10‏/6‏/2011

رقصة المطر الأخيرة


استقل سيارة أجرة, الطريق موحل, وفي السماء غيوم تنذر بمساء ماطر, السائق رجل في الثلاثين. يبدو جليا من بشرة يده السمراء, انتبه لذلك حين ضغط السائق على زرّ المذياع, في الثلاثين.. كم بقي له من العمر ليموت.. أعاد بصره إلى الطريق الموحلة, لاشيء يتغير, كلّ الطرق تتشابه. تحوّل المشهد إلى قطرة مطر صغيـــرة و باردة و هشة تنزلق بوهن على الزجاج الأمامي للسيارة. كم بقي له من الوقت ليصل. ولم ينتبه للأغنية التي ملئت السيارة موسيقى, سائق في الثلاثين و مسافر في السبعين تضمهما سيارة أجرة تسير بسرعة خمسين كيلومترا في الساعة على طريق كثيرة الأوحال. قطرات المطر تنزلق على الزجاج و على الإسفلت و على الذكريات بحيوية كبيرة تكاد تبعث على الدفء... كان الخامس والعشرين من ديسمبر من عام.. لا يهمّ التاريخ أبدا, إنّه سخيف و بلا معنى أو يكاد.
من المنار إلى سيدي بوسعيد صفقة رابحة, أكثر من خمسة دنانير, و إن كان الهرم كريما فسينفحه بالبقشيش. الجوّ ماطر, هل ستستطيع الخيول أن تجري في السباق غدا, اشترى أوراق الرهان منذ الأمس يترك السيارة قرب السياج و يدخل ميدان قصر السعيد لسباق الخيل. رقم عشرة هو المفضل لديه, يليه رقم ثمانية رغم أنّه خسر السباق الماضي. غدا يشتري عددا آخر من أوراق الرهان و في الضوضاء التي ستغشي المرصد يستعين بنصائح أصحابه. النبي محمد عليه الصلاة والسلام كان يحبّ الخيول. و ليس الرهان كالقمار. و اللعب تسليته الوحيدة في هذه الحياة. أليست الحياة لعبة و قمارا ومراهنة.

سيارات قليلة تحاول الثبات على الطريق الزلق. شرطي المرور يتسلى بقراءة أرقام السيارات الحمراء. السيارات الزرقاء يأتي دورها بعد ربع ساعة. لا رغبة لديه اليوم لاستعمال صفارته, الرشح الذي أصيب به منذ يومين يعيق تنفسه. وفي الجوارب أقدام متجمدة. لماذا عليه أن يقف في حين يسير الآخرون. و أحسّ في نفس الوقت الذي أطلق فيه تساؤله السخيف أنه يقف لأنّ عليه أن يقف بينما يسير الآخرون لأنّه عليهم ألاّ يقفوا حيث هو واقف. أضاع عليه هذا التفكير متعة قراءة أرقام السيارات الحمراء. قرر أن يعاود العدّ بعد انتهاء الإشارة الضوئية. تثاءب العجوز في السيارة. ماذا ألم نصل بعد. هل سنقضي بقية الوقت في هذه السيارة النكرة. و عاودته آلام ركبته. اللعنة على الطبيب. أيعجز أن ينقل الألم من ركبته إلى ركبة شخص آخر.. ندم على خروجه لكنه سئم كلّ شيء, سئم اللوحات الجدارية على حائط غرفة الاستقبال. الزرابي التي تكتم أنفاس خطواته المهزوزة و تثقلها. الهاتف الذي لم يعد يرن. حساء الخضر بغير ملح. سئم الصور العائلية الباهتة. وسئم صورته في المرآة, تحسس عكازه, هل أصبحت هرما إلى هذا الحدّ. و استرق نظرة إلى وجه السائق. بماذا يفكّر. لو يغلق المذياع لحظة و يبتسم لي, يهديني سيجارة و يغمرني في دفء عمره. أحتاج أن تفارقني كآبة هذا العمر.

