1‏/12‏/2014

أبناء الكراهية: كيف قتلت أبي

اعترافات الابنة الضالة
اعتراف رقم 1
أبناء الكراهية: كيف قتلت أبي

طول عمري وأنا أنتظر موته.. ولكنه في الحقيقة كان ميتا قبل أن يولد.. وكذلك كنّا نحن.. فقد أعطانا الحياة والموت في نفس الوقت..
مات أوّل مرّة عندما كان عمري أربع أو خمس سنوات. كنت أنظر إليه يشرب شيئا، لا أذكر ما هو، قدّمته له أمي راجفة في الغرفة المظلمة الضيقة.. بعد كلّ هذه السنوات، يمكنني أن أرى المشهد بأكمله.. وأذكر تلك اللحظة التي لمعت فيها فكرة في ذهني الصغير فغطت بنورها على كامل المشهد.. في تلك اللحظة الفارقة وكطفل في تلك السنّ قدّرت أن الذي أمامي وببساطة شديدة ليس أبي، وأن أبي الحقيقي مات في ليبيا، حيث سافر خلسة، وأن هذا الشخص الذي أمامي إنما هو محتال استغل موت أبي أو ربما قتله وانتحل شخصيته ليعيش بيننا، ليسرق منا شيئا ثمينا.. وفي تلك اللحظات الخاطفة اخترقت ذهني فكرة مفادها أنه ربّما كنا نحن الكنز الذي خطّط ليسرقه ويقتلنا... وقدّرت أنه عليّ أن أحتفظ بهذا الاكتشاف في داخلي وألا أخبر به أحدا ولا حتى أمي أو أخواتي، وأنه علي أن أتصرّف معه وكأنه أبي.. وكأنني لا أعرف شيئا عن هذا السرّ الخطير..
وعلى امتداد عمره المديد نجح أبي في قتلنا كلنا.. ورغم سنوات الموت الطويلة التي قضيناها معه فقد تمكّنا بشكل أو بآخر أن نعيش بطريقة ما نحن أيضا.. بعد تلك الحادثة الأولى مات أبي عدّة مرات.. مرات تتجاوز الآلاف أو الملايين ربما.. كان يموت عندما أنظر إليه.. أو أفكر فيه.. عندما يسعل ويبصق ويرمي أعقاب السجائر على الأرضية التي نظّفتها أمي للتوّ.. كان يموت وهو يشدها من شعرها ويضرب رأسها بالجدار..
وحتى عندما يحنو على القطط المتشرّدة كان يموت أيضا.. ومات يوم أمسك أختي من رقبتها وجرّها عشر درجات في السلّم الخشبي الذي أصدر صوتا مخنوقا وأنينا.. ومات كذلك عندما رمى صحن الطعام وسال المرق على الجدار المتشقّق.. وحتى عندما طلّق أمي غيابيا وهي في الرابعة والستين من العمر الرذيل كان ميتا بالفعل..
لم أكن أقتله.. كان فقط يموت. وبصورة أدقّ كان يخرج من المشهد. يخرج من بؤرة الضوء التي تسلّطها عليه عدسة ما.. كان يموت كلّ لحظة يمرّ الهواء فيها إلى رئتيه.. ويموت ونحن نسمع صدى ضحكاته المدوّية في الزقاق.. أو عندما يسب الجلالة لسبب أو لغير سبب وما كان أكثر ذلك.. أو وهو يحكي قصصا مختلقة عن بطولاته المزعومة... كان ميتا ببساطة..
كان يموت عندما يدخل البيت ويفرض الصمت والجمود على الجميع.. لا حركة.. لا كلمة، لا التفافة، لا حتى الدخول إلى الحمام.. لا وجود.. كنا ظلاله المجمّدة.. كنا ارتطام ضوء بمكوّنات صورة فوتوغرافية باهتة.. كنا مشهدا متوقّفا من شريط سينمائي بالأبيض والأسود عليه خربشات.. وكان يموت وهو يمضغ طعامه بضجة وسط صمتنا المفروض.. وعندما يشخر.. أو يتبول.. وحتى عندما يتغوّط ويترك المرحاض ملوّثا عن قصد كان يموت أيضا.. وعندما يعود إلى البيت في أي وقت يحلو له.. أو يعترضنا فجأة ونحن في طريقنا إلى المدرسة أو عائدين منها كان يموت.. وكنت أموت كلّ يوم عيد لأنني أضطر لأن أقبّله من خدّه البارد الحليق حديثا وتصدمني رائحة جلده الميت..
لم يمت أبي إلى الآن... طول عمري وأنا أنتظر موته لا لشيء سوى لأثبت لنفسي أنه كان ميتا وأنني كنت على حقّ.. وأن حياته أو موته عندي سيان... وأن الأموات حتى وإن أصروا ليسوا سوى أموات.. وأنني رغم كلّ شيء أشبهه في كلّ شيء.. ومثله تماما تمكّنت طيلة كلّ هذه السنوات من قتلي.. وقتل أمي.. وقتل الجميع.. فالقتل بالغياب هو لعبتنا المفضّلة في عائلة الكراهية..
  روضة السالمي، تونس، 01 ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق