7‏/10‏/2022

رجل في الثلاجة - من رواية شجرة حمراء - روضة السالمي - تونس أكتوبر 2022

 

   

    تقنع نفسك بالتخلي عن اسمك حالما تدخل مكتبك وتغلق الباب خلفك وتفتح النافذة. صيفا وشتاء تفتح النافذة. تخشى الاختناق. تحتاج إلى أن يتجدّد الهواء من حولك. تحتاج إلى أن يكون الهواء نظيفا، غير مشبع بالطاقة السلبية.

ستعطي لنفسك كل يوم اسما جديدا. لن يقمعوك. لن يقهروك. لن يحتقروك لأنك مختلف. أنت كلّ يوم شخص جديد. مرتين يوميا. من الثامنة والربع صباحا إلى منتصف النهار والربع. ومن الواحدة والربع بعد الزوال إلى الخامسة والربع مساء. أنت شخص مختلف. أنت شخص مختلف عنك. أنت لست أنت. لم تعد أنت. ولكي تهزمهم اخترع لنفسك نظاما جديدا. نظاما يكون مختلفا موازيا والأهم من كلّ شيء أن يخترق النظام. وثق بأنه سيأتي يوم ما وتخرج من الزاوية.

ستخرج من الثلاجة. ثلاجة الانتظار وقد احتفظت بكلّ نضارتك. لم تهرم، فقد مرّ الزمن بعيدا، لم تنعكس عليك خطواته. كنت بعيدا، مجمّدا تنتظر أن تطل برأسك بعد أن ينقضي كلّ شيء. ستخرج من الزاوية وقد اكتسبت مناعة وآليات مقاومة تجعلك في غنى عن النظام. لا يهم إن أعادوك إلى دورة النظام أم لا. المهم أنك لن تفقد نفسك مجددا في هذه الحياة الثانية. ومن الخامسة والربع مساء إلى الثامنة والربع من صباح اليوم الموالي أنت هو أنت.

تستطيع أن تضحك في وجوههم، وقد تردّ على تحية أحدهم، وقد يتطوّر بك الأمر أن تلقي بعض الملاحظات العابرة امعانا في التخفي، ودلالة على أنك ما تزال تحيا وقادرا على المقاومة. قد تفكّر أحيانا أنك كنت على خطئ وأن الانسياق مع النظام هو عين الصواب كي تستطيع التعامل مع دورة الحياة. كي تجد لنفسك مكانا في المؤسسة.

إلا أنك تصرّ في صمت على أن تكون البرغي الصدئ الذي يعيق دوران العجلة. وأنك الصوت النشاز الذي أعاق انسياب اللحن. قد تكون اختياراتك كلّها خاطئة. وقد يكونون غير منصفين تجاهك. لكن الحقيقة أنك لا تعرف ما أنت وما تريد أن تكون. أنت في الثلاجة عند الزاوية، تتلقى راتبا شهريا نظير الخواء الذي تحرسه، اللاشيء الأهم من قيمتك كمشروع انسان. تقبع في مكتب خاوي، تحرس علب أرشيف خاوية، وعلى المكتب أمامك هاتف لا يرن.

تحاول أن تغمض عينيك. تحسّ أقدامه تدعس جسمك، وتحسّ جسمه الدافئ يحتك بك، يختار لنفسه مكانا مريحا على صدرك، لا يعبأ بأنفاسك المتقطعة، لا يهتم لأرقك ولا لحاجتك للتنفس. إنه هنا ككل ليلة يجثم على صدرك ويدعوك للخروج معه.

تتسلل روحك خفيفة وعارية، تتبعه في الأزقة الجانبية، تنتظر ريثما ينتهي من بحثه في كومة القمامة. ثم تتبعه خفيفا رشيقا نشيطا كقط حرّ مثله. يرفع ذيله الطويل. ينظر إليك بعينيه الزرقاوين، وتتأمل انعكاس ضوء المصباح وهو يلمع كنقاط من الندى فوق فروه الأسود الحريري الطويل والناعم.

ينظر إليك برهة، يغمض عينيه ويفتحهما وكأنها لغة ثنائية الإشارات، فتح فإغماض ثم فتح وإغماض، وكأنه رمز سري يستعمل شَفرة مورْس أو منارة تشير بعينها المتغضنة إلى ظلّ أشرعة سفينة الهولندي الطائر التي اختفت ذات زمن سحيق في عرض البحر وراء سحابة كثيفة مظلمة، يستغرقك التفكير في سرّ السفينة المختفية فإذا بك وقد ألفيت نفسك وقد عدت إلى سريرك مجددا في غرفتك ذات النافذة اليتيمة المطلة على الشمال، والتي تتكدّس فيها الأوهام والمخاوف والفوضى والذكريات والنفايات.

ينظر القط في عينيك وهو يلعق قائمته اليمنى، تكاد ترى ابتسامته العريضة عرض الغرفة المعتمة وهي تتلاشى بالتدريج، وقبل أن يبلعك الظلام مجددا، وقبل أن يعود القط من حيث آتى، يخبرك بما يجب عليك فعله كي تحرر نفسك من مخاوفك وتحقق الصفاء، عليك أن تخنق الثعبان الملتف على أغصان الشجرة، حينها فقط يمكنك إيجاد السلام. وقبل أن يبتلعه الظلام من حيث انبثق يلقي إليك إحدى تعاليمه "الحياة والموت متساويان في الأهمية".   

كان أسلافنا يعتقدون أنّ الحياة موجودة في كل مكان، في الأشجار والأنهار والآبار والأحجار والحشرات وفي أي شيء. كانوا يعتقدون أن كلّ الموجودات لديها نوع من الحياة. لذلك كانوا يقدسونها، يصبغون عليها صفات من القدسية ومن النبل والطهارة، ينصتون إلى كلّ موجة فيرون فيها تجليا للمطلق للأنقى والأطهر، يرون في الشمس ما لا نرى، ويرون في القمر ما لا نرى، ويرون فيما خلق الكون والأنهار والأشجار ما لم نعد نرى أو نسمع. تلاشت الإنسانية عندما تحولنا إلى سلع معروضة متشابهة مصفوفة لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم وتسعى إلى البرهنة على أنها على قيد الحياة.

أما أنا فقد بتّ أعتقد وأنا أصارع هواجسي وكوابيسي وأحاول التملّص من الهوﹶ لأصير الأنا أنّ الحياة هي لمن استطاع إليها سبيلا. لا تقتصر على مجرّد دخول الهواء إلى رئتيك. الحياة أعقد من الموت، لذلك التعذيب بالحياة هو أشد وطأة من التعذيب بالموت.

البشر جشعون. يحبون الحياة. يحبون المفاهيم المعقدة، يحبون التفاخر بكلمات طنانة مثل دمقرطة الحياة ومكننة المشاعر واقتصاد الذكاء، ولكنهم في الحقيقة أشبه ما يكونون بالخنازير. يتبرؤون من القذارة التي تنمو في داخلهم. فداخل كل بشر توجد دودة عفنة تخترق الأنسجة وتتكاثر في صمت. القذارة تولّد القذارة، والعفن الداخلي أشد فتكا بالحياة من كلّ النفايات التي كدّستها الأجيال المتعاقبة.

تفكّر بقناعة تامة تعتمد على التجربة والملاحظة والتمحيص والتدقيق بأن أغلب البشر بما فيهم أنت إنما هم عبارة عن قطيع من خنازير الاستهلاك للمشاعر والسلع والأفكار والأنظمة. إنهم قطيع من الخنازير التي تنكر أصلها، لديهم روح وأفكار وجسد خنازير إلا أنهم يكابرون، أو يتجمّلون، لا يعترفون ببشاعتهم الداخلية. إنهم مجموعة من الخنازير المعدّة للذبح، يتمّ تسمينهم وقطع ذيولهم ووضعهم في صناديق على الرفوف، رفوف توضع على ذمة زبائن الاستهلاك السريع.

إنهم، بما فيهم أنا شخصيا بنفسي القميئة، مجرّد خنازير خانعة للنسق والنظام والسياق العام وما يمليه الوضع الراهن، خنازير وردية اللون تزوّق مظهرها الخارجي لتبدو أشدّ التصاقا بالنمط السائد، ذلك النمط الذي يتم تقديمه على أنه أوج النجاح وقمة الانصهار في معالم الحداثة الما-بعد عصر الاستهلاك، وتنتقي من الكلام أشده لمعانا كلاما مثل وقع الطبل الأجوف ينطق كلاما مفرغا من المعاني.

يا لتلك الخنازير اللطيفة رغم تشبّعها بالدهون إلا أنها ماهرة، باستثنائي، في القفز على المناصب وانتهاز الفرص والنجاح في تسلّق السلّم الوظيفي وحوز ثقة كبار المسؤولين وتقلّد مناصب مهمّة في نظام متداع يتوكأ على الفراغ. تلك الخنازير إنها منتوج هذا النسق الدائري، مثل أفعى تقضم ذيلها، والقائم على إعادة تدوير كل الأفكار السابقة وإعادتها بشكل مختلف.

تلك الخنازير المتمرّسة في تلميع كل الأنظمة بلا استثناء، يزدادون امتلاء إلى حدّ الانفجار، وكلّما تذكروا الركود الاقتصادي إلا وازدادوا لهفة على المنتجات الاستهلاكية والأفكار الاستهلاكية والروايات الاستهلاكية ونفس الأسماء اللامعة في السياسة والاقتصاد والفن والفكر والدين.

كل تلك الأشياء التي تحيط بي، أراها في شكل فقاعات طائرة لو فقأتها سيخرج منها سائل أحمر لزج دبق. البشر كما أراهم خنازير استهلاك، فقاعة هواء تطير في الهواء المكيّف، ذباب الكتروني، مصاصي دماء بأقنعة من سيليكون. الحياة ضمن فقاعات طائرة هي فخ للقبض على البشر المغضوب عليهم وعلى البشر الضالين.

تغمض عينيك وقد أقرضك القط من لدنه روحا جديدة. تحاول التذكر. ظلمة. ونور. تضغط على جفنيك. ترى في داخل رأسك تموجات درجات الطيف. أشكال وألوان. كما لو كنت قد تناولت حبوب الهلوسة. شيئا فشيئا تظهر صور مختلفة، غير مكتملة. تظهر بالتدريج، وكأنها تشق طريقا خفيا وخطا فاصلا ما بين الإبصار والعمى. تحاول اللحاق بها.

ترى نفسك تركض. تمسك في يدك شبكة، تدور حول شجرة صفصاف ضخمة، تبدو أراقها حمراء في غروب تمازجت فيه ألوان الطيف. تسمع صدى ضحكاتك وكأنها تأتي من قرار بئر عميق. ترى أغصان الصفصافة تتمايل، خيوط حريرية متدلية، ملوّنة، لامعة، ناعمة، رقيقة وشفافة، ترى اليراعات المضيئة تطير حول الشجرة. تلحق بها، خفيفا متجردا من كل الأثقال التي تكبّلك.

تتحرّك المرايا المربوطة إلى أغصان الشجرة، ترى شجرات من ظلك. هذا أنت في السن الثالثة، تحاول الجري دون أن تسقط، وهذا أنت في العاشرة، تتأرجح على الغصن، وتفكّر في التسلّق إلى أعلى.

وفجأة يتغيّر المشهد. ترى وجه أبيك المحتضر وهو يبتسم، وتسمع حفيف ثوب يمرّ على سنابل القمح، تعرف أنها جدتك، تعرفها من وقع مشيتها، رجلها العرجاء شاهدة على حضورها. تراها بثوبها زاهي الألوان تتسلق الصفصافة برشاقة قط، وتجلس على أعلى غصن، هناك حيث يطل القمر، تراها تنسج شبكة من الصوف تزينها بالخرز والريش، تراها تعلّق صائدة الأحلام، على قمة الشجرة، وعلى حجرها جلس قط يتمطى. تحس بالراحة وتستسلم للنوم، لا تنتبه إلى البول الذي صنع بركة حولك على السرير.

تحاول الإمساك بما تبقى من الحلم لكنه يغوص في اللحاف الأبيض الذي تلتف به مثل شرنقة. تتبدّد الألوان والأشكال مثل زبد على صفحة البحر. تغرق بهدوء في موجة من الألوان والأشكال، تتشكّل ثم تتباعد ثم تعود إلى التشكل من جديد. تمدّ يدك، تحاول الإمساك بها لكنها تنفلت من جديد.

الهبوط على أرض الواقع بعد التحليق عاليا في تهويمات الأحلام. يحدث ذلك بعد أن تمرّ العاصفة، ويحلّ الهدوء ببطء. يكون كلّ شيء قد تم اقتلاعه من جذوره، كلّ الأشياء قد تقوّضت وألقت بها العاصفة بعيدا. جمّعتها، وفرقتها، ونثرتها أشلاء. جعلتها تدور في الهواء، كخيط غليظ من النفايات والعوادم، ثم جعلتها العاصفة ترتطم بالأرض الصلبة أو بقاع البحر.

لا شيء يعود كما كان في السابق. تلي العاصفة لحظات من السكينة. تصفو السماء، تنقشع الغيوم، فتحسّ بطعم النجاة، تشعر وكأنك استعملت روحا جديدة، أخرجتها من الخزانة، ونضوت عنك روحك السابقة بما صاحبها من حياة، وتخففت من وزر الأحداث الماضية أصبحت شخصا جديدا، ميتا قام يتفقّد ما يمكن أن تكون عليه حياته الجديدة فتتبدى أمامك لوحة جديدة من الألوان والأشكال.

نظام جديد، ترتيب عشوائي غير متوقع. تدرك أنك لست مركز الكون، أنت ذرة عشوائية الترتيب تكونت حولها أنسجة وشرايين ومشاعر جديدة من أصل قديم موغل في القدم. لست مركز الكون لكنك أهم شخص في حياتك. تحاول أن تعقد العزم خلال هذه الحياة الجديدة على أن تكون أفضل ما تستطيع أن تكونه، تحاول أن تتعهد أمام ذاتك الغضة الآخذة بالتبلور أنك ستحاول أن تجعل من هذه الحياة الجديدة سيرورة جديرة بهذا العناء. تحاول أن تقف على قدميك أمام ذاتك الجديدة، تحاول أن تنال احترامها وأن تباركك لحظاتك القادمة. تحاول أن تختار لنفسك اسما جديرا بهذا الكون الجديد.

أشعر بأنني سفينة أشباح أسطورية متوهجة الأضواء، لا يمكنها أبداً أن ترسو في ميناء، ومحكوم عليها بالإبحار في المحيطات إلى الأبد، وعلى متنها جثث البحارة، ومقدّر عليها ألا ترسو أو تستقر في ميناء حتى تنتهي فترة التكفير عن جرائمها التي اقترفتها في حيواتها السابقة.

أذكر بضعة كلمات رسخت في ذهني، تتكرّر في داخلي كلّما استشعرت مرور موجات كهرومغناطيسية في الأفق الذي أسبح فيه: "نحن أمواجٌ من ذات البحر، نحن الأمواج، نحن البحر، لدينا جبالٌ وأنهار مختلفة، لكننا نتشارك الشمس والسماء والقمر". وكنت أفكر كم سيكون لطيفا لو تمكنت من رؤية كلّ الأقمار السابحة في حلكة الليل الطويل.

عندما أصحو، أو يخيّل لي أنني كذلك أجد صعوبة في التمييز بين ما هو حقيقي وما هو وهمي. لا أستطيع الجزم إذا ما كانت تلك الانعكاسات البصرية المشوهة قد حدثت فعلا أم أنها كانت أضغاث أحلام. كان الصباح هادئا بعد ليلة باردة، وكانت تتراقص في الغرفة المعتمة التي أخذت تستفيق إشعاعات حرارية تشبه السراب، فبدت ممدودة وممطوطة ومتموّجة كأنها قلاع من ألف ليلة وليلة أكوام النفايات وأكداس من الكتب التي احتلت غرفتي على امتداد السنوات الماضية وأشباح قطط التي تسللت إليّ ليلا تبحث عن الدفء في سريري.

وأتساءل إن كانت كل الاحداث التي عشتها في حلمي قد دارت في هذه الغرفة التي تطل نافذتها على الشمال، هذه الغرفة المظلمة والباردة التي لا يدخلها الضوء سوى مرة واحدة في اليوم، عندما تنعكس أشعة الشمس على الجدار المقابل فينفلت خيط من الضوء ويدخلها متسللا مثل لحظات السعادة المارقة إذ سرعان ما تعود الغرفة إلى عتمتها العادية وبرودتها. أشكّ في كل ما يحيط بي، في أحيان كثيرة يكون الشك أليماً ومتعباً، ولكنني حين أفكّر بأنه أكثر الأشياء التي أعيشها منطقية فإنني أتشبُّث به كطوق نجاة حتى أصل إلى قرار يستطيع أن يغيّر حياتي الحاضرة.

وقبل أن أنضو عني اللحاف تذكّرت ما قاله لي القط قبل أن يختفي رافعا ذيله ملوّحا لي به وضحكته الكبيرة ترتسم في عتمة الغرفة وتغيب بالتدريج:

-       لا تحلم وإنما عش. لا تفكر كثيرا وإنما تصرف ولا تتردد في ذلك. تذكّر أن الأمس قد ذهب وغدا قد لا يأتي مرة أخرى.

ولذلك، وفي صباح ذلك اليوم، وفي غمرة أفكاري المستديرة قرّرت أن أتزوّجها وأن أربط مصيرها بمصيري، علّني بقربها أخلص من الدوائر المفرغة، ومثلثات العشاق، والعقول المربعة، واللوالب الجهنمية. قد تقول عني بأنني حالم مجنون، وسأجيبها بأن ذلك صحيح، أنا حالم مجنون موبوء ومجرم لكنني لست الوحيد في ذلك، سأدعوها كي تنضم إليّ في هذا الجنون وأن نعيش معًا هذه اللحظات المارقة في انتظار أن ينتهي بأحدنا الحال في مكعب اسفلتي مستطيل.

ولكنها لم تقل شيئا مما سبق. وإنما حذّرتني من نبوءة حزينة. أخبرتني بما سيكون عليّ فعله كي أبحث عن نفسي وأجدها حيث أضعتها. قالت كلاما كثيرا حول طريق العودة وطقوس التطهّر نسيت أغلبه، غير أنّ أكثر ما بقي صداه يتردّد على مسمعي قولها لي:

-       دعك من شيفرة موريس، ودعك من إرسال الحمام ولا تفكّر حتى باستعمال هاتفك الجوال، وتذكّر أنني أستطيع فك شيفرات الرسائل الدخانية التي كان يطلقها الهنود الحمر. لذلك حين تصل إلى مبتغاك تذكر أنّ الدخان الطويل يعني أنك تذكّرت، والدخان القصير يعني أنّ كلّ شيء قد انتهى. وعندما تنتهي الحياة وينتهي الموت منك سأبكيك لأنني أحبك.

رجل في الثلاجة - من رواية شجرة حمراء - روضة السالمي - تونس أكتوبر 2022


6‏/10‏/2022

الوعي الحزين وطقوس العبور في فيلم قدحة لأنيس الأسود – قراءة روضة السالمي 06 – 10 – 2022

Partagé avec Public


ينفتح الفيلم على صوت البحر وفقاعات هواء تحاول أن تشق طريقها. ثم يخرج قدحة، مثل المولود الجديد، من رحم البحر محاولا التقاط أنفاسه. كان ذلك جزءا من لعبة. فقد كان صديقاه يلعبان معه بخشونة. نزعا سرواله وتقاذفاه بعيدا وحاولا اغراقه، ومع ذلك لم يغضب قدحة منهما. كانوا أصدقاء طفولة وكان ذلك اللعب فيما بينهم وحتى نشل الهواتف الجوالة والتحرّش بأجساد الفتيات على البحر وقيادة الدراجة النارية وتحدي السلطة، يعتبر جزءا من طقوس العبور نحو عالم الرجولة.
هو فيلم عن طقوس العبور، عن التحوّل، وعن المعرفة. وبما أنّ كلّ معرفة تقتضي وجود شرخ أساسي في بناء شخصية البطل، فقد أدرك قدحة، طفل الثانية عشرة عاما والذي نرى الأحداث من خلاله، في منتصف الطريق حجم الأشياء التي سلبت منه، فتحوّل من بطل انفعالي سريع الغضب ومتهوّر، إلى شخص عقلاني يمكنه أن يشق طريقه بعيدا عن وصاية البالغين ويتصرّف بعيدا عن العنف فمصير كلّ شرارة إن لم تجد ما تتمسّك به أن تخمد وتخبو شعلتها.
إلا أنّ قدحة لا يمكنه أن يتخلّص من طفولته بسهولة على الرغم من أنه مثقل بوعي موضوعي حزين للعالم الذي يعيش فيه. ورغم أنه لم يدخل إلى مدينة الملاهي التي هرب نحوها بعد أن خنقته أجواء المدرسة الخاصة التي وجد نفسه مرغما على ارتيادها، إلا أنه يساعد العامل الذي يجمع قوارير البلاستيك وكأنّه يذكّره بأبيه فبدى مبهورا به وهو يمضي مبتعدا يحمل على كتفه القوارير الفارغة مثلما يفعل بائع البالونات المتجوّل.
يعبّر قدحة بسذاجة عن وعيه الحزين بما حوله، رغم أنه لا يشارك في الفعل بل يكتفي بالمشاهدة، فأصدقائه هم الذين يسرقون الهواتف، ويقودون الدراجة، وإنما يكتفي هو بأن يكون إلى جانبهم، وحتى عندما وقع له الحادث لم يكن غاضبا، كان فقط يطلب بعضا من العناية. يعبّر قدحة بأسئلة ساذجة عما يفكّر فيه الكثيرون فهو حين يسأل مليكة في السيارة إن كانوا قد عاشوا هم أيضا ثورة، كان يضع سطرا تحت كلمة ثورة مشدودا إلى محاولة فهم ما يحيط به، وكأن الحدود بين الـ أنتم والـ نحن هي المساحة التي وجد نفسه مضطرا لأن يسبح فيها باحثا عن شاطئ أخير حتى أنه غفل عن أن يسأل عمّا حدث بجسده وفي المقابل كان فضوليا لمعرفة الآخر والأشياء المتعلّقة به، مثل سؤاله عن آلة تصفية الدمّ وعن طريقة استعمال القوس.
تختزن أمه بركانة في داخلها حزنا كبيرا وغضبا يشتد لتتفجّر حممه في شكل نوبات من الغضب على نفسها على ابنها وبالأخص على زوجها الذي هاجر خلسة الى ايطاليا على متن زورق شقّ المتوسّط، وعندما تغضب بركانة يسيل خيط من الدم من انفها. مثلما سال الدم من جرح قدحة ومن سمكة التونة التي رأى العامل يخرج أمعائها، تلك الأمعاء التي كذبوا عليه وأخبروه بأنه أجرى العملية الجراحية لأن أمعائه تشابكت.
كان لزاما على قدحة أن يتعايش مع الحضور البارز لغياب والده. ثم صار لزاما عليه أن يعيش بكلية واحدة وأن يتجاوز مراحل الغضب والانكار والاحتجاج ليصل إلى مرحلة القبول والتسليم وهي التي تجسمها اللقطة الأخيرة وهو في قاعة الانتظار في المستشفى ليطمئن على صحة أسامة. هذا الطفل الذي خدع هو الآخر فلم يكن يعلم أن أهله اشتروا كلية من شخص حيّ. ولم يكن أسامة يعرف أن ثروة والده وفقر أسرة قدحة كانت سببا ليمنح حياة جديدة.
لقد تعرّض قدحة لعدّة عمليات بتر، إذ فقد روابطه العاطفية بصورة الأب، وفقد ارتباطه العضوي بصورة الأم واهبة الحياة والتي اضطرتها الحاجة للتضحية بالجزء للحفاظ على الكل. والجزء هنا هو كلية ابنها الوحيد والكلّ هي روابط الأسرة ومبلغ من المال لسداد الديون التي تركها الأب ورائه والتفكير في مستقبله ومستقبل أخته.
كما تعرّض قدحة للانبتات فقد بترت علاقته مع محيطه الطبيعي فلم يعد بإمكانه العودة إلى بيتهم في حيّهم القديم والتسكع مع أصحاب طفولته كان لزاما عليه أن يتخلى عن كلّ شيء، وذلك ما فعله بالضبط فلقد كان حريصا في بداية الفيلم على ألا يغضب والدته أو تحدث بينهما مصادمة. ومع ذلك فقد قطع قدحة الحبل السري الذي كان يجمعه ببركانة، فهو لم يعد ذلك الصبي الذي تغسل أمّه جسده بالصابون وينام بين أحضانها.
وعندما اختلس قدحة من ثمن كليته، التي باعتها أمه خلسة، ما يمكّنه من اللحاق بوالده، حدثت بينهما المواجهة الكبرى، بين فتى يحاول أن يدخل عالم الرجولة وأمّ تحاول أن تتحصّن بابنها في مواجهة المستقبل. هي تريده أن يدرس وهو يريد أن يعمل في مجال صيد السمك. هي تريد أن تعيش في صمت وهو يريد أن يفرض ذاته ويثبت أن ما يمكن لأسامة أن يفعله، هو أيضا يمكنه فعله لو توفّرت لديه الإمكانيات. وبعد أن تشاجرا بعنف رأينا قدحة وهو يستحم بمفرده وكأنه أعلن أن لا وصاية لأحد على جسده قاطعا بذلك الحبل السري الذي كان يربطه جسديا بأمه بركانة.
لقد حدثت معركة بين قدحة وأسامة كانت فيضا من المشاعر بين الكره والحزن والخديعة، كلاهما تعرّض للخديعة، لكن الرابح الأكبر هو أسامة، فهو دائما ما يربح ويتوّج بالكؤوس، فليس من زرع في جسده عضو كمن انتزع منه ذلك العضو الحيوي، هو تحسنت حالته إلى الضعف، بينما أصبح لزاما على قدحة أن يعيش بنصف امكاناته. وكأن الفقراء لكي يعيشوا عليهم أن يتخلوا عن نصف أحلامهم ونصف امكاناتهم ونصف أعضائهم فيما يضاعف الأغنياء امكاناتهم وقدراتهم ويحققوا أحلامهم. غالبا ما يصيب الأثرياء أهدافهم، فمع القوس والسهام الجيدة يصبح من الممكن تحقيق أفضل النتائج، أما الفقراء مثل قدحة فهم مرتبطون بمدى جودة خيط المقلاع وحجم الحجارة المستعملة.
كانت بركانة تعتقد أنها ستجد معاملة أفضل بعد أن تبرعت بكلية ابنها مقابل 40 ألف دينار، ولكنها وجدت نفسها لا تمتلك مصيرها، فالبيت الذي حصلت عليه ما هو إلا بيت الخادمة والدور الذي أسند اليها إنما هو دور الخادمة وحتى تربية ابنها الوحيد قدحة فقد افتكّ منها وأصبح معزّ هو من يقرّر مصير عائلتها ومن يعاقب ويجازي. وعندما حاول معز ان يبدي بعض التواضع واحتضان قدحة مثلما يفعل مع ابنه نرى من انفعالات قدحة انه يبحث عن الحبّ الابوي الحقيقي وليس الشفقة والاحسان.
يعيش قدحة على مقربة من أسامة، بناء على رغبة معزّ رغم معارضة مليكة لوجودهم في نفس الفضاء الجغرافي لأنه يجعلها تشعر بتأنيب الضمير، ربما كان معز يرغب في البداية أن تكون العائلة تحت رعايته، أو لعله كان يرغب في أن تظل قطع الغيار على مقربة منه وأن يكبر جسد قدحة تحت ناظريه، فتراوحت معاملته لقدحة بين الشفقة أحيانا والقسوة والتعذيب أحيانا أخرى. فرغم أننا نراه يعانقه بعد شفاء أسامة إلا أننا نراه كذلك يعاقبه بشدة ويسجنه في الغرفة، ثم يوافق على تشغيله معه ويكلّفه بالأعمال الصعبة رغم معرفته بضعف جسده.
تذكّرنا صورة الأب الغائب والتي تحتفظ بها بركانة بصورة بوسيدون حامي البحارة وإله البحار بلحيته الكثة ونظرته الصارمة وهو موجود على البوابة البلورية لمقر عمل معز. وعندما يلقي معزّ بقدحة داخل الغرفة المظلمة ويحبسه هناك، ينفتح المشهد على قدحة وهو ينهض من نومه وفي يده ما يشبه الرمح المتعدد الرؤوس الذي كان يمسكه بوسايدون، ويعلن وهو يتناول طعامه أمام نظرات الجميع أنه لن يذهب إلى المدرسة مجددا وإنما يريد أن يشتغل في الصيد، ربما لأنه أراد اللحاق بوالده مع ما في البحر من دلالات. وينتهي الفيلم بمشهد العائلة الفقيرة منبوذة في قاعة الانتظار تنتظر مصيرها المرتبط بسلامة أسامة وبتقبّله للعضو المزروع في جسده.
#👏🎬🎯raoudha_selmi