6‏/10‏/2022

الوعي الحزين وطقوس العبور في فيلم قدحة لأنيس الأسود – قراءة روضة السالمي 06 – 10 – 2022

Partagé avec Public


ينفتح الفيلم على صوت البحر وفقاعات هواء تحاول أن تشق طريقها. ثم يخرج قدحة، مثل المولود الجديد، من رحم البحر محاولا التقاط أنفاسه. كان ذلك جزءا من لعبة. فقد كان صديقاه يلعبان معه بخشونة. نزعا سرواله وتقاذفاه بعيدا وحاولا اغراقه، ومع ذلك لم يغضب قدحة منهما. كانوا أصدقاء طفولة وكان ذلك اللعب فيما بينهم وحتى نشل الهواتف الجوالة والتحرّش بأجساد الفتيات على البحر وقيادة الدراجة النارية وتحدي السلطة، يعتبر جزءا من طقوس العبور نحو عالم الرجولة.
هو فيلم عن طقوس العبور، عن التحوّل، وعن المعرفة. وبما أنّ كلّ معرفة تقتضي وجود شرخ أساسي في بناء شخصية البطل، فقد أدرك قدحة، طفل الثانية عشرة عاما والذي نرى الأحداث من خلاله، في منتصف الطريق حجم الأشياء التي سلبت منه، فتحوّل من بطل انفعالي سريع الغضب ومتهوّر، إلى شخص عقلاني يمكنه أن يشق طريقه بعيدا عن وصاية البالغين ويتصرّف بعيدا عن العنف فمصير كلّ شرارة إن لم تجد ما تتمسّك به أن تخمد وتخبو شعلتها.
إلا أنّ قدحة لا يمكنه أن يتخلّص من طفولته بسهولة على الرغم من أنه مثقل بوعي موضوعي حزين للعالم الذي يعيش فيه. ورغم أنه لم يدخل إلى مدينة الملاهي التي هرب نحوها بعد أن خنقته أجواء المدرسة الخاصة التي وجد نفسه مرغما على ارتيادها، إلا أنه يساعد العامل الذي يجمع قوارير البلاستيك وكأنّه يذكّره بأبيه فبدى مبهورا به وهو يمضي مبتعدا يحمل على كتفه القوارير الفارغة مثلما يفعل بائع البالونات المتجوّل.
يعبّر قدحة بسذاجة عن وعيه الحزين بما حوله، رغم أنه لا يشارك في الفعل بل يكتفي بالمشاهدة، فأصدقائه هم الذين يسرقون الهواتف، ويقودون الدراجة، وإنما يكتفي هو بأن يكون إلى جانبهم، وحتى عندما وقع له الحادث لم يكن غاضبا، كان فقط يطلب بعضا من العناية. يعبّر قدحة بأسئلة ساذجة عما يفكّر فيه الكثيرون فهو حين يسأل مليكة في السيارة إن كانوا قد عاشوا هم أيضا ثورة، كان يضع سطرا تحت كلمة ثورة مشدودا إلى محاولة فهم ما يحيط به، وكأن الحدود بين الـ أنتم والـ نحن هي المساحة التي وجد نفسه مضطرا لأن يسبح فيها باحثا عن شاطئ أخير حتى أنه غفل عن أن يسأل عمّا حدث بجسده وفي المقابل كان فضوليا لمعرفة الآخر والأشياء المتعلّقة به، مثل سؤاله عن آلة تصفية الدمّ وعن طريقة استعمال القوس.
تختزن أمه بركانة في داخلها حزنا كبيرا وغضبا يشتد لتتفجّر حممه في شكل نوبات من الغضب على نفسها على ابنها وبالأخص على زوجها الذي هاجر خلسة الى ايطاليا على متن زورق شقّ المتوسّط، وعندما تغضب بركانة يسيل خيط من الدم من انفها. مثلما سال الدم من جرح قدحة ومن سمكة التونة التي رأى العامل يخرج أمعائها، تلك الأمعاء التي كذبوا عليه وأخبروه بأنه أجرى العملية الجراحية لأن أمعائه تشابكت.
كان لزاما على قدحة أن يتعايش مع الحضور البارز لغياب والده. ثم صار لزاما عليه أن يعيش بكلية واحدة وأن يتجاوز مراحل الغضب والانكار والاحتجاج ليصل إلى مرحلة القبول والتسليم وهي التي تجسمها اللقطة الأخيرة وهو في قاعة الانتظار في المستشفى ليطمئن على صحة أسامة. هذا الطفل الذي خدع هو الآخر فلم يكن يعلم أن أهله اشتروا كلية من شخص حيّ. ولم يكن أسامة يعرف أن ثروة والده وفقر أسرة قدحة كانت سببا ليمنح حياة جديدة.
لقد تعرّض قدحة لعدّة عمليات بتر، إذ فقد روابطه العاطفية بصورة الأب، وفقد ارتباطه العضوي بصورة الأم واهبة الحياة والتي اضطرتها الحاجة للتضحية بالجزء للحفاظ على الكل. والجزء هنا هو كلية ابنها الوحيد والكلّ هي روابط الأسرة ومبلغ من المال لسداد الديون التي تركها الأب ورائه والتفكير في مستقبله ومستقبل أخته.
كما تعرّض قدحة للانبتات فقد بترت علاقته مع محيطه الطبيعي فلم يعد بإمكانه العودة إلى بيتهم في حيّهم القديم والتسكع مع أصحاب طفولته كان لزاما عليه أن يتخلى عن كلّ شيء، وذلك ما فعله بالضبط فلقد كان حريصا في بداية الفيلم على ألا يغضب والدته أو تحدث بينهما مصادمة. ومع ذلك فقد قطع قدحة الحبل السري الذي كان يجمعه ببركانة، فهو لم يعد ذلك الصبي الذي تغسل أمّه جسده بالصابون وينام بين أحضانها.
وعندما اختلس قدحة من ثمن كليته، التي باعتها أمه خلسة، ما يمكّنه من اللحاق بوالده، حدثت بينهما المواجهة الكبرى، بين فتى يحاول أن يدخل عالم الرجولة وأمّ تحاول أن تتحصّن بابنها في مواجهة المستقبل. هي تريده أن يدرس وهو يريد أن يعمل في مجال صيد السمك. هي تريد أن تعيش في صمت وهو يريد أن يفرض ذاته ويثبت أن ما يمكن لأسامة أن يفعله، هو أيضا يمكنه فعله لو توفّرت لديه الإمكانيات. وبعد أن تشاجرا بعنف رأينا قدحة وهو يستحم بمفرده وكأنه أعلن أن لا وصاية لأحد على جسده قاطعا بذلك الحبل السري الذي كان يربطه جسديا بأمه بركانة.
لقد حدثت معركة بين قدحة وأسامة كانت فيضا من المشاعر بين الكره والحزن والخديعة، كلاهما تعرّض للخديعة، لكن الرابح الأكبر هو أسامة، فهو دائما ما يربح ويتوّج بالكؤوس، فليس من زرع في جسده عضو كمن انتزع منه ذلك العضو الحيوي، هو تحسنت حالته إلى الضعف، بينما أصبح لزاما على قدحة أن يعيش بنصف امكاناته. وكأن الفقراء لكي يعيشوا عليهم أن يتخلوا عن نصف أحلامهم ونصف امكاناتهم ونصف أعضائهم فيما يضاعف الأغنياء امكاناتهم وقدراتهم ويحققوا أحلامهم. غالبا ما يصيب الأثرياء أهدافهم، فمع القوس والسهام الجيدة يصبح من الممكن تحقيق أفضل النتائج، أما الفقراء مثل قدحة فهم مرتبطون بمدى جودة خيط المقلاع وحجم الحجارة المستعملة.
كانت بركانة تعتقد أنها ستجد معاملة أفضل بعد أن تبرعت بكلية ابنها مقابل 40 ألف دينار، ولكنها وجدت نفسها لا تمتلك مصيرها، فالبيت الذي حصلت عليه ما هو إلا بيت الخادمة والدور الذي أسند اليها إنما هو دور الخادمة وحتى تربية ابنها الوحيد قدحة فقد افتكّ منها وأصبح معزّ هو من يقرّر مصير عائلتها ومن يعاقب ويجازي. وعندما حاول معز ان يبدي بعض التواضع واحتضان قدحة مثلما يفعل مع ابنه نرى من انفعالات قدحة انه يبحث عن الحبّ الابوي الحقيقي وليس الشفقة والاحسان.
يعيش قدحة على مقربة من أسامة، بناء على رغبة معزّ رغم معارضة مليكة لوجودهم في نفس الفضاء الجغرافي لأنه يجعلها تشعر بتأنيب الضمير، ربما كان معز يرغب في البداية أن تكون العائلة تحت رعايته، أو لعله كان يرغب في أن تظل قطع الغيار على مقربة منه وأن يكبر جسد قدحة تحت ناظريه، فتراوحت معاملته لقدحة بين الشفقة أحيانا والقسوة والتعذيب أحيانا أخرى. فرغم أننا نراه يعانقه بعد شفاء أسامة إلا أننا نراه كذلك يعاقبه بشدة ويسجنه في الغرفة، ثم يوافق على تشغيله معه ويكلّفه بالأعمال الصعبة رغم معرفته بضعف جسده.
تذكّرنا صورة الأب الغائب والتي تحتفظ بها بركانة بصورة بوسيدون حامي البحارة وإله البحار بلحيته الكثة ونظرته الصارمة وهو موجود على البوابة البلورية لمقر عمل معز. وعندما يلقي معزّ بقدحة داخل الغرفة المظلمة ويحبسه هناك، ينفتح المشهد على قدحة وهو ينهض من نومه وفي يده ما يشبه الرمح المتعدد الرؤوس الذي كان يمسكه بوسايدون، ويعلن وهو يتناول طعامه أمام نظرات الجميع أنه لن يذهب إلى المدرسة مجددا وإنما يريد أن يشتغل في الصيد، ربما لأنه أراد اللحاق بوالده مع ما في البحر من دلالات. وينتهي الفيلم بمشهد العائلة الفقيرة منبوذة في قاعة الانتظار تنتظر مصيرها المرتبط بسلامة أسامة وبتقبّله للعضو المزروع في جسده.
#👏🎬🎯raoudha_selmi