10‏/6‏/2011

رقصة المطر الأخيرة


استقل سيارة أجرة, الطريق موحل, وفي السماء غيوم تنذر بمساء ماطر, السائق رجل في الثلاثين. يبدو جليا من بشرة يده السمراء, انتبه لذلك حين ضغط السائق على زرّ المذياع, في الثلاثين.. كم بقي له من العمر ليموت.. أعاد بصره إلى الطريق الموحلة, لاشيء يتغير, كلّ الطرق تتشابه. تحوّل المشهد إلى قطرة مطر صغيـــرة و باردة و هشة تنزلق بوهن على الزجاج الأمامي للسيارة. كم بقي له من الوقت ليصل. ولم ينتبه للأغنية التي ملئت السيارة موسيقى, سائق في الثلاثين و مسافر في السبعين تضمهما سيارة أجرة تسير بسرعة خمسين كيلومترا في الساعة على طريق كثيرة الأوحال. قطرات المطر تنزلق على الزجاج و على الإسفلت و على الذكريات بحيوية كبيرة تكاد تبعث على الدفء... كان الخامس والعشرين من ديسمبر من عام.. لا يهمّ التاريخ أبدا, إنّه سخيف و بلا معنى أو يكاد.
من المنار إلى سيدي بوسعيد صفقة رابحة, أكثر من خمسة دنانير, و إن كان الهرم كريما فسينفحه بالبقشيش. الجوّ ماطر, هل ستستطيع الخيول أن تجري في السباق غدا, اشترى أوراق الرهان منذ الأمس يترك السيارة قرب السياج و يدخل ميدان قصر السعيد لسباق الخيل. رقم عشرة هو المفضل لديه, يليه رقم ثمانية رغم أنّه خسر السباق الماضي. غدا يشتري عددا آخر من أوراق الرهان و في الضوضاء التي ستغشي المرصد يستعين بنصائح أصحابه. النبي محمد عليه الصلاة والسلام كان يحبّ الخيول. و ليس الرهان كالقمار. و اللعب تسليته الوحيدة في هذه الحياة. أليست الحياة لعبة و قمارا ومراهنة.

سيارات قليلة تحاول الثبات على الطريق الزلق. شرطي المرور يتسلى بقراءة أرقام السيارات الحمراء. السيارات الزرقاء يأتي دورها بعد ربع ساعة. لا رغبة لديه اليوم لاستعمال صفارته, الرشح الذي أصيب به منذ يومين يعيق تنفسه. وفي الجوارب أقدام متجمدة. لماذا عليه أن يقف في حين يسير الآخرون. و أحسّ في نفس الوقت الذي أطلق فيه تساؤله السخيف أنه يقف لأنّ عليه أن يقف بينما يسير الآخرون لأنّه عليهم ألاّ يقفوا حيث هو واقف. أضاع عليه هذا التفكير متعة قراءة أرقام السيارات الحمراء. قرر أن يعاود العدّ بعد انتهاء الإشارة الضوئية. تثاءب العجوز في السيارة. ماذا ألم نصل بعد. هل سنقضي بقية الوقت في هذه السيارة النكرة. و عاودته آلام ركبته. اللعنة على الطبيب. أيعجز أن ينقل الألم من ركبته إلى ركبة شخص آخر.. ندم على خروجه لكنه سئم كلّ شيء, سئم اللوحات الجدارية على حائط غرفة الاستقبال. الزرابي التي تكتم أنفاس خطواته المهزوزة و تثقلها. الهاتف الذي لم يعد يرن. حساء الخضر بغير ملح. سئم الصور العائلية الباهتة. وسئم صورته في المرآة, تحسس عكازه, هل أصبحت هرما إلى هذا الحدّ. و استرق نظرة إلى وجه السائق. بماذا يفكّر. لو يغلق المذياع لحظة و يبتسم لي, يهديني سيجارة و يغمرني في دفء عمره. أحتاج أن تفارقني كآبة هذا العمر.

لا أحداث خارج السيارة و الطريق و شرطي المرور و تباشير المساء الماطر, المذيع الذي يقرأ أنباء الساعة الخامسة يشعر بثقل الأيام التي تسبق النهاية, نهاية السنة, لا جديد بالمرّة.. و في العراق جوع.. ما مرّ يوم على العراق دون جوع.. وفي ليبيا الحصار و في الصومال حرب وفي أثيوبيا جوع على جوع, أشغال قمة ستنعقد, مداولات الميزانية, اقتصاد السوق, محاكمة الرئيس الأمريكي, شتاء بارد هذا العام.. ألا يصمت المذيع قليلا, ليس صحيحا كل ما قاله كذب, كلام صحف فارغ, ترهات و اختلاقات و سرقات عن قنوات أخرى. تونس بخير. العالم بخير, الذين ماتوا بخير, و الذين سيموتون بألف خير أيضا. كلّ شيء بخير الألم الوحيد في ركبتي.