لا أحداث خارج السيارة و الطريق و شرطي المرور و تباشير المساء الماطر, المذيع الذي يقرأ أنباء الساعة الخامسة يشعر بثقل الأيام التي تسبق النهاية, نهاية السنة, لا جديد بالمرّة.. و في العراق جوع.. ما مرّ يوم على العراق دون جوع.. وفي ليبيا الحصار و في الصومال حرب وفي أثيوبيا جوع على جوع, أشغال قمة ستنعقد, مداولات الميزانية, اقتصاد السوق, محاكمة الرئيس الأمريكي, شتاء بارد هذا العام.. ألا يصمت المذيع قليلا, ليس صحيحا كل ما قاله كذب, كلام صحف فارغ, ترهات و اختلاقات و سرقات عن قنوات أخرى. تونس بخير. العالم بخير, الذين ماتوا بخير, و الذين سيموتون بألف خير أيضا. كلّ شيء بخير الألم الوحيد في ركبتي.

قرطاج الرئاسة أضخم منطقة في البلاد, رادارات في كلّ حدب و صوب. شرطـة و حرس وعساكر. على وجه كل واحد منهم نفس السمات, ابتسامة حازمة, نظرة حازمة, وقفة حازمة, الجميع ينفذون بنفس الحزم تعليمات حازمة ودقيقة و صارمة. من النافذة نظر إليهم.. يقفون في الجوّ الماطر متماسكين و حازمين, ماذا يضرّ البلاد لو يتبرع له أحدهم بركبته بدل التي اهترأت. قصر الرئاسة بعيد عن الطريق الذي يسلكه العامة. لكن العيون مزروعة كحديقة مرصوصة الأشجار والأزهار.

توقفت السيارة فاستفاق من أفكاره.

- هل وصلنا؟

ثاني جملة ينطقها منذ أكثر من عشرين دقيقة, لم يعره السائق انتباها, كان يلعن الجوّ الماطر و هذه النقلة التعيسة. فتح غطاء السيارة. مكث أكثر من سبعة دقائق ثمّ عاد بوجه كالح. استوى على مقعده, نظر إلى الطريق أمامه, أغلق المذياع فانقطع صوت المؤذن وهو يدعو لصلاة الغروب.

- الشمعة احترقت.

- آه ماذا قلت.

صرخ فيه أن الشمعة احترقت. صرخ فيه و كأنه السبب. سبب كلّ شيء سيء – لا احتراق الشمعة فحسب. بل سوء حظه في الرهان, إخفاقه في دراستــــه. عقمه, و هزيمة العرب بدا العجوز و كأنه لم يفهم.

- لم نصل إذن..

أوشك صبر السائق على النفاذ, فوانيس الطريق تشي بسيول المطر. و الهرم على المقعد المجاور يتحسس ركبته مغرقا في صمته.

- ستة دنانير ومائة و ثمانين مليما.

بدا له للمرة الثانية أن العجوز لم يفهم فأعاد طلبه محاولا الحفاظ على هدوء أعصابه.

- رباه, ستة دنانير كاملة… فقط لو كنا وصلنا..

أسند عكازه إلى فخذه و أخذ يبحث في جيوب معطفه. بحث طويلا بيديه المرتعشتين, السائق يتنفس بعنف يحاول التماسك.

ثم اخذ يبكي كطفل فقد أمّه أو هكذا بدا للسائق.

- نسيت محفظتي في المنار.. فيها أوراقي الثبوتية و فيها مالي.. كل جراية تقاعدي... أوراق نقدية كثيرة.. لو تعيدني إلى هناك أعطيك نصف المبلغ.. بل أعطيك المبلغ كلّه.. أعدني هناك أرجوك.. أخذته نوبة السعال حتى شرق بدموعه. و تساءل لماذا خرج في هذا الوقت بالذات و تساءل ماذا كان سيجني من رؤية البحر المتوسط وهو يغتسل بالمطر البارد. ولم ينتبه كثيرا لغضب السائق الشاب وشتائمه.. خف بكاؤه, أصبح ذهنه أكثر صفاء.. أدرك أنّه لم يكن يبكي خجلا.. كانت محاولة بائسة ليجعل السائق الشاب يقترب منه قليلا. يبتســم له قليلا و يربت على كتفه المنهكة.

و صمتا فجأة, تبادلا النظرات ثمّ خرجا من السيارة. وقفا تحت الفانوس المعلّق المبلل بالمطر. انتظر أكثر من نصف ساعة ولم تمر سيارة أجرة واحدة وسألهما مرتين شرطي حراسة عن سبب توقفهما بذلك المكان ثمّ فحص بارتياب أوراق السائق وسجل رقم بطاقته و نصحهما بانتظار القطار.

آلام ركبته تعجزه عن المشي السريع وخطوات رفيقه تتجاوزه في كلّ لحظة حتى وجد نفسه وحيدا وما معه غير عمره و الألم. و حين وصل إلى المحطة ألفى القطار وقد أمضى بعيدا في اتجاه تونس البحريّة.


تونس جوان 1996

سقوط

صمت ناجي قليلا ثمّ مال نحوي و قال لي هامسا كالمعتذر:
- … أنت تعرف كم تبدّلت الأحوال.

توقّف عن الكلام ثانية، ثمّ سوّى وضع نظّارته الشمسية و عاد يسرّ لي بنفس النبرة الخافتة:

- … و أنا، بالطبع لست غبيا إلى الحدّ الذي أدع فيه الفرصة تمرّ … ثمّ إن الوقوف عند الشكليات و الأمور النسبية يعرقل التقدّم...

فقاطعته في احتجاج مكتوم:

- و لكنّك، منذ حين، كنت تؤكّد..

إلاّ أنّه أوقف بحركة رشيقة من يده، أظهرت بوضوح معدن الخاتم في إصبعه، سيل الكلمات في فمي:

- أجل قلت ذلك و قد أقول أكثر من ذلك إن توفّرت الفرصة، لكنّك تعرف الظروف… ثمّ إنّ النساء…

عاد للصمت مرّة أخرى ريثما ينتهي النادل من مسح غبار الطاولة ووضع فنجاني القهوة. حرارة الطقس لا تتناسب و نهايات الخريف.. و كنت جائعا و مفرغا.. عاريا كأشجار الخريف.. تملّيت ما حولي، المقهى نصف فارغ. الساعة على الجدار ثابتة، منذ دخلنا عند الثالثة و الرّبع. تملّكتني رغبة في الانحناء داخلي و معانقة ذاتي المتربة، و في الصمت… دخل شرطي لم يكن يرتدي زيّه الرّسمي، لكن كلّ ما فيه كان يؤكّد هويّته.. و قع خطواته، نظرته، حتى رائحة سيجارته التي سبقته. جلس في الزاوية نظر نحو الساعة مليا ثمّ عدّل في ساعته، اقترب منه نادل مبتدئ - بدا ذلك جليا من خلال انحناءته المرتعشة وهو يمسح غبار الطاولة ثمّ من خلال ارتباك أصابعه حول فنجان القهوة الساخن - و كنت ضجرا فأعادني صوت ناجي المتعرّج إلى ركني المعتاد.

- في البداية استغربت تبدّل موقف بثينة… كانت تغار منها لا بل كانت تحقد عليها.. و أنت تعرف طبعا مشاعر الحقد و الحسد التي تعتمل في نفوس الفقراء تجاه الأوفر حظّا.

حاولت مقاطعته ليشغل لي سيجارة من ولاّعته الذهبيّة التي تركها بإهمال متعمّد على الطّاولة قرب فنجان قهوته التي بدأت تبرد، لكنّه تجاهل إشاراتي و مضى يواصل سرده.

- و حين أصبحتا روحا واحدة في جسدين لم أبد اعتراضا… بسبب ثراء آمال.. ثمّ أنت تعرف كم تغيّرت الأحوال..

توقّف عن الكلام فجأة و نظر بارتياب إلى الرجل الذي جلس لتوّه إلى الطاولة المجاورة ثمّ عاد يحدّق فيّ طالبا كلّ اهتمامي. في الحقيقة كنت قد بدأت أسأم حكايته و صوته الرّكيك و هذا المقهى الذي بدأ يكتظّ بمعطوبي الحروب النفسية… لماذا يصرّ على التمادي في سخافته.. كنت آمل أنّه قد و جد لي شغلا لكنّه بدل الحديث عمّا يهمّني يصرّ على التأكيد على تغيّر الظروف و تبدّل الأحوال.. كدت أغرق ثانية في أفكاري الباهتة و لكنّه داس بحذاء صوته الهامس على رأس أفكاري المفرغة و واصل:

- .. و حين بدأت بثينة تتخلّف عن مواعيدي.. و تضررت أوضاعي الماديّة و النفسيّة.. خفت، حاولت إثبات تفهّمي بهزّ رأسي إلاّ أنّ ناجي نظر في ساعته الذّهبية و عاد يقول لي و كأن المسألة لم تعد تعنيه:

- أجل خفت.. خفت أن أفقد خطيبتي الجميلة و المثقّفة و الذّكية..

- رشف من قهوته و ابتسم في غموض و هو يقول:

- .. و أنت يا صاحبي، تدرك و لا شكّ ضرورة أن تكون لك زوجة شابّة و جميلة و مثقفة و ذكية وبالخصوص.. متفتحة.. جدّا. صمت مجددا مفسحا لي المجال هذه المرّة فسألته مجاملا:

- و ماذا فعلت ؟

- لا شيء يستحقّ الذّكر، أجابني فقط ذهبت في زيارة إلى أهلها… و … رشوتهم. فقاطعته غير مصدّق:

- كيف ؟ ألم تهددهم بفسخ الخطوبة على الأقلّ ؟

- .. بنظرة تأنيب لم أتبيّن سببها إلاّ حين قال ببطء و كأنّه يمضغ كلمات مستعصية:

- بثينة لم تكن في ذلك الوقت خطيبتي بشكل رسمي… نحن نسكن في نفس الحيّ و كنت أتساهل معهم في خلاص مشترياتهم من متجر أبي.. ثمّ إنني كنت أعطيهم من باب التودد و من حين لآخر بعض المواد الغذائية التي تكون قد انقضت مدّة صلاحيتها.

قلت فزعا:

- و لم يحدث لأحدهم شيء.. تسمم مثلا … ثمّ ألم يتفطّن أحدهم للتاريخ المنصوص عليه فوق الغلاف…؟

فأجابني بهدوء

- طبعا لا, كنت أتحايل لمحو التاريخ من على العلب… ثمّ هل سمعت في حياتك يا صاحبي عن فقير يموت جراء التسمم.. وفي الحقيقة كنت أريد أن أبدو شهما في نظر الفتاة و لحسن الحظّ لم يكتشف أحد المسألة. لا هم و لا والدي..

- و ماذا كان سيفعل والدك لو علم بالأمر ؟

- كان سيغضب حتما، فقد كان معتادا على بيع تلك المواد الفاسدة و تصريفها.. على كلّ حال استطعت أن أنال ودّهم… حتّى أنني أحسست برغبتهم غير المعلنة في تزويجي من البنت.. تصوّر.. و حين زرتهم كان ذلك لأعرف سبب غياب بثينة عن المتجر..

سألته و قد بدأ صبري في النفاذ:

- فهل أطلعوك على السبب ؟

رشف من قهوته و أجال بصره في رواد المقهى ثمّ أجابني:

- تصوّر أن ذلك كلّفني رطلين من لحم الضأن و بعض الغلال.. المهمّ أنني عرفت كلّ شيء… ذلك أن بثينة لم تكن تغيب عنّي إلاّ لأنها تتابع مع صديقتها آمال دروسا خصوصية في اللغة الإنجليزية.

قلت و قد أحكم الضيق قبضته على صدري :

- فهل كانت بثينة في حاجة إلى تلك الدروس؟

فأجابني بحدّة و كأنّ تشبثي بمعرفة التفاصيل قد ضايقه:

- طبعا لا..

ثمّ أردف و قد لطّف في نبرته:

- .. مادام الأمر لا يكلفهم شيئا و لم يكن ليكلفني نفقة فلم لا تستغل الفرصة.. خاصة وأن الأستاذ من هناك.. أتريد قهوة أخرى.. حسن.. لا بأس ستحتاجها..

في الواقع لم أستوعب حينها ملاحظته. لكنني رحبت بالقهوة.. كي أخدع جوعي على الأقل.. ثمّ لم لا أستغل أنا أيضا الفرص.. وعاد ناجي يقول بحماس :

- إنّها العولمة يا صاحبي.. وقلت في نفسي أنه باب الرّزق و الدولارات و قد فتح عل مصراعيه.. و قد يصيبنا من ممثل هؤلاء القوم خير كثير … أنت تفهمني طبعا.

قطع عليه حماسته قدوم النادل و هو يحمل طبقا فيه فنجاني القهوة الجدد. كنت أحسّ بالعطش فطلبت زجاجة ماء و أشعلت سيجارتي بولاّعته دون أن أطلب الإذن هذه المرّة.. طبعا أفهمه و كيف لا أفهم.. يوم آخر يضيع في حديث لا ينتهي.. لماذا لا أستطيع أن أكون بنفس مستوى تفاهته.. الأوضاع تبدّلت.. حقّا.. رفعت رأسي المنهكة دلالة الفهم و أنا أسترق النظر إلى حذاءه اللاّمع.. لم أنتبه لخروج الشرطي من زاويته.. وجوه احتلت جزءا من المشهد. حماسة لاعبي الورق تذوب في روائح التبـغ و العرق. الجالس إلى الطاولة التي بجوارنا يتأمل بإمعان حزين خطوطا ما داخل فنجانه.. أو يتابع نسج خيوط حكاية ما.

- و لكي لا يبدو عليّ أيّ أثر لأطماعي.. بدأ الجملة من جديد، و للمرّة الأولى نظر في عيني مباشرة وصمت عند عودة النادل بزجاجة المياه. ثمّ سكب لي كأسا نظيفة و هو يواصل كلامه الهامس وهو يأسر نظراتي المنهكة:

- .. و لكي يتسنّى لي تحقيقها على مستوى الواقع تظاهرت بالغيرة.. أذكر لك كلّ هذا لأنني أدرك أنّك تفهمني. ثمّ أنت تعرف من دون شكّ ولع النساء بالرجل الغيور.. المهمّ أنني أصرّيت على لقاء مدرّس اللّغة الإنجليزية القادم من هناك.. التفت حوله بريبة و نظر مليّا إلى الجالس قربنا و عاد يهمس لي:

- في البداية رفضت بثينة و تذرّعت بكلّ الحجج الممكنة. فزادني ذلك إصرارا.. و باختصار مارست عليها كلّ الضغوط التي يمكن أن يمارسها رجل مثلي. إلى أن رضخت و طلبت بعض الوقت لتتشاور مع آمال في المسألة و تحاول إقناعها. سكت برهة. نظر في فنجانه ثمّ عاد يقول كالآسف:

- أحسست بالانتصار حين صعدت مع بثينة سيارة آمال التي ستقلنا إلى شقّتها في ضاحية قرطاج حيث سألتقي الرجل.. إلا أن القلق داهمني حين لمحت ابتساماتهما المريبة و نظراتهما المتواطئة، وكدت لولا الخجل العدول عن مشروع تقديم خدماتي للرجل و أن أطلب إلى آمال إعادتنا إلى حيّنا..

سألته و أنا أحاول أن أبدو مهتمّا:

- المهمّ هل قابلته ؟

فطوّح برأسه كما تفعل عادة الأرامل و خبط على ركبتيه و هو يقول بحماس أنساه أن يخفض صوته:

- في حياتي لم أصادف رجلا في مثل و سامته و جاذبيته.. رجل بالفعل.. كالذين نراهم في أفلام الوسترن.. بل أفضّل منهم. طويل القامة، عريض المنكبين، كثيف الشعر فاحمه، بشرته برنزية، عيناه زرقاوان.. كلّ ما فيه يصرخ بالرجولـــة و القوّة.. لو تراه.. حتى أنني احتقرت و سامتي التي طالما تفاخرت بها.. هؤلاء البشر تفوقوا علينا في كلّ شيء حتى في الرجولة. و أنت تدرك ذلك و لا شكّ..

في الواقع لم أكن أعرف ذلك و لا سواه. لم أعد واثقا من شيء. إلاّ أنني سألته مجاملة و بهدوء مفتعل لأن الحكاية طالت أكثر من اللاّزم و لأنني ضقت ذرعا بكلّ شيء. بخيبة أملي الجديدة.. بالمقهـــى.. بالساعة الثابتة و بصاحبي الذي لا أعرفه.. أو لا أكاد

- فكيف إذن لم تقع في غرامه إحدى الفتاتين أو كلتيهما؟

- و أنا أيضا طرحت على نفسي السؤال ذاته.. صمت قليلا مطّ شفتيه و هزّ رأسه و واصل.. لكن كلّ شيء توضّح لي في ما بعد.. بعد التحيّة و التعارف.. كنّا قد جلسنا متقابلين و قد بقينا لوحدنا في غرفة الجلوس بعد أن غادرتنا الفتاتان لسبب لم اعد أذكره..

نظر إليّ و كأنّه يبحث عن الكلمة المناسبة أو كأنّه يستدرّ عطفي و تفهّمي ثمّ واصل.

- أحسست وقتها أنني في مأزق.. أنت تعرف أنني لم أنه دراستي و أن مستوى إنجليزيتي ضحل للغاية.. وبعد تبادل الابتسامات المرتبكة و لأخفي توتـــري و شعوري بالإحراج اتجهت إلى الشرفة وتلهيت بالنظر إلى الحديقة من خلال الزجاج في انتظار عودة الفتاتين..

تلفت حوله باهتمام. سكب لنفسه كوب ماء جرعه دفعة واحدة ثمّ مال صوبي أكثر و خفض صوته، لأن الجالس إلى الطاولة المجاورة بدا و كأنّه يسترق السّمع، و قال بعد أن ابتلع ريقه بصعوبة:

- .. لم أسمع خطواته و هي تقترب.. لم أشعر بوجوده تماما إلاّ حين أصبح خلفي لا تفصلنا سوى مسافة قدم أو أكثر بقليل.. فالتفت إليه راسما على فمي ابتسامة مرتبكة سرعان ما إمّحت.. كان، جوني، وهذا هو اسمه، ينظر إليّ بغرابة و هو يتقدّم نحوي بالخطوة الأخيرة.. حتى أصبحت محاصرا بين جسمه القويّ و زجاج النافذة البارد.. لم استطع التقهقر أكثر. و لم استطع الخلاص.. ربما لأنّ المفاجأة ألجمتني و شلّ عدم إدراك الموقف حركتي.. و انتابني الفزع و هو يلتصق بي أكثر فأكثر.. ثمّ وهو يضغط عليّ بكلّ ثقله.. تضاعف خوفي و ثار الرجل الذي في داخلي.. لكن بعد فوات الأوان. حاولت دفعه إلاّ أنّه كان الأقوى. حاولت التملص أو الانفلات إلاّ أنّه استطاع بسهولة أن يشلّ حركتي وأن يجهض دفاعي.. ربما بسبب المفاجأة. و ربما بسبب ضعفي أو استعداداتي النفسية و الطبيعيّة.. تركته يقبلني.. لا أدري تماما ما حصل في تلك اللّحظات. أو ربما لا أريد أن أتذكّر.. و لم أفق من صدمتي إلاّ على ضــوء عدسة التصوير و هي مصوّبة نحوي.. لحظات سريعة عشتها كأنّها الأعوام.. و لم أكن قد استفقت تماما من المفاجأة الأولى حتى جمّدني مشهد بثينة. خطيبتي، مشروع حياتي.. وهي تمسك آلة التصوير لتسجل وقائع فقداني لشرفي.. و سقوطي..

و أنا أيضا لم أكن قد أفقت تماما من ذهولي و لست أدري كيف استطاعت حنجرتي أن تفرز صوتا إنسانيّا غبيّا يسأل بلهفة.

- و هل فقدته ؟ أعني شرفك..

فأجابني بهدوء وهو يشغل سيجارة مستوردة:

- ليس تماما.. إنّها مسألة نسبيّة، تختلف فيها وجهات النظر.. ثمّ إنّ مجلاّت الجنس الأمريكية لا تصل إلى بلادنا بسهولة بسبب الرقابة وكذلك الشأن بالنسبة للانترنيت إذ ليس بامكان الجميع الدخول في المواقع الخليعة.. ثمّ إنّهم يدفعون جيّدا و بالدولار و ذلك ينعش الاقتصاد.. نعم يا صاحبي، إنّها العولمة..

سألته بفضول وقد جف ريقي

- و خطيبتك ؟

- تزوجنا طبعا.. و أنت تدرك أكثر من أيّ شخص آخر أن تبادل قلّة الشرف أفضل بكثير من تبادل قلّة ذات اليد.. ثمّ أنت تعرف أكثر من غيرك أزمة البطالة والفقر وبالخصوص مسألة النسبية. ثمّ إنّ الأحوال قد تغيرت. وفتحنا محلاّ للتصوير الفوتوغرافي.. صمت قليلا ثمّ ابتسم ابتسامة كريهة وأضاف:

- لذلك قصدتك اليوم.. نحتاج إلى أناس متكتمين. وأنت صديقي و أنا أعرف تماما بأن ظروفك سيئة، أعتقد بأنه ليس لديك خيار آخر.. فإمّا أن تعيش و إمّا أن يدركك الجنون كغيرك.. فلماذا تضيع شبابك ونضارتك في حين ان الدولارات تنتظر إشارة منك لتتدفق عليك و ببعض الروتوش والماكياج ستبدو رائعا..

لم أكن قد استفقت تماما من ذهولي حين سمعت وقع سقوط الجالس إلى الطاولة المجاورة.. كان قد مال كثيرا في اتجاهنا ليسمع الحكاية.. و لم يكن ناجي قد أنهى كلامه بعد..


تونس أكتوبر 1999

من ديوان عروة بن الورد


قلتُ لقوْمٍ ، في الكنيفِ ، ترَوّحوا ** عشِيّةَ بتنا عند ماوان ، رُزَّحِ
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ** إلى مُستراحٍ من حِمامٍ مبرَّحِ
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ** من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليَبْلُغَ عُذراً ، أو يُصِيبَ رَغِيبةً ** ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
لعلَّكمُ أن تصلُحوا بعدَما أرى ** نبات العضاه الثائب المتروح
ينوؤون بالأيدي وأفضل زادهم ** بقيّةُ لحْمٍ من جَزُورٍ مملَّح

ديوان عروة بن الورد
البحر الطويل