3‏/3‏/2015

جملة موقوتة



كنت أجلس في الحديقة، أتأمل زرقة السماء الصافية بعد أشهر من الغيم والعتمة. أخرجت شطيرة من حقيبتي، وأمسكت كتابا اصطحبني منذ أكثر من سنة، من دون أن أجد الوقت والجهد الكافيان للانتهاء منه.
لم يكن كتابا مملا. بل على العكس. كان مكتوبا بأسلوب راق، كلماته مفهومة، وأوصافه منصفة، لا هي طويلة ومعقّدة، ولا هي مقتضبة وسطحية.
والأهم من ذلك أنّ هذا الكتاب أهداه إلي صديق قديم التقيت به صدفة أمام مدخل مقهى اليمامة، عندما كنت - كبعض المتقاعدين مثلي - عاطلا عن أي اهتمام سوى ملاحقة الشمس في طريق شارع الحبيب بورقيبة المخضّر دوما بأشجاره الغنّاء.
وبما أنني كنت غير مشغول، فقد قبلت دعوته على فنجان من القهوة، وبعد أن أخذنا الحديث بعيدا عمّن بقي من رفاقنا من الأحياء ومن مات منهم، أبى إلا أن يترك لي هذا الكتاب. بل أصرّ أن يكتب عليه الإهداء التالي "لأنك دائما تنسى.. احرص على ألاّ تنساني..".
في الحقيقة لم أفرح كثيرا بالكتاب ولا بالإهداء. لسببين: أولا لأنني ببساطة لم أكن صديقا حميما له، صديق ربّما ولكن الأكيد لست صديقه الحميم بكلّ معنى الكلمة، كلّ ما في الأمر أننا كنا زملاء دراسة، وزملاء في وكالة الأسفار التي أفنيت فيها عمري، فيما سافر هو إلى بلجيكا حيث قضى جانبا كبيرا من حياته، وثانيا لماذا عليّ أن أذكره؟.
اكتفيت حينها بوضع الكتاب في حقيبتي. ومن يومها كلما وجدت متسعا من ضوء الشمس وصحو السماء إلا جلست على مقعد عمومي وأخرجته من مخبأه. فتصفّحته في غير رغبة حينا، وبشغف حينا آخر.
في الوقع أصبح هذا الكتاب جزءا من محتويات حقيبتي الجلدية المهلهلة التي رافقتني منذ أكثر من عشرين عاما، إلى جانب علبة أقراص الضغط، وبعض الأوراق والأقلام، وجريدة صفراء قديمة، ورد فيها خبر وفاة صديقي الذي أهداني الكتاب في حادث غرق.
ولا أدري على وجه التحديد لماذا احتفظت بها، ربما لأنني اعتقدت أنها تكمّل القصة. قصّة الكتاب، واللقاء العابر في مقهى اليمام في شارع الحبيب بورقيبة ذات يوم مشمس من خريف السنة الماضية.
وما إن أخرجت شطيرتي من الحقيبة، وكنت قد أعددتها منذ الصباح على طريقتي المفضّلة، ووضعت فيها ورقة خس واحدة، مع عجّة البيض المخفوق مع زيت الزيتون والبصل، وأمسكت الكتاب، حتى جلست بجواري أمّ محمّلة بأكياس المشتريات - فقد كنا في موسم التخفيضات - وكان يرافقها ابنها ذي الخمس سنوات.
أفسحت لهما مجالا على المقعد الخشبي الأخضر المدهون حديثا، وهممت بقضم شطيرتي، حين أخذ الطفل في التذمر.
كان يريد أن تشتري له أمه مثلجات. وكانت هي تريد أن تستريح قليلا. ولما أصرّ وانتابته أزمة بكاء حادة وصراخ مزعجة، نهضت الأم على مضض، وتردّدت قبل أن تطلب مني أن أحرس أكياس المشتريات إلى حين عودتها، ولم يكن محلّ المثلجات بعيدا.
كدت أن أقول لها بأنني موافق لولا أن ابنها أخبرها أنه لن يأتي معها وانه سيحرس هو المشتريات بنفسه.
ابتسمت في سري من نباهته. ذهبت الأمّ إلى محلّ المثلجات، فلم يكن بعيدا عن مقعدنا الخشبي. وما إن ابتعدت بضع خطوات وبدأت أنا بقضم شطيرتي حتى سألني:
-         ها.. إلى أين وصلت؟
فأجبته مستنكرا ومستغربا سؤاله:
-         في ماذا؟
فأجابني وهو ينظر إلى الكتاب:
-         أرى أنك لم تنه قراءته بعد.  
عدت لشطيرتي وأجبته غير مهتم:
-         لقد بدأته بالأمس.
فأمسك يدي التي فيها الشطيرة، مسكة كادت تقسم معصمي، وقال بصوت وكأنه خارج من حفرة عميقة:
-         ولكنك أخذته منذ أكثر من سنة
في تلك اللحظة لم أكن أدري هل تمكنت من ازدراد ريقي أم أنه سال على ذقني في خيط دافئ قسم لحيتي البيضاء نصفين متعادلين.
تمالكت نفسي - مستعيذا بالله في سري – وسألته متظاهرا برباطة الجأش:
-         وما أدراك متى أخذته؟
ترك يدي بنفس الطريقة المباغتة التي أمسكها بها، وقال بنفس الصوت المتهدّج وكأنه خارج من قبر:
-         لأنك دائما تنسى...
فأجبته وأنا أحاول التفكّه معه مداريا خوفي المتنامي داخلي:
-         هل تعتقد أن كلّ المتقدمين في السن مثلي ينسون؟
فنهض من مكانه على المقعد وواجهني بقامته القصيرة وعينيه البريئتين موجها سبابته نحوي وقال:
-         تعرف تماما عمّا أتكلّم، أنظر ما كتب في الإهداء.
ما إن نطق ذلك الطفل ذي السنوات الخمس تلك الجملة المشئومة حتى سقطت الشطيرة من يد، وسقط الكتاب من اليد الأخرى.
بدت لي الأرض وكأنها كانت تدور بسرعة قصوى ثم ضغطت فجأة مكابحها فارتطم كلّ من عليها واختلط حابلهم مع نابلهم.
وأحسست وكأن خرقا حدث في الزمن وأن الجسيمات الضئيلة التي تكوّن المادة أخذت تدور عكس اتجاهها.
لم أنتبه إلى أمّه التي عادت ومعها قرن مثلجات، غير أن صوتها كان حبل نجاة ألقي لغريق يائس.
-         واضح أنه أزعجك، هذا الطفل المشاغب.
قالت بصوتها المرح وكأنه قادم من كوكب لا ينتمي إلى النظام الشمسي.
أمسك الطفل قرن المثلجات. وككلّ طفل لعقه بشراهة واستمتاع. فيما واصلت الأم حديثها وهي تجمع أكياس مشترياتها:
-         آمل ألا يكون قد أزعجك بقصّته الغريبة.
فسألتها وقد عاد لي بعض توازني:
-         أيّ قصة؟
فأجابتني، فيما كنت أحدجه بنظري محاولا اختراق جسمه الضئيل بعيني، علني أفهم من أين له القوّة ليمسك بيدي فيكاد يقسمها، وكيف له أن يعرف ما كتب في الإهداء.
-         إنه يقول لكل من يريد أن يسمعه بأن اسمه الحقيقي جابر الزواوي، وأنه كان عميلا للمخابرات وتمت تصفيته بإغراقه في البحر.
كانت قد انتهت من جمع أشيائها، فيما كنت أتبعثر أنا مع أكياس أوراق أشجار شارع الحبيب بورقيبة التي بدت لي صفراء باهتة. استجمعت ما بقي لي من أشلاء صوت ودفعته خارج حنجرتي متسائلا:
-         وماذا أخبرك أيضا؟
فقالت مبتسمة:
-         يا لك من رجل طيب.. أنت الوحيد الذي أصغى إلى هذا الهراء.. حتى الطبيب النفسي الذي استشرناه لم يجد في حكايته ما يفيد.
فقاطعتها مستعجلا، فيما كان هو يقرمش قرن المثلجات بلذة ويرمقني بنظرة ثاقبة:
-         رجاء أكملي لي حكايته... ثم أضفت لأبرّر شدّة اهتمامي "إنها تصلح لأن تكون قصّة".
فأجابتني:
-         شكرا على اهتمامك، إنه يقول بأنه التقى صديقه أمام مقهى حين كان يحاول التخفي من الشرطة السرية التي كانت تلاحقه، وسلّم صديقه كتابا فيه رسالة مشفّرة لكي يتمكّن من إنقاذه وإنقاذ نفسه..
" إنقاذه وإنقاذ نفسه.." كنت أعيد هذه الكلمات فيما كانت هي تتحدّث عن مخاطر مشاهدة الأطفال لنشرة الأخبار والأفلام البوليسية، وإلا فمن أين لابنها مثل هذه العبارات.
ابتعدت بعد أن حيتني، وكان آخر ما رأيته رأسه الصغير الذي أداره نحوي، وإشارته بالإبهام والسبابة على شكل مسدّس وحركة شفتيه المبلّلتين باللعاب وهو يغني مع نانسي سيناترا " بانغ بانغ... حبيبي أطلق عليّ الرصاص ".
وأخبرني الطبيب ببدلته الخضراء بأنني كنت ملقى على الأرض أصارع نوبة قلبية حادة. وأضاف ضاحكا:
-         ما تزال لديك طلقة أخيرة.. أقصد أزمة أخيرة قبل تنتهي حياتك.
ثم استدار قبل أن يغادر الغرفة وسألني وهو يغمز بعينه:
-         ها.. إلى أين وصلت؟
لم أستطع الإجابة. فقد قضت هذه الجملة الموقوتة على آخر رمق لي في تلك الحياة المؤقتة.
روضة السالمي، تونس. فيفري 2015

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق