25‏/12‏/2014

بنت المحظوظة وابن الذين ..


بنت المحظوظة وابن الذين ..
يقول المثل الفرنسي لابدّ للاثنين من ثلاثة، ولكن ماذا يحدث عندما تمضي الثلاثة وتعقبها الأربعة وتوشك الخمسة أن تدخل إلى السياق؟ هنا لابدّ من تدخّل سريع وعاجل لتصحيح المسار ووضع الأمور في نصابها، لأن الكثير هو كثير حسب نفس معجم الأمثال سابق الذكر.
في المرة الأولى انعطفت يمينا وهي تجيب على رسالة الكترونية في هاتفها الجوال. كانت منشغلة للغاية في اختيار إيقونة تلاءم حالتها النفسية فاختارت سمايلي يحمل قلبا مكسورا. وفي نفس اللحظة التي ضغطت فيها على زر الإرسال ارتطمت سيارة الأجرة المسرعة والقادمة من ناحية الشمال بشجرة الصفصاف التي تزين جوانب الطريق.
كان السائق في طريقه إلى موعد مع فتاته التي تعهد بتعليمها فنّ القيادة وأشياء أخرى، وعندما أبصرها قبل خمسة أمتار حاول تفاديها، غير أن دمائه التي فارت من جبينه المفتوح ممتزجة بخليط غليظ من الدماغ كانت شاهدة على خطئه في التقدير، فقد كان ينعطف بسرعة لا يسمح بها القانون.
لم تسمع وقع الاصطدام، فقد كانت السماعات التي في أذنها تذيع أغنية أخاصمك آه... أسيبك لا" المرحة والراقصة لنانسي، ولم تهتم بالمارة الراكضين في الاتجاه المعاكس، لأنها كانت تردّ على رسائلها الفايسبوكية.
ليلتها غضب على جماعته، فعقد اجتماعا استثنائيا طارئا، وأعلن عن عدد من التراتيب الجديدة في طريقة العمل على الجميع الالتفاف حولها والالتزام بها.
في المرّة الثانية كانت أمام المصعد، أوشكت على ضغط الزرّ، فحبس الجميع أنفاسهم، غير أنها عدلت عن ذلك فقد تذكّرت أنها نسيت البطاقة الزرقاء "وفاء" التي تتيح لها التمتع بالتخفيضات المركز التجاري، فغيّرت رأيها بسرعة فائقة وخرجت من المبنى الكبير وقد قرّرت أن تذهب إلى سوق الملابس المستعملة، فقد تعثر هنالك على أشياء تناسب ذوقها وخاصة جيب طالبة مفلسة مثلها، لذلك حثّت الخطى بعد أن شغلت قائمة الأغاني وردّدت بمرح مع الشاب خالد أغنيته الحماسية "سي لافي" "إنها الحياة".
يمكنكم أن تتخيلوا ما يمكن أن يحدث عندما يتعطّل مصعد ما لمدّة ساعة والنصف بين الطابقين السابع والثامن، استعينوا بكلّ ما اختزنته ذاكرتكم من مشاهد لأفلام الإثارة الأمريكية، وأضيفوا إليه اختناق طفلة في السادسة من العمر تعاني من ربو مزمن وصياح أمها المذعور وهي تطرق الباب المعدني طلبا للنجدة، وإغماءة عجوز تعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري، والإحساس الفظيع لامرأة توقن أن الجميع سيموتون بسبب خيانتها لزوجها مع عشيقها الذي يرافقها الآن في هذا المستطيل المعدني، كما يمكن لخيالكم الخلاق أن يتصوّر قوّة الجاذبية المسلّطة على تلك الأجساد الهشة في طريقها السريع نحو الطابق الأرضي المتصل مباشرة بالعالم السفلي.
في الكومة الثالثة وجدت ضالتها، فستان أخضر اللون يناسب لون بشرتها الخمرية، قماشه حريري مائة بالمائة ويغسل يدويا بالصابون السائل والماء الفاتر، كان جميلا بأكمامه الطويلة، ضيقا عند الصدر وواسعا بداية من الخصر، لذلك أسرعت بدفع ثمنه، ضع نفسك مكانها، فستان بهذا القماش وهذه التفصيلة هو جوهرة نفيسة إذا قورن بسعره، لذا فكّرت بأنه عليها إيجاد حذاء وحقيبة مناسبين، مع بعض الإكسسوارات، دون أن تنسى وجوب تغيير تسريحة الشعر وتفتيحه، وهكذا قضت بقية يومها تتنقل من كومة ثياب مستعملة إلى أخرى تطير خفيفة جذلة كفراشة في الربيع.
في تلك الليلة غضب غضبا نادرا ما شعر به، وأعلن حالة الطوارئ، وأجرى عديد التحويرات، وطالب بقائمة في الأسماء، وأحال العديدين على مجالس التأنيب، وغيّر الفريق المكلّف بتنفيذ تعليماته.
في المرة الثالثة، بالكاد خرجت من عيادة طبيبة الأسنان، عندما لفحها النهار موحش البرودة، ودّت لو بقيت فترة أطول في قاعة الانتظار حيث التدفئة بالغاز الطبيعي، لكنها كانت على موعد مع صديقتها لتحتفل بتخلصها من حبيبها النذل والبخيل وقرب انتهائها من رسالة البحث، لذلك أحكمت لفّ الشال حول رقبتها وغطت أذنيها بالقبعة الصوفية، وذهبت مسرعة في اتجاه محطة الميترو الخفيف.
غادر الميترو المحطة، فلم ينتبه أحد من الركاب إلى الانفجار الذي وقع في العمارة البنية ذات الشبابيك الخشبية الزرقاء. مضت العربات الغاصّة بالراكبين في طريقها، وفي الساعة الثامنة مساء، أفردت هيئة تحرير نشرة الأنباء المسائية، بعد أن أضافت عبارة "ممنوع على أقل من 12 سنة"، أكثر من أربعة دقائق لعرض تقرير مصوّر حول الحادثة الناجمة عن انفجار أنبوب الغاز الطبيعي، وتوقفت عدسة التصوير عند أشلاء الطبيب، والمرضى في قاعة الانتظار، وسكان الشقق المجاورة، وحتى بعض المارة.
تابعت، كعادتها منذ أشهر وفي نفس التوقيت، مسلسلها الهندي المفضّل "سحر الأسمر" وهي تتساءل متى يتزوّج ساراس بكومود وتنتهي المسألة لتتمكن من متابعة مسلسل تركي عن سلطانة اسمها هيام يعرض على قناة فضائية أخرى في نفس الوقت، والتهمت بيتزا كبيرة كاملة بالفطر والزيتون احتفالا بقرب انتهائها من رسالة البحث، وبانتهاء أشغال الصيانة بفكّها الأسفل، وودّعت تلك المعاول المعدنية الدقيقة التي كان يحفر بها الطبيب داخل ضرسها فيسيل خيط اللعاب من جانب فمها دون أن تتمكن من كبحه.
في تلك الأثناء كان يشعر بالإحباط، ودّ لو يغرز أنيابه في الجدار فيتلاشى إلى هباء، ودّ لو يضرب الهواء بقبضة يده يحدث فيها شرحا لا يلتئم، لم يعد بوسعه التحمّل، فأطرد أغلب معاونيه وبقي يحاول أن يستعيد هدوئه، ثم قرّر أن ينزل بكلّ ثقله.
في المرة الرابعة، وبعد أن قضت جانبا من عطلتها مع عائلتها في قريتها، كانت على متن زورق صيد صغير في طريقها إلى جزيرة جالطة لتلتقط صورا عن التنوع البيولوجي، مستمتعة بنسمات الهواء اللطيفة تداعب شعرها الأشقر المصبوغ حديثا وبأغاني ستروماوي. وقبل أن يتوقّف الزورق تماما وينهي الصياد الذي رافقها ربطه بأحد الأوتاد قفزت مسلّحة بآلة تصوير شمسي ودفتر لأخذ البيانات وبكثير من الحماس، غير أنها لم تتمكّن من وضع قدميها على اليابسة، فقد قرصها عنكبوت ماء سام.
عندها التفت عزرائيل مبتسما إلى أعوانه المخلصين وهو يمسح غبارا وهميا عن كتف سترته قائلا: "هكذا يكون العمل النظيف المتقن.."
غير أنها وقفت وقطرات الماء تقطر من ثيابها، والتفتت إليه غاضبة وقد تحوّلت خصلات شعرها الناعم إلى أفاعي تتلوى وتفحّ سمّها في الهواء "أي عمل هذا الذي تتبجّح به أيها الأبله؟".
هنا توقّف الزمن هنيهة حسب توقيت الأرض وما جاورها في المجموعة الشمسية، وفرّ مرافقيه وتلاشوا مع الزبد، ومثلما يحدث في أغلب أفلام الرسوم المتحرّكة فقد حدجا بعضهما بعضا وقد ضاق بهما الكوكب بما رحب، وبدآ عراكهما الأبدي مستعملين العناصر الأربعة، ولم ينتبه أحد إلى الصياد الذي التوى شدقه وسال ريقه وتيبّس جسمه وهو يصارع سكرات الموت الأخيرة، ولم تكن اللعبة قد انتهت بعد.
روضة السالمي، تونس، 25 ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق