هذه اللحظة العابرة يبدو لي كلّ شيء ثابتا في مكانه. أنا ومن حولي نجلس إلى طاولة خشبية. لم يحاول أحد أن يكسر الصمت أو يخدش الفضاء بكلمة. ربما خطّ أحدهم سطرا على ورقة، وربما شغّل غيره آلة التسجيل واكتفى بتتبّع خيوط هباءات الغبار وهي تتراقص في الفضاء.
كانت على يميني لوحة غير مكتملة. وعلى يساري كان هنالك حامل لوحات فارغ. غير بعيد عنه طاولة عارية عليها بعض الثياب المتسخة ومجسّم خشبي بلا رأس يتدلى نصفه السفلي في وضع كارثي يوشك أن يسقط في كلّ لحظة ويرتطم بالبلاط.
أذكر انه كانت هنالك مرآة.
مثبتة على الحائط.
شاهدة على كل شيء.
وعلى الأرضية المبلّطة بالرخام الأبيض والأسود، تناثر حطام مزهرية فخارية صغيرة، عاجية اللون، تمدّدت حولها زهور ما تزال تحتفظ بلونها الأصفر الهادئ، أدار بعضها وجهه إلى الحائط يتأمّل تدرّج الأزرق الجيري، فيما التفت سيقانها حول بعضها ترفض أن تفترق.
أذكر أنني كوّمت تحت السرير لحافا أبيض موشّى بالأحمر البندقي. لا أذكر أين اختفى. والحقيقة أنني لا أكترث لذلك.
قد يكون اللحاف تبخّر وضاع في سماء اللوحة ممتزجا بذرات الغبار، أو تخشّب وتحوّل إلى أكداس من حطام سفينة تطلّ من خلفية مشهد سبق وأن رأيته. أو لعلّ الديدان هي من قضت عليه مثلما تنهش العقبان جثة تفاحة زرقاء معلّقة في إطار. أو تطلّ جمجمة بوجهها المألوف لتختفي في السواد المتسلّل من ثقب المفتاح.
أسمع صوتا ما. وكأنه خاطر يجول داخل عقل شخص ما. شخص قد يكون على يميني أو يساري. شخص يوجد معي في هذه الغرفة المعتمة. قد تكون تلك الأصوات في داخلي. صوت شخص يروي أحداثا لعلّها لم تحدث مطلقا. أو لعلّها تنتمي إلى كون مواز، توجد فيه نفس الشخصيات ولكنها تعيش واقعا مغيرا له أبعاد جديدة مختلفة تحكمها قوانين لم تعهدها البشرية.
يتناثر الأحمر البندقي في كلّ مكان. حائلا بيني وبين الغيوم التي تسترق النظر من خلف زجاج النافذة، أستحضر مشهد لوحة رأيتها في مكان ما. قد تكون لوحة لغوستاف كوربي، تلك التي يلقي فيها بكلّ من يحبّ ومن لا يحبّ، ثم يجلس في وسطها هادئا مواصلا رسم المرأة العارية.
وقد تكون لوحة لم يرسمها أحد بعد تلك التي تلحّ عليّ أن أرسمها. لوحة تختمر في لاوعي أحد ما في هذا الأكوان الشاسعة، ويحلو لها أن تتجوّل من عالم إلى آخر عبر نفق الدودة متحدّية جاذبية الثقوب السوداء والمادة الغامضة التي تطبق على الأنفاس.
لوحة مثل هذه، وهي تشير برأسها نحوي تريدني أن أقترب، لجديرة بأن ترسم. أكاد أحسّ كلّ شخوص اللوحة وهم يحدّقون بي يسألونني عمّا حدث.
بين حقيقة ما حدث وما كان يجدر به أن يحدث هوّة لا قرار لها.
هوّة تتسع لتشمل كلّ أبعاد النسبية وتضيق على أصغر عنصر في الكون. الآن، وأنا قاب قوسين من اللحظة أو أدنى، يتملكني الشعور بالأسف حيال كلّ ما حدث.
يغادر الغرفة الصامتة مطبقة الشفة نور الشمس بلطف متسلّلا على أطراف قدميه كي لا يجرح السكينة المخيّمة على الجميع. أنتهز آخر أشعة من نور لأنظر إلى ظلي المنعكس على لوح الطاولة. فلا أرى انعكاسا. وإنما ثقب مفتوح فاغر الفم، يلتقط تردّدات أنفاسي ويتسع ببطء حتى يصير قادرا على ابتلاعي بعد مضي وقت محدّد لا يعلمه إلا من وضعني داخل هذه الزوايا الأربعة.
ربمّا تقتضي اللياقة أن أبدأ من البداية.
ولكنني، وفي هذه اللحظة العابرة، أفضّل الإصغاء إلى بدايات وقع زخّات المطر. وأفكّر كيف تراه يكون شعور القطرة وهي تعيش كلّ مراحل حياتها عموديا، جيئة وإيابا، حضورا وغيابا، ما بين ذرات التراب التي تمتصّها وبخار الغيوم التي تسكبها.
أفكّر أنه من المحزن حقّا أن يكون العمر دورة لانهائية التكرار. ويخطر على بالي أنه من الأفضل لو ينتهي العمر دفعة واحدة، وألّا أضطر في النهاية إلى العودة مجّددا مثلما يحدث مع مياه نهر ما.
تكاد العودة إلى البداية تستحيل في غياب طريق واضحة، فمن الصعب على الرسّام استحضار نفس الرؤى والمشاعر، وإعادة نفس الحركات لتشكيل هذا اللون أو ذاك على اللوحة وتحديد الظلّ بالطريقة عينها. كلّ شيء يتغيّر حتى المياه الراكدة.
غير أنني أذكر شيئا من البكاء والألم والبحث عن أيقونة قادمة محتملة.
ألمح بدايات اهتمام تلوح على وجه الجالس أمامي. فقد غضن عينه اليمنى وكأنه يوشك على القبض على خيط ما.
أم لعلّني أتوهّم كلّ ذلك.
ربّما كان ذلك في الأيام الأولى التي تعقب النهايات المؤقتة عادة، والتي  لوّنت صباحاتي بتدرجات قاتمة من الحزن والألم.
السير في الشوارع، التحديق في عيون المارة، البحث عن ظلّ يشبه ظلّها.
عشت كلّ ذلك.
حقا.
هل حقّا عشت ذلك وأحسسته؟.
هل ناديت اسمها وردّدته كالتعويذة دون توقّف؟، وهل يعقل أنني سبّحت بكلّ حرف فيه؟، وأنني في النهاية بكيت ومارست طقوس الفراق والنسيان.
أعرف أنه مع الوقت تهدأ عاصفة الحزن تاركة ورائها شتاتا من المشاعر.
ولكن من هي؟
من أكون أنا؟
ومن هم هؤلاء الذين جاؤوا بي إلى هنا. ورموا بي مثل مجسّم خشبي يتدلى نصفه السفلي في وضع كارثي يوشك أن يسقط في كلّ لحظة من على الطاولة ليرتطم بالبلاط ويتبعثر مثل ضوء النجوم؟
هل أنا ضمن مشبوهين. أم أنني في مقرّ عصابة سريّة، أم خلية تعذيب في مركز شرطة، أو غرفة في مستشفى للأمراض العقلية.
في هذه اللحظة غير المعقولة بالنسبة إليّ أحسّ وكأنني لا أملك من أمري شيئا. لست أعرف. ولا رغبة لي سوى في التمدّد والتوقف عن التذكّر أو اختلاق الذكريات.
أدرك أن أمرا ما حدث.
فقد اكتشفت أنني برأت منها وأنه صار باستطاعتي التحدّث عنها كما لو كنت أتحدّث عن وصفة طبيعية لاستخراج الألوان من المعادن أو من النباتات أو من المحار، وكأنني أوضّح الفرق بين استعمال الفرشاة وتقنية الرسم بالسكين.
وكأن ما التصق باللوحة من مشاعر وأحاسيس لم يكن في النهاية سوى مزيج من الألوان والتقنيات وقدرة على اصطياد الضوء وترويض العتمة.
أراجع شريط ذكرياتي وكأنه شاشة عملاقة بحجم الفضاء الذي يلفني. فأرى ومضات من علاقتي بها.
لحظة بلحظة وكأنني أبدأ مشاهدة فيلم من حيث توقّفت الكاميرا وبالتصوير البطيء.
حطمتني العاصفة لكنها لم تلق بي بعيدا. فقد تركتني في أرض المعركة بين خراب مشاعري، ألملم ما تبعثر مني وأحصي كمّ خسارتي.
من تكون؟
خسرتها ربّما لأنني أحببتها وما كان لي أن أحبّها.
كانت في أواخر العشرين أو بدايات الثلاثين من عمرها. بين بين، في تلك المسافة الضئيلة الفاصلة ما بين الشباب وبدايات الكهولة. حيث يحتفظ الجسم بحيويته، وتشعّ من العيون بعض من الثقة بالنفس.
كانت مثلي. لم يكن فيها شيء مميّز عندما رأيتها أوّل مرة باستثناء ثقب صغير كان يطلّ في جوربها النايلوني الأخضر كلّما حرّكت ساقها وارتفع فستانها الأسود بعض السنتيمترات.
التقيت بها صدفة. وكأنني كنت أرى انعكاسي على زجاج مرآة.
وعلمت حين لمحتها أنها ستغيّر حياتي.
وفي تلك اللمحة الخاطفة من التاريخ، وفي غفلة من تلك الروزنامة اليائسة المتشبثة بالفراغ، لمحتها، لقيتها، عشقتها ورسمتها، أحببتها وكرهتها، أحييتها وأمتّها، خلقتها وأعدتها إلى العدم، عرفتها وأنكرتها، عبدتها وكفرت بحبّي لها، حوّلتها إلى ألوان ثم أحلتها إلى رماد، أوجدتها وأوجدت نفسي من خلالها.
ربما حدث ذلك في قطار الضاحية الشمالية للعاصمة. وقد يكون وقع في تمام السابعة وثمانية وثلاثين دقيقة من مساء الخامس من شهر سبتمبر، ما بين محطة سيدي الظريف ومحطة حلق الوادي الكازينو. رغم أنه لا شيء مؤكد البتة.
ربّما لم أكن على عجلة من أمري، فامتطيت القطار مثلما أفعل عادة لأتجوّل في أروقة خيالي. وفي محطة سيدي الظريف لمحتها تصعد إلى عربة القطار.
وعلى امتداد إحدى عشرة محطة توقّف فيها القطار كان قلبي ينتفض بشدّة كلّما فتح الباب خشية أن تنهض فجأة من مقعدها وتغادر.
اختزنت عيناي المشهد وخلفيته برمّتها. تدرّج لون الغروب المتموّج، اصطدامه في هنيهة من الزمن بجزيئات الغبار والبخار، معانقة النيلي الداكن للبرتقالي الشاحب، قرص الشمس النحاسي وهو يكاد يغوص خلف خط الأفق.
أشجار الطريق المتعثّرة في تراجعها أمام تقدّم القطار، سرعة تساقط أوراقها على الإسفلت البارد. لون العتمة داخل العربة، ووضعية أجسام المسافرين المكدّسين بين المقاعد.
ولأن الصدف لا تحدث فقط مع الآخرين فقد نزلت معي في نفس المحّطة. كانت تسبقني ببعض خطوات مكّنتني من رؤية ثقب صغير في جوربها النايلوني الأخضر. ومثلما يتبع شاعر قافية قصيدة، ويتشبّث عازف بنوتة موسيقية توشك أن تضيع في لاوعيه لحقتها.
سرت خلفها بعض الوقت وأنا أتفرّس تفاصيل جسمها الملفوف في فستانها الأسود الذي لم يكن يليق بها، وأبحث عن مليمترات بشرتها الناصعة المطلّة من ثقب صغير في جوربها الأخضر.
في أوّل منعطف على اليمين توقّفت بغتة عن السير والتفتت نحوي بتكشيرة قطّة غاضبة وسألتني: "ماذا تريدين مني؟".
لقاؤها كانت خاتمة لكلّ ما مررت به في حياتي قبلا، وبداية عمر جديد مائل للحمرة تشوبه بقع خضراء صغيرة.
خمسون درجة من اللون الأحمر، هي كلّ عمري، حيث تقاس السنوات بالدرجات، ويقاس الظلّ بالضوء الذي ينبثق عنه.
تلك المرحلة من حياتي هي باختصار لوحة تحمل خمسين درجة من المشاعر وخمسون طريقة للعشق بداية من الانجذاب والسعادة بلقائها، مرورا باشتداد رغبتي في البقاء معها أطول فترة ممكنة وازدياد شوقي كلما غابت عن ناظري، وصولا إلى عدم قدرتي على احتمال فراقها واشتعال غيرتي من أي شخص يمكن أن يراها مثلما أراها.
كلّ ما عرفته عنها خلال الموعد الأوّل، الذي اختلسته من الزمن هو اسمها. اسم شهرتها. اسم اخترعته لنفسها. أو لعلّها اخترعته من أجلي، أو لعلني من أطلقه عليها.
صافو.
لم تخبرني الكثير. فبعد هجوم القطّة اللطيف الذي شنّته عليّ لمجرّد أنني تتبّعت خطواتها وألححت في النظر إليها، وافقت ببساطة أذهلتني وأربكتني على مشاركتي احتساء القهوة. ربما لأنني لم أكن أمثّل شيئا بالنسبة إليها. ربّما كنت ظلا عابرا مرّ من خلال غيوم سمائها.
وجهها، شفتيها، نقطة من اللعاب خرجت وهي تضحك عن شيء ما قلته بدا لها طريفا، ثلاث شعرات، بالضبط ثلاث شعرات متمردات انفلتن على جبينها العريض ورسمن خطوطا عفوية متعرّجة وددت لو أغمضت عيني وقرأتها بأصابعي مثل كفيف يقرأ قصيدة شعرية بطريقة بريل، وذلك الثقب الأخضر الذي يتسع أو يضيق كلّما حرّكت ساقها.
أتراه العشق من النظرة الأولى.
ذلك الممنوع والمحرّم والمشتهى والمرغوب فيه بكلّ ما في الجوارح من قوّة.
في تلك اللحظة عشقت صافو.
أجل أنا الأرملة في الخمسين التي أصبحت عاشقة.
لقد عشقت بصدق، وتحرّكت فيّ نوازع شتى. في شكل كهرباء ساكنة، أسكتَ جسمي المشحون بالرغبات الجامحة كلّ صوت ما عدا صوت الهواء الذي تُدخله جسمها ثم تطلقه من محبسه في زفرات متباعدة.
لست أدري كيف أفسّر ذلك الشعور الكيمائي الغريب الذي يشتعل في داخلي كلما نقصت مسافة الأمان بيننا سنتيمترا واحدا.
وكأن حقلا مغناطيسيا ما قرّر أن يجعل ذرّات جسدي تتدافع بقوّة وعنف وشراسة. حتى لتكاد الكهرباء الساكنة في داخلي تلسعني بسياطها فتبرق وتشعّ وتخترق موجاتها المجنونة الفضاء ما بيننا في خيوط تشبه أذرع مجرّة مرصّعة بالمشاعر المتلألئة كالنجوم.
ماذا أعرف عنها؟
كلّ شيء تقريبا. تاريخ ميلادها، مقاس حذائها. طعامها المفضّل. مسقط رأسها. أهلها وعناوينهم. ذكرياتها ومشاريعها المستقبلية. أعرف كل الأكاذيب التي اخترعتها من أجلي. وكم أحببت كذبها.
أما تلك الشامة السوداء الصغيرة قرب خاصرتها فلم تكن كذبا. قد تكون النقطة السوداء الحقيقية في القصة كلها.
أوّل معرض فني نظّمته بعد أن عرفتها كان يحمل اسمها "صافو العاشقة والمعشوقة". وكان ناجحا، بحسب بعض نقاد الرسم الذين أرادوا أن يعرفوا سرّ هذا الوجه الجميل والابتسامة العذبة الخجول الذي يتكرّر في كلّ لوحات المعرض. ولم يلمح أحد الشبه المختفي في التفاصيل.
صافو.
يا له من اسم مجنون.
هل كان رديفا للصوفية وشقيقا للصفاء، أم صفوة من كلّ ذلك معا.
صافو.
يا لحبي المجنون.
صافو. لقد كانت تميمتي التي يحلو لي ترديدها في سرّي، وطوطمي الذي ارتبطت به روحي منذ الأزل.
لأجلها نفّذت وعدي لها، وحقّقت لها ما كانت فيه ترغب، في حركة سريعة وخاطفة، عميقا داخل قلب لم يعد يريد أن يخفق. وها أنا الآن أجلس بين الخبراء إلى الطاولة اللامع خشبهاـ أستطيع أن أرى بوضوح حركة شريط التسجيل وهو يلتف على الحكاية، كما كتبتها صافو ورسمتها بحركات سريعة على الفضاء المغلّف بالجدران الصامتة.
عندما فردتها ببطء على القماشة البيضاء باردة وهامدة مثل مجسّم خشبي، رميت حولها الطاولة والمرايا والوجوه التي أعرف والتي لا أعرف، ثم جلست أواصل الرسم بتقنية السكين ما تبقى مني ومن حبي. فانهالت الألوان مبلّلة بالأحمر البندقي على الملاءة البيضاء فيما سالت نقط من الرمادي على خدودها المكتنزة، وأنفها الصغير، وشفتاها الدقيقتان، وهالة شعرها الكستنائي المفرود دائما على كتفيها، وصدرها الذي لم يعد يهتز وينخفض إذ زيّنته بوردة ذات لون أحمر بندقي.
في تلك اللحظة التي توقّفت فيها آلة التسجيل عن الالتفاف حول صوتي المرتعش، أيقنت أنّ موت صافو لو حدث فعلا، فهو ليس في حدّ ذاته مصيبة أو كارثة. مطلقا. إنه ليس بهذا السوء، كلّ ما في الأمر أنّ انتظار اللحاق بها مضني، وأنّ التحديق في الحركة البطيئة لشعاع النور الذي ينسحب بطيئا تاركا مكانه إلى الظلام، والإصغاء للصمت الذي يعقب زقزقة عصفور في غابة كثيفة يعني الفناء بالتدريج.
وفي اللحظة التي تتوقّف فيها آلة التسجيل، لو وُجدت، عن شنق صوتي الممكن ويكفّ أشخاص اللوحة عن محاكمتي وتمييز نوع جنوني، سيمكنني البوح حينها بعشقي لامرأة صنعتها من عدمي ثمّ قتلتها دفاعا عن حرّية خلقي.
يغمرني الهدوء. لون أزرق صاف يغلّف مشاعري.
أرى الأزرق في كلّ مكان.
سيمكنني الآن، وقد توفّر لي ما يكفي من الوقت أن أنعم بالدفء والضوء وأن أنظر من النافذة، لأدرك أنني لست في حاجة لسقي أشجار الحديقة فقد تكفّلت الغيوم السخية بذلك.
بعد أن انتهيت من رسم صافو على اللوحة،يمكنني الاستسلام إلى النور المطلّ من زرقة داكنة تلوح على الجدار، سأستبدل بنرجس الحديقة الذي تتلألأ فوقه آخر قطرات المطر، الأزهار الصفراء الذابلة داخل مزهريتي الفخارية الصغيرة ذات اللون العاجي.
ويمكنني الآن، وقد انتهيت أن أنغمس في دورة حياة جديدة مثل قطرة ماء أبدية الرحلة ما بين الأرض والسماء، أو كشعاع من نور صدر عن الشمس وفاض عنها فاتصل بالموجودات وما زالت انعكاسات فيضه تتردّد منذ مليارات السنين على هباءات الوجود المعقول والممكن.

تمّت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق