5‏/12‏/2014

تموجات الغروب الدامي

مالت الشمس بتدرّجات لونها الأحمر نحو الغروب. كنا نمشي في الطريق الطويل بمحاذاة السكّة الحديدية، عندما مرّ قربنا القطار، فأظهر انعكاس الضوء الدامي على زجاج النوافذ الموصد المسافرين وكأنهم الأشباح. واصلنا بعض الخطوات، ثم استندنا على حافة الجسر لنستريح.
بدا لي وجهه، بعينيه المحدّقتان في الفراغ، شاحبا أكثر من المعتاد، تأملته بحزن وكآبة وهو يمسك رأسه بيديه، فيما يسند ظهره المحني إلى خشب الجسر. فتح فمه، ولوهلة ضننت أنه سيصرخ، ولكنه أعاد بنبرة منهكة سرد حكايته للمرة المائة منذ أن التقيت به.
"كان الغروب يلوّن أسطح البنايات قبالتي بتموّجات من الأحمر الدامي، وخطر لي لوهلة أنها توشك على الوقوع في أي  لحظة لافظة أنفاسها الأخيرة".
 قال ذلك وهو يتلوى وجعا، وكنت أنظر صامتا عبر الجسر، فلم أعلّق على ما قاله، فقد كنت أعرف ذلك. ثم واصل مرتجفا:
"كنت أرتشف فنجان شاي عندما شعرت فجأة بضيق في صدري، وتزايد في دقّات قلبي، وانتابني إحساس غامض بالخوف والرهبة، وخيّل إليّ بأنني أسمع صرخة مدوّية تشقّ عنان السماء".
لم أشأ مقاطعته، وتلهيت بتأمّل قرص الشمس وهو يغوص تدريجيا في العتمة تاركا خلفه قطرات من اللون الأحمر، وواصل هو قائلا:
"تلفّت حولي مذعورا فلم أرى شيئا، غير أن خوفا غير مبرّر تملّكني، فنزّ مني عرق متخثّر، واقشعرّ جسمي، ووقف شعر رأسي، وسقط الفنجان من يدي، وتهيّأ لي بأنني أهذي أو أنها بوادر ذبحة صدرية مفاجئة".
كنت أسمعه وأنا أتأمّل الخطّ المتموّج للسكة الحديدية وهي تخترق المشهد الطبيعي وتدوس بمعدنها البارد على الأعشاب، فيما كان هو يواصل، غير مصدّق إلى الآن ما حدث معه في ذلك الغروب الدامي:
"حاولت أن أدخل إلى الغرفة، غير أنني فقدت توازني فسقطت، واصدم رأسي بالطاولة الخشبية، وسال دمي على أرضية الشرفة".
صمت قليلا يستجمع أنفاسه قبل أن يواصل بشجن:
"حاولت النهوض غير أنني لم أستطع وكان الغروب المصبوغ بدمي النازف هو آخر ما رأيت قبل أن يتوقّف قلبي عن الخفقان".
بطبعي لا أحبّ الدراما، ولذلك فقد حرصت على ألا أذكر له منذ أن تعارفنا بأنّ الصرخة التي سمعها إنما كانت صرختي عندما دهسني القطار ومزّقني إلى أشلاء.

روضة السالمي، تونس 5 ديسمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق