1‏/12‏/2014

أبناء الكراهية: كيف أقتل نفسي.. أسباب غير مرتبة وتصريحات من وحي الذاكرة

اعترافات الابنة الضالة
اعتراف رقم 2
أبناء الكراهية: كيف قتلت نفسي.. أسباب غير مرتبة وتصريحات من وحي الذاكرة
كنا نسير معا في اتجاه السوق وكان صباحا صيفيا قائضا. وكنت في الثانية والعشرين. قالت لي أختي، وهي تطعنني بلسانها "أنت تكتبين فقط إرضاء لأمي..". امتنعت بعدها عن الكتابة لأكثر من عشر سنين.. وعاهدت نفسي ألا أكتب أبدا عن أمي.. أذكر أني كنت طفلة عندما سخرت من قصيدة كتبتها أختي في مراهقتها عن قطتها الضائعة يقول مطلعها (سالت دموعي من مآقي عيوني.. عندما تذكرت أحزاني.. عندما تذكرت أشجاني...)، ويبدو أن سخريتي قتلت النص داخلها..
امتنعت كذلك عن الكتابة عندما حاولت النشر في أواخر التسعينات في جريدة الحياة الثقافية بنص عنوانه "السقوط" وكان حسن بن عثمان رئيس التحرير آنذاك أو شيئا من هذا القبيل... أمضيت أشهرا وأنا أتابع المجلة ويعلم الله كيف كنت أقتصد ثمنها وأنتظر أن أقرا نصي.. وفي الأخير استجمعت شجاعتي وذهبت إلى المجلة وقابلت حسن بن عثمان الذي أخبرني بأن عبد المجيد الربيعي وجد أن موضوع القصة غريب ولا يصلح للنشر... مازلت أحتفظ بالقصّة وقد كتب عليها عبد المجيد ملاحظاته بخطّ يده.. كنت قد  شطبت ملاحظاته باللون الأحمر في لحظة غضب حزين..
امتنعت عن كتابة مذكراتي لأن أختي المتوسطة كانت تقرأها في غيابي وتترك لي ملاحظات بخطها... مع كلمات بذيئة...
امتنعت عن النشر أول مرّة عندما حملت مجموعتي الأولى وأحلامي الغضة إلى دار سيراس للنشر.. وانتظرت أشهرا قبل أن أستجمع شجاعتي مجددا وأذهب إلى دار النشر أستفسر، في الحقيقة أشادوا بالمواضيع وبالأسلوب وفي نفس الجملة أفادوني بأن مجموعتي لا تناسب خطّهم التحريري...
امتنعت عن النشر مرّة أخرى عندما أعطيت نصوصا قصيرة ليوسف رزوقة ولم ينشرها، وهو بالمناسبة أوّل من نشر لي في التسعينات، عندما كان زميلي في معهد الصحافة وعلوم الأخبار، بعض القصائد وقصصا في ركن "أقصوصة".
امتنعت عن كتابة الرواية لأنني وفي سنّ الثانية أو الثالثة والعشرين كتبت رواية "شظايا المرآة المهشمة" في ثلاثة أيام على ما أذكر، خشية أن يضيع خيط أفكاري، وأخذتها مزهوة إلى محمد الهادي الجزيري ليقرأها، وعدت إليه بعد أسبوع أو أكثر فأخبرني أنه لم يستطع أن يتم قراءتها ولم يتجاوز الصفحة التاسعة عشر، لأنها رواية تعيسة وقال بأننا لا تنقصنا التعاسة وأعادها إلي مع بعض الملاحظات النحوية والصرفية. حاولت كتابتها مؤخرا على الكمبيوتر إلا أنني لم أستطيع أن أتجاوز الصفحة التاسعة عشر، ونشرت الفصل الأوّل منها على مدوّنتي، كطفل مشوّه ولد ميتا.
امتنعت عن قراءة نص أكتبه أمام أي أحد لأنني وفي المدة التي كنت أتردّد فيها على بيت الشعر قرأت نصا تافها عن حبّ سحاقي على الصغير أولاد حمد الذي أثنى على النص وعلى أشياء أخرى..
امتنعت عن الكتابة لأن حبيبي الأول أخذ بعض النصوص بخط يدي ولم يقرأها، ولم يعدها، ولم يتحدث عن الأمر مجدّدا، وخجلت من استعادتها منه.. أو فتح الموضوح تلميحا أو تصريحا...
امتنعت عن الكتابة عندما قرأ زوجي وقد كان خطيبي حينها نصا قصصيا بعنوان "للذاكرة رائحة ذلك الجسد" وقدّر بأنني أتحدّث عن تجربة شخصية..
امتنعت عن الكتابة حين مسحت ذاكرة الكمبيوتر نصوصا عديدة.. لم أستطع استعادتها وقضيت وقتا طويلا حتى أقنع نفسي أنه بإمكاني كتابة نصوص غيرها...
امتنعت عن الكتابة لأنني نشرت في سن الحادية والعشرين تقريبا نصا بعنوان "الديناصور يكتب الوصية الأخيرة" في مجلة الملاحظ لصاحبها أبو بكر الصغير الذي احتفظ بعدّة نصوص بخط يدي حيث لم أكن أملك آنذاك ثمن نسخها ضوئيا فسلمتها إياه لينشرها.. ولم يفعل.. وخجلت من أطلب منه مخطوطاتي.. وعن النصّ المنشور قالت أخت صديقتي بأنه مقرف وفيه كثير من الأخطاء الإملائية وتساءلت كيف لفتاة أن تكتب أشياء مثل تلك..
امتنعت طويلا عن الكتابة والنشر في الفايسبوك لأن لا أحد يقرأ لي.. ثم اكتشفت أن هنالك من يقرأ خلسة، ويذهب دون أن يترك تعليقا.. ثم أقنعت نفسي بأنه علي أن أنشر للريح ربما، للسماء، للجن، أو للملائكة، لكل من يخطر على باله أن يقرأ ويمرّ... ولا يهم إن وجدت أختي بأن نصوصي لغتها سقيمة وأنني أتطاول على اللغة...
امتنعت عن الكتابة زمنا طويلا، وزمنا متقطعا.. عدت إليها.. ثم انقطعت.. ثم عدت..
نشرت في جريدة الصحافة، وجريدة الفينيق الأردنية... مازلت أحتفظ بالأعداد التي أرسلت لي كلّها، أفردها بين السنة والأخرى لأذكر أنني نشرت فعلا..
نشرت أوّل ما نشرت قصائد ركيكة، وقصصا تافهة وبلا قيمة أدبية في جريدة الصحافة، والفينيق، وموقع القصة العربية لصاحبها جبير المليحان، وموقع القصة العراقية، الذي لسبب ما لم أعد أجده في الانترنات، ونشر لي مؤخر كمال العيادي نصا قصيرا في موقع دروب، ونشر لي أيمن الجندي نصا في المصري اليوم وتمكنت من إصدار مجموعة قصصية الكترونية ومجموعة مسرحية للأطفال الكترونية عن دار ناشري للنشر.
فزت سنة 1997 عن قصة "قرف" بجائزة كاتبات البحر الأبيض المتوسط ولست أدري ما حدث بعد ذلك فلم أستلم أي جائزة. شعرت بالفخر عندما هنأني أستاذي صادق الحمامي بفوزي، وكان يقود سيارته حين سمع الخبر على إذاعة تونس الدولية. كما ومكنت من قراءة الخبر المكتوب من عدّة أسطر على أحدى الجرائد المحلية.. واتصلت بمؤسسة الكريديف آنذك وكانت الزميلة الصحفية شادية خذير تعمل هناك، وكنت قضيت قرابة أسبوع تربص في الكريديف، وخرجت منه ذات أمسية دون أن أنهي عملي لسبب لا أذكره بالضبط، ولم أرجع إلى ذلك المكان مجددا ولم أنهي التربّص، وأفادتني أن عروسية النالوتي تريدني أن أحذف بعض الجمل التي تحوي عبارات نابية. وبنزق الشباب رفضت ذلك. ومن يومها لم أسمع شيئا عن الجائزة، ومع مرور الزمن بت أشك في موضوع فوزي برمّته.
وكتبت سنة 2009 ثلاث مسرحيا للأطفال في ظرف أسبوع، كانت أوّل مرة أكتب مسرحية، وكنت أحتاج إلى مال الجائزة، وفزت بالمركز الأوّل، ونلت 5 آلاف دينار. أصرت أختي على الحضور يوم تسلّم الجائزة.. واقترضت مني نصفها حالما تسلمّتها...
روضة السالمي، تونس، 01 ديسمبر 2014

أبناء الكراهية: كيف قتلت أبي

اعترافات الابنة الضالة
اعتراف رقم 1
أبناء الكراهية: كيف قتلت أبي

طول عمري وأنا أنتظر موته.. ولكنه في الحقيقة كان ميتا قبل أن يولد.. وكذلك كنّا نحن.. فقد أعطانا الحياة والموت في نفس الوقت..
مات أوّل مرّة عندما كان عمري أربع أو خمس سنوات. كنت أنظر إليه يشرب شيئا، لا أذكر ما هو، قدّمته له أمي راجفة في الغرفة المظلمة الضيقة.. بعد كلّ هذه السنوات، يمكنني أن أرى المشهد بأكمله.. وأذكر تلك اللحظة التي لمعت فيها فكرة في ذهني الصغير فغطت بنورها على كامل المشهد.. في تلك اللحظة الفارقة وكطفل في تلك السنّ قدّرت أن الذي أمامي وببساطة شديدة ليس أبي، وأن أبي الحقيقي مات في ليبيا، حيث سافر خلسة، وأن هذا الشخص الذي أمامي إنما هو محتال استغل موت أبي أو ربما قتله وانتحل شخصيته ليعيش بيننا، ليسرق منا شيئا ثمينا.. وفي تلك اللحظات الخاطفة اخترقت ذهني فكرة مفادها أنه ربّما كنا نحن الكنز الذي خطّط ليسرقه ويقتلنا... وقدّرت أنه عليّ أن أحتفظ بهذا الاكتشاف في داخلي وألا أخبر به أحدا ولا حتى أمي أو أخواتي، وأنه علي أن أتصرّف معه وكأنه أبي.. وكأنني لا أعرف شيئا عن هذا السرّ الخطير..
وعلى امتداد عمره المديد نجح أبي في قتلنا كلنا.. ورغم سنوات الموت الطويلة التي قضيناها معه فقد تمكّنا بشكل أو بآخر أن نعيش بطريقة ما نحن أيضا.. بعد تلك الحادثة الأولى مات أبي عدّة مرات.. مرات تتجاوز الآلاف أو الملايين ربما.. كان يموت عندما أنظر إليه.. أو أفكر فيه.. عندما يسعل ويبصق ويرمي أعقاب السجائر على الأرضية التي نظّفتها أمي للتوّ.. كان يموت وهو يشدها من شعرها ويضرب رأسها بالجدار..
وحتى عندما يحنو على القطط المتشرّدة كان يموت أيضا.. ومات يوم أمسك أختي من رقبتها وجرّها عشر درجات في السلّم الخشبي الذي أصدر صوتا مخنوقا وأنينا.. ومات كذلك عندما رمى صحن الطعام وسال المرق على الجدار المتشقّق.. وحتى عندما طلّق أمي غيابيا وهي في الرابعة والستين من العمر الرذيل كان ميتا بالفعل..
لم أكن أقتله.. كان فقط يموت. وبصورة أدقّ كان يخرج من المشهد. يخرج من بؤرة الضوء التي تسلّطها عليه عدسة ما.. كان يموت كلّ لحظة يمرّ الهواء فيها إلى رئتيه.. ويموت ونحن نسمع صدى ضحكاته المدوّية في الزقاق.. أو عندما يسب الجلالة لسبب أو لغير سبب وما كان أكثر ذلك.. أو وهو يحكي قصصا مختلقة عن بطولاته المزعومة... كان ميتا ببساطة..
كان يموت عندما يدخل البيت ويفرض الصمت والجمود على الجميع.. لا حركة.. لا كلمة، لا التفافة، لا حتى الدخول إلى الحمام.. لا وجود.. كنا ظلاله المجمّدة.. كنا ارتطام ضوء بمكوّنات صورة فوتوغرافية باهتة.. كنا مشهدا متوقّفا من شريط سينمائي بالأبيض والأسود عليه خربشات.. وكان يموت وهو يمضغ طعامه بضجة وسط صمتنا المفروض.. وعندما يشخر.. أو يتبول.. وحتى عندما يتغوّط ويترك المرحاض ملوّثا عن قصد كان يموت أيضا.. وعندما يعود إلى البيت في أي وقت يحلو له.. أو يعترضنا فجأة ونحن في طريقنا إلى المدرسة أو عائدين منها كان يموت.. وكنت أموت كلّ يوم عيد لأنني أضطر لأن أقبّله من خدّه البارد الحليق حديثا وتصدمني رائحة جلده الميت..
لم يمت أبي إلى الآن... طول عمري وأنا أنتظر موته لا لشيء سوى لأثبت لنفسي أنه كان ميتا وأنني كنت على حقّ.. وأن حياته أو موته عندي سيان... وأن الأموات حتى وإن أصروا ليسوا سوى أموات.. وأنني رغم كلّ شيء أشبهه في كلّ شيء.. ومثله تماما تمكّنت طيلة كلّ هذه السنوات من قتلي.. وقتل أمي.. وقتل الجميع.. فالقتل بالغياب هو لعبتنا المفضّلة في عائلة الكراهية..
  روضة السالمي، تونس، 01 ديسمبر 2014