قرطاج الرئاسة أضخم منطقة في البلاد, رادارات في كلّ حدب و صوب. شرطـة و حرس وعساكر. على وجه كل واحد منهم نفس السمات, ابتسامة حازمة, نظرة حازمة, وقفة حازمة, الجميع ينفذون بنفس الحزم تعليمات حازمة ودقيقة و صارمة. من النافذة نظر إليهم.. يقفون في الجوّ الماطر متماسكين و حازمين, ماذا يضرّ البلاد لو يتبرع له أحدهم بركبته بدل التي اهترأت. قصر الرئاسة بعيد عن الطريق الذي يسلكه العامة. لكن العيون مزروعة كحديقة مرصوصة الأشجار والأزهار.

توقفت السيارة فاستفاق من أفكاره.

- هل وصلنا؟

ثاني جملة ينطقها منذ أكثر من عشرين دقيقة, لم يعره السائق انتباها, كان يلعن الجوّ الماطر و هذه النقلة التعيسة. فتح غطاء السيارة. مكث أكثر من سبعة دقائق ثمّ عاد بوجه كالح. استوى على مقعده, نظر إلى الطريق أمامه, أغلق المذياع فانقطع صوت المؤذن وهو يدعو لصلاة الغروب.

- الشمعة احترقت.

- آه ماذا قلت.

صرخ فيه أن الشمعة احترقت. صرخ فيه و كأنه السبب. سبب كلّ شيء سيء – لا احتراق الشمعة فحسب. بل سوء حظه في الرهان, إخفاقه في دراستــــه. عقمه, و هزيمة العرب بدا العجوز و كأنه لم يفهم.

- لم نصل إذن..

أوشك صبر السائق على النفاذ, فوانيس الطريق تشي بسيول المطر. و الهرم على المقعد المجاور يتحسس ركبته مغرقا في صمته.

- ستة دنانير ومائة و ثمانين مليما.

بدا له للمرة الثانية أن العجوز لم يفهم فأعاد طلبه محاولا الحفاظ على هدوء أعصابه.

- رباه, ستة دنانير كاملة… فقط لو كنا وصلنا..

أسند عكازه إلى فخذه و أخذ يبحث في جيوب معطفه. بحث طويلا بيديه المرتعشتين, السائق يتنفس بعنف يحاول التماسك.

ثم اخذ يبكي كطفل فقد أمّه أو هكذا بدا للسائق.

- نسيت محفظتي في المنار.. فيها أوراقي الثبوتية و فيها مالي.. كل جراية تقاعدي... أوراق نقدية كثيرة.. لو تعيدني إلى هناك أعطيك نصف المبلغ.. بل أعطيك المبلغ كلّه.. أعدني هناك أرجوك.. أخذته نوبة السعال حتى شرق بدموعه. و تساءل لماذا خرج في هذا الوقت بالذات و تساءل ماذا كان سيجني من رؤية البحر المتوسط وهو يغتسل بالمطر البارد. ولم ينتبه كثيرا لغضب السائق الشاب وشتائمه.. خف بكاؤه, أصبح ذهنه أكثر صفاء.. أدرك أنّه لم يكن يبكي خجلا.. كانت محاولة بائسة ليجعل السائق الشاب يقترب منه قليلا. يبتســم له قليلا و يربت على كتفه المنهكة.

و صمتا فجأة, تبادلا النظرات ثمّ خرجا من السيارة. وقفا تحت الفانوس المعلّق المبلل بالمطر. انتظر أكثر من نصف ساعة ولم تمر سيارة أجرة واحدة وسألهما مرتين شرطي حراسة عن سبب توقفهما بذلك المكان ثمّ فحص بارتياب أوراق السائق وسجل رقم بطاقته و نصحهما بانتظار القطار.

آلام ركبته تعجزه عن المشي السريع وخطوات رفيقه تتجاوزه في كلّ لحظة حتى وجد نفسه وحيدا وما معه غير عمره و الألم. و حين وصل إلى المحطة ألفى القطار وقد أمضى بعيدا في اتجاه تونس البحريّة.


تونس جوان 1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